عندما وضع أمين معلوف قبل خوضه المدهش في الرواية التاريخية مجدداً في النوع، كتابه الكبير الأول "نظرات عربية إلى الحروب الصليبية" سائراً فيه على خطى المستشرق الإيطالي فرانشيسكو غابرييلي في كتابه الكبير، كان يعرف بالتأكيد أن كتابه سوف يحدث رجة ضخمة في النظرة الغربية إلى الحملات الصليبية، بل حتى قلبة أساسية في تلك النظرة، لكنه كان يعرف أنه كان لا يزال في حاجة إلى أن يصبح معروفاً تجتذب كتبه قراء من شتى البلدان والمشارب والأهواء، قبل أن يصبح كتابه مقنعاً لقوم اعتادوا النظر إلى تلك الحملات بتبجيل معتبرينها فردوسهم المفقود إسوة بــ"الديار المقدسة" التي انطلقت الحملات أصلاً لاستعادتها من "الكفار"، لكنه كان على الأرجح يعرف أقل من ذلك أن ثمة أصواتاً غربية وأوروبية عديدة سبقته في نظرته المنددة بتلك الحملات القائمة على التعصب والكراهية.
صدمة كاتب لقومه
ونعرف أن من أبرز تلك الأصوات كان صوت الكاتب الفرنسي مارسيل شووب الذي "صدم" الرأي العام في بلاده أواخر القرن التاسع عشر بكتاب أصدره ليأتي تلخيصاً لكل ما كان من شأن الحس السليم أن ينظر به إلى تلك الحملات. وكان الكتاب أشبه برواية تاريخية تنطلق من أحداث حقيقية كما سوف نرى بعد سطور. ولقد كان من قوة الكتاب وتأثيره أن مواطن شووب الكاتب الفرنسي المحافظ هنري بوردو وجد نفسه يرد عليه ولو مواربة في كتاب عن الموضوع نفسه، لكنه لم يصل في قوته إلى الكتاب الأول بخاصة أن كتاب شووب وجد من يحوله إلى "أوراتوريو" موسيقي غنائي نال حظاً كبيراً من النجاح حينها.
نص سوريالي ساخر
كتب مارسيل شووب عمله بعنوان، "حملة الأطفال الصليبية" في عام 1895، انطلاقاً من موضوع عاد وحاكاه فيه بعد ثلاثين عاماً، الكاتب هنري بوردو. ولكن فيما أتى نص مارسيل شووب غريباً سوريالياً ساخراً، جاء نص هنري بوردو أكثر واقعية وجدية ودرامية بكثير. وكان الفارق بين الكاتبين، يمثل الفارق بين عقليتين، ونظرتين إلى تلك الحروب، وما جرّته على البشرية من ويلات في حينه. وانطلق شووب في نصه، من الحملتين التاريخيتين الحقيقيتين اللتين حاول القيام بهما رهبان ومحرضون استخدموا فيهما أعداداً كبيرة من أطفال مسيحيين أوروبيين خلال القرن الثالث عشر. ومن المعروف تاريخياً أن أولى الحملتين انطلقت من فرنسا، لتنتهي بكارثة عند مرسيليا، فيما يذكر لنا التاريخ أن الحملة الثانية انطلقت من بلاد