في كل مرة تقصف إسرائيل مواقع إيرانية في سوريا، سواء في جنوبها، أو في شمالها، أو في مناطق أخرى في ريف دمشق، أو حلب، وحمص، ومحيط تدمر، أو منطقة البوكمال على الحدود السورية العراقية، تصدر تكهنات بأن استهداف تل أبيب مواقع تخزين أسلحة من قبل "حرس الثورة" الإيرانية، نجح في وقف عملية استيراد أسلحة من طهران إلى بلاد الشام.
ولا يلبث القصف التالي أن يثبت عدم صحة هذه التكهنات، مثلما برهن القصف الأخير لمرفأ اللاذقية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021 الماضي، لأنه جاء بعد عملية قصف مماثلة جرت في 7 ديسمبر. فالقصف الأخير للمرفأ دمّر حاويات قيل إنها تحتوي على قطع صواريخ وطائرات مسيّرة يستقدمها "الحرس" عن طريق البحر، لنشرها على الأراضي السورية.
استبدال طريق البر والجو بالبحر
ويعني ذلك، وفق مراقبين، أن إيران لا تيأس من تعزيز وجودها العسكري في سوريا على الرغم من الضربات الإسرائيلية، وهي تستخدم طريق البحر من أجل إدخال هذا النوع من المعدات والصواريخ بعد طريق الجو الذي كان يُكشف ويُستهدَف بعد تفريغ حمولة الطائرات، أو البر عبر العراق الذي كان يُكشف نتيجة معلومات استخباراتية دقيقة.
ولا يستبعد متابعون لتشابك خطوات الدول النافذة في سوريا، أن يتكرر قصف إسرائيل مرفأ اللاذقية إذا تمكنت استخباراتها من تحديد زمان إفراغ شحنة جديدة عن طريق البحر، لأن الطريق البحرية لتوريد الأسلحة والمعدات إلى سوريا صارت بديلاً لطريقَي الجو والبر.
آخر عمليات القصف كانت حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قصف، ليل الأربعاء الخامس من يناير (كانون الثاني) الحالي، بمدافع الدبابات، منطقة في جنوب سوريا تعتبرها تل أبيب "الجبهة الثانية" لنشاط "حزب الله" اللبناني على الحدود مع الجولان السوري. وأعلنت إسرائيل أنها رصدت تحركات على الحدود الإسرائيلية - السورية استناداً إلى استطلاعات الجيش داخل نقاط عسكرية. وأعلنت الوكالة السورية للأنباء "سانا"، أن القوات الإسرائيلية قصفت "بقذائف الدبابات خراج قرية الحرية بريف القنيطرة مع تحليق كثيف لطيران الاحتلال".
قرار سوري وإيراني بتجنب الرد على إسرائيل
ورجحت معلومات مصادر محايدة أن القصف الإسرائيلي طاول مقراً للجيش السوري فيه قاعدة صواريخ يوجد فيها أيضاً خبراء إيرانيون.
وسبق ذلك بيوم واحد قصف لمنطقة البوكمال والميادين، الذي لم يعلن عنه الإسرائيليون. وتردد أن قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة هي التي نفذته، رداً على قصف الميليشيات الموالية لإيران قاعدة عين الأسد في العراق وفي منطقة التنف الحدودية مع العراق... وجاء ذلك في الذكرى الثانية لمقتل قائد "قوة القدس" قاسم سليماني ونائب قائد "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، بمسيّرة أميركية عام 2020، والتي كرر القادة الإيرانيون خلال إحياء فعالياتها في عدد من الدول التي لديهم نفوذ فيها، بأنهم سينتقمون لتلك العملية. وترافق ذلك مع تحريض بعض المجموعات في محيط حقل العمر النفطي، شرق مدينة الميادين في منطقة دير الزور (شرق الفرات) على رجم دوريات أميركية بالحجارة قبل أيام.
مجمل هذه الضربات العسكرية الإسرائيلية يتجنب الجانبان السوري والإيراني الرد عليها منذ فترة. ويرى مراقبون أن القوات الموالية لإيران تقوم بالتحرش بالقوات الأميركية بدلاً من الرد على إسرائيل إثر استهداف مواقعها.
خشية من نية إسرائيل إفشال "فيينا"
وثمّة تفسير آخر بحسب تقدير الأوساط السورية في دمشق، كما ينقل عنها زوارها، أنها والقيادة الإيرانية تخشيان أن يكون هناك مخطط إسرائيلي من أجل جرّ سوريا وإيران إلى مواجهة عسكرية لأسباب تتعلق بوجود توجه لدى إسرائيل لإفشال محادثات فيينا إذا كانت تتجه نحو اتفاق على حسابها، فتفتح جبهة عسكرية في سوريا بعد استفزاز دمشق وطهران من أجل الرد على القصف الذي يستهدف قواتهما. وتشير هذه التقديرات إلى أن الجانب الإيراني أكد للجانب السوري عدم نيته فتح جبهة مع إسرائيل، انطلاقاً من جنوب سوريا، على الرغم من الضربات الموجعة التي يتلقيانها جرّاء القصف الإسرائيلي، فيما المسؤولون السوريون ليسوا بهذا الوارد من جهتهم. وترى الأوساط السورية نفسها بأن عدم الرد من قبل دمشق، ومن قبل الإيرانيين، هو رسالة بأن الجانبين لا يريدان تلك المواجهة. ويذهب التحليل السوري والمخاوف من أن تكون نية إسرائيل افتعال تلك المواجهة لأسباب تتعلق بمحادثات فيينا إلى حد التخوف من وجود مجموعات قد تكون مرتبطة بجهات خارجية قد تعمل على التسبب في تلك المواجهة، وسط شكوك دفعت الجانب السوري إلى التفتيش عن خلايا قد تلعب هذا الدور في بعض المناطق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحملة على التلكؤ الروسي تستفيد منها إيران
وتلفت الأوساط نفسها إلى أن تمادي القصف الإسرائيلي، لا سيما استهداف مرفأ اللاذقية، تسبب في ردة فعل سلبية في مناطق الساحل السوري، حيث يتمركز الوجود السكاني العلوي، ضد تلكؤ الجيش الروسي في استخدام دفاعاته الجوية إزاء الضربات الإسرائيلية، ما أطلق حملات واسعة ضد موسكو على مواقع التواصل الاجتماعي السورية، تهاجم روسيا وترفض تمنين السوريين من قبلها بأنها دافعت عن النظام وأنقذت سوريا من الإرهاب، وتعتبر أن روسيا عادت بقوة إلى الساحة الدولية لأن سوريا فتحت لها باب العودة إليها بقوة... وفي اعتقاد المراقبين أن تصاعد الانتقادات لسلوك الجانب الروسي حيال الضربات الإسرائيلية يساعد على مزيد من التقارب السوري مع إيران، التي قد يكون من مصلحتها ترك هذا الاتجاه يتفاعل أكثر فأكثر.
