على الرغم من أن الصين هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا، فإن مكانتها تكاد تتضعضع بعد توجيه انتقادات لها بأنها تقدم قروضاً ومساعدات للقارة السمراء، لكنها في المقابل تستغل مواردها وتغرقها في "فخ الديون".
لم تغب الصين عن أفريقيا، إذ ظلت الدولة الأكثر فعالية واستمرارية منذ إطلاق مسيرة الإصلاح والانفتاح الصيني على الخارج التي قادها دينغ شياو بينغ في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وقبلها تأسست العلاقات على مبادئ مؤتمر باندونغ 1955 بين الدول الآسيوية والأفريقية القائمة على التعايش السلمي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وغيرها من المبادئ التي عُدت مناهضةً للاستعمار، ومتبعة نهجاً يتماشى مع مصالح هذه الدول من جهة أن التعاون معها مريح وغير مقلق ودون شروط سياسية، إضافة إلى انتفاء الرابط الأيديولوجي وتلاشيه لصالح المصالح المُشتركة.
وبعد أن مرت العلاقة بتعقيدات كثيرة بين الصين المتعطشة للموارد الطبيعية، لتحقيق التنمية لنحو 1.4 مليار نسمة، وهو ما يمثل أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة، مقابل تلبية متطلبات التنمية لنحو 1.3 مليار شخص هم سكان القارة الأفريقية، بدأت تجديد نشاطها عبر بوابة القرن الأفريقي من إريتريا، وذلك بزيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أسمرا في 4 يناير (كانون الثاني) الحالي.
هذه الزيارة إلى أسمرا هي محطة الدبلوماسي الصيني الأولى في جولة لثلاث دول أفريقية هي إريتريا وكينيا وجزر القمر، وتُعد زيارة وزير الخارجية الصيني لأفريقيا بداية كل عام، هي عبارة عن تقليد دبلوماسي واظبت عليه الصين منذ ثلاثة عقود.
تحالف إقليمي
كانت إريتريا في عزلة لسنوات عدة قبل المصالحة بينها وبين إثيوبيا في عام 2018، التي أنهت نحو عقدين من الحرب بين البلدين، ومنذ ذلك التاريخ بدأ تحالف إقليمي مقترح بين الصومال وإثيوبيا وإريتريا في التشكل، وتقارب بعد سنوات من العداء.
لم ينسَ الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، التأكيد لضيفه على التزامه مبدأ "الصين الواحدة"، وتقديم التهنئة للزائر الصيني بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، وإعلائه في كلمته من القيم الاشتراكية، و"حيوية النظام الاشتراكي"، وتكيفه مع الظروف لتحقيق التنمية. إن هذا المدح ينطوي من جهة أخرى على ذم للنظام الرأسمالي العالمي، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من موقعها الاستراتيجي، فإن إريتريا المنغلقة سياسياً على نفسها، وبعيدةً عن التواصل الخارجي لم تمثل جزءاً من المخاوف الجيوسياسية الغربية، وظلت مُهملةً من الغرب، ولم تظهر إلا بعد تدخل الصين واتخاذها إحدى محطات مبادرة الحزام والطريق بغرض الاستفادة من ميناءي مصوع وعصب.
وظل التواصل الدبلوماسي الصيني - الإريتري بلقاءات على مستوى وزيري خارجية البلدين في مايو (أيار) 2019، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بدأت الصين بناء طريق بطول 134 كيلومتراً، لتطوير البنية التحتية الإريترية.
هذا التعاون بين دولة الحزب الواحد التي يحكمها الرئيس الأول والأوحد لإريتريا منذ انفصالها عن إثيوبيا في 24 مايو (أيار) 1993، التي عدتها مجموعة البنك الدولي "واحدة من أقل الدول نمواً في العالم"، ليس غريباً على الصين التي تبني فرصها على اعتبارات خاصة، وتقتنص فرص العداء مع الغرب لخلق حالات من التقارب.
وبناءً على ما سماه الرئيسان الصيني والإريتري "الارتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى شراكة استراتيجية، فإن الصين ستقدم لإريتريا مساعدة مالية بقيمة 15.7 مليون دولار وغيرها من المشاريع.
تحدي واشنطن
عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إريتريا على إثر اتهامها بالتورط في حرب التيغراي إلى جانب الحكومة الإثيوبية، وضلوعها في ارتكاب عمليات اغتصاب ومذابح في المنطقة، إذ طلبت منها واشنطن سحب قواتها، عارضت الصين ذلك، مؤكدةً وقوفها معها ضد أي عقوبات أحادية على إريتريا.
كما تدعم بكين أسمرا ضد انتقادات واشنطن للأخيرة في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وقمع حرية التعبير والصحافة، فوفق "لجنة حماية الصحافيين" احتلت إريتريا المركز الأول في الرقابة على الصحافة، وذكرت أنه لا يُسمح إلا للإعلام الرسمي فقط بنشر الأخبار، كما صُنفت كأسوأ البلدان في حرية الصحافة لثماني سنوات متتالية، إضافة إلى القيود المفروضة على الحريات المدنية.
كما يتبع النظام سياسة التجنيد التي وصفتها المنظمات الحقوقية العالمية بالرق العسكري، وأدت إلى حملات لجوء واسعة من إريتريا باتجاه السودان وبعض الدول الأفريقية الأخرى للعبور إلى أوروبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع القمم
في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، انعقد في السنغال برئاسة وزير الخارجية الصيني وانغ يي المؤتمر الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي (فوكاك)، الذي أُسس منذ عقدين، وكان المؤتمر الوزاري السابع (قمة بكين) لمنتدى "فوكاك" قد انعقد في 2018، وتوقفت النشاطات بعده بسبب جائحة كورونا.
على هامش هذا المنتدى، أكدت بكين أنها ستنشئ مركزاً صينيا ً- أفريقياً، لتزويد المؤسسات المالية بخط ائتمان قيمته عشرة مليارات دولار. في هذا الوقت أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، من أبوجا عاصمة نيجيريا، اعتزام الرئيس بايدن عقد قمة أميركية - أفريقية، وجاءت جولة بلينكن الأفريقية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قبل وصول وزير الخارجية الصيني إلى إريتريا بنحو 10 أيام. ولم تخفت المخاوف الغربية، خصوصاً الأميركية، من ارتباط النشاط والنفوذ لثاني أكبر اقتصاد في العالم، في العقد الماضي بمشاريع مبادرة الحزام والطريق.
ومن أجل هذا المشروع تتجاهل بكين ديناميكيات الأزمات الداخلية لدول القارة، وتواصل استثماراتها في بلدان تعاني الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، من دون أن يؤثر ذلك في قدرتها على الاستمرار في الاستثمار، وذلك عكس الولايات المتحدة التي تشترط في تعاملها مع هذه الدول الحفاظ على القيم الليبرالية وحقوق الإنسان، ما جعل الدبلوماسية الصينية تتمدد على مساحة واسعة.
ربما تكون القمة الأميركية تأخرت، نسبة إلى تجاهل الإدارات الأميركية السابقة لأفريقيا، وحتى في إعلانها هذا ستدخل لمواجهة النفوذ الصيني في أفريقيا، وهو ضمن مواجهات أميركية للنفوذ الصيني في مسارح عدة. ومع ترسخ النفوذ الصيني في شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي، فإن غرب أفريقيا ستكون محط أنظار الولايات المتحدة، بينما ستتقاسم الدولتان النفوذ على شمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء.