التوتير تغطية لتنازلات في المفاوضات
وفي وقت تصنف فيه قراءة بعض المراقبين التوتير العسكري، تارةً الإسرائيلي، وتارةً أخرى الأميركي، وثالثةً الإيراني، على أنه تغطية للمفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران في قنوات خلفية لا تقتصر على فيينا، وأنه تحييد للأنظار عن تنازلات سيقدمها الجانبان في الاتفاق الجديد على النووي، بالإيحاء أنه تم التوصل إليه تحت الضغط العسكري، فإن مراقبة دور إيران في سوريا تشير إلى أنها لا تهتم فقط للجانب العسكري من نفوذها في سوريا، بل إلى الجانب الاقتصادي والاستثماري. وعلى الرغم من أن هذه القراءة تخالف التوقعات بأن تتصاعد الضربات الإسرائيلية للوجود الإيراني في سوريا، وتشمل مخاوف من أن يتسبب أي تقدير خاطئ بحرب، فإن أصحاب هذه القراءة يشيرون إلى أن طهران واثقة من أن وجودها العسكري راسخ مهما تعرض للقصف الإسرائيلي، وأنها تلتفت منذ مدة إلى تعزيز وجودها الاقتصادي، مستفيدة من الضائقة الاقتصادية في بلاد الشام وعجز النظام عن مواجهة الأزمات الحياتية التي تواجه السوريين.
اطمئنان طهران للنفوذ العسكري واهتمام بالاستثمار
كثفت طهران في الأشهر الماضية، ولا سيما بعد انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً ليخلف حسن روحاني، إرسال الوفود من أجل مباحثات حول التعاون الاقتصادي مع دمشق، بموازاة نشاط الحرس الثوري على صعيد التغييرات الديموغرافية في عدد من المناطق، عن طريق إغراءات التشييع في بعض البلدات والمدن السنية، أو باستقدام عناصر من الميليشيات الأفغانية والباكستانية الشيعية لتوطينها في تلك المناطق.
في مطلع الصيف الماضي، زار رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف سوريا على رأس وفد اقتصادي كبير، وأجرى مباحثات لتمهيد الطريق أمام الصناعات الإيرانية وفتح السوق السورية أمام المنتجات ورجال الأعمال الإيرانيين، وإزالة الحواجز التجارية وحل مشاكل رجال الأعمال والتجار لاستغلال الإمكانات الاقتصادية لسوريا، ولإعادة إعمار سوريا. وجرى الإعداد لاتفاق اقتصادي شامل، بحسب الإعلام الإيراني في حينها.
وفي أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استقبلت سوريا وفداً اقتصادياً إيرانياً كبيراً برئاسة وزير الصناعة والمناجم والتجارة، رضا فاطمي أمين، الذي التقى كبار المسؤولين السوريين وشارك في افتتاح المعرض الإيراني التخصصي الذي انطلق في مدينة المعارض.
وكان سبق ذلك في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، والتقى رئيس النظام بشار الأسد، وجرى بحث في العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، ومن بينها التعاون الاقتصادي.
عروض شراء المعامل وعقاراتها
لكن الأهم أنه بالإضافة إلى اتفاقات التبادل التجاري، حيث السوق السورية عطشى لكثير من البضائع التي يمكن لطهران مدّها بها، فإنها أبدت اهتماماً بشراء مستثمرين إيرانيين للمصانع السورية المتعثرة التي غرقت بالديون، سواء يملكها القطاع الخاص، أو تعود ملكيتها للدولة، خصوصاً في ريف دمشق، إما نتيجة الأضرار التي أصابتها خلال الحرب، أو بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج والجمارك بعد زيادة رسومها، فضلاً عن صعوبات تأمين الطاقة وغلاء المحروقات وشحّها، وارتفاع رواتب اليد العاملة بعد انهيار سعر الصرف للعملة السورية. وهذه المعامل زارتها الوفود الإيرانية الاقتصادية، وخصوصاً المختصة بإنتاج النسيج. وهي تتوزع على مساحات واسعة، بحيث إن المنفعة العقارية للاستحواذ عليها تفوق قيمتها الاستثمارية الصناعية. كما أن الجانب الإيراني عرض إعادة إعمار منطقة القابون في دمشق التي تضم أبنية سكنية متضررة أو مهدمة، معروضة للبيع بأسعار رخيصة.