وتظل هذه القسمة بين الحكومات الأفريقية والقوتين الدوليتين، أما الأفارقة فإنهم يرون أن دولهم تُستخدم كأدوات في هذه المنافسات الدولية، ودون اعتبار لهذا الرأي، فإن الحكومات ستمضي في تعزيز مكانة كل قوة دولية بناءً على ما تقدمه، وإن كانت الولايات المتحدة تقدم المسائل الأمنية ومكانتها الدولية والمحافظة على مصالحها الاستراتيجية، فإن الصين تذهب بعيداً في الاستثمارات وتحقيق المكاسب.
أمن البحر الأحمر
بدأ الانتباه إلى اهتمام الصين بإريتريا، عندما أنشأت بكين قاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2016 بمواجهة قاعدة أميركية هناك، ودخولها في مشاريع البنية التحتية الضخمة، مثل الموانئ والسكك الحديدية.
وعلى الرغم من تركيز بكين الإعلامي على الاستثمار مع إريتريا، ووجود بعض التعاون في مجالات الطاقة والصحة، فإن افتقار إريتريا إلى الموارد الطبيعية يرفع من احتمال العامل الاستراتيجي بعزم بكين على تأمين مواقعها في القارة من جهة البحر الأحمر وضمان دخول ميناءي مصوع وعصب في مبادرة الحزام والطريق، فوقعت مع إريتريا مذكرة تفاهم في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، ما يضمن لها منفذاً إلى البحر الأحمر وقناة السويس وصولاً إلى أوروبا.
وما يدعم من هذه الفرضية أن الصين كانت تنظر إلى إريتريا منذ وقت بعيد، فقد كان لها دور في دعمها عسكرياً في أواخر فترة حربها مع إثيوبيا المستمرة منذ 1961، وحتى استقلالها عنها في 29 مايو (أيار) 1991، وفي خلال حرب إريتريا الثانية مع إثيوبيا التي اندلعت في مايو 1998 واستمرت حتى مايو 2000.
وتطمح الصين في التخطيط إلى أن تصبح إريتريا مركزاً إقليمياً في شرق أفريقيا، متميزة على إثيوبيا الحبيسة جغرافياً. وقد يتجاوز هذا الطموح التبادلات الاقتصادية إلى التعاون العسكري، مما يؤثر على أمن البحر الأحمر والدول المطلة عليه، ويخلق تنافساً يؤدي إلى صراع بين القوى الدولية التي تتسابق إلى حجز مواطئ قدم لها.
استراتيجية التحكم
التقطت الصين استراتيجية التحكم الاقتصادي في مصائر الدول التي كانت أحد مكونات الدبلوماسية الأميركية منذ عهود طويلة، وانحرفت عنها باستخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة لتنظيم السياسة العالمية مع ما تعدها دولاً ديكتاتورية أو مارقة.
وحققت العقوبات الأميركية بعض النتائج، لكن أسهم طول أمدها في تكيف الدول معها والاستمرار باتخاذ شركاء تجاريين بديلين للولايات المتحدة، وهنا تبرز الصين كقوة دولية منقذة وبديلة. تحولت هذه الاستراتيجية إلى وسيلة عدائية في أفريقيا، مقابل ما تبذله الصين من مساعدات واستثمارات.
وبينما تجد الولايات المتحدة صعوبات مع بعض الدول في مساومتها على النزول إلى الأهداف المحددة عن طريق العقوبات، فإن الصين تسلك طريقاً أقصر، وهو يعتمد على "القوة الناعمة" والدبلوماسية الثقافية، فتمكنت من تحقيق أهدافها من دون أي مقاومة، ونجحت في توقيع صفقات تجارية واستثمارية، بعد توزيع المساعدات الخارجية لكسب الأصدقاء والتأثير في البلدان.
في غضون هذه السياسة، تدخل إريتريا كنموذج حي لتناقضات انخفاض القبول السياسي لبلدان القارة الأفريقية وتحقيقها أهدافاً عن طريق أدوات السياسة الخارجية للقوى الدولية الأخرى، مستفيدةً من حالات التنافس بينها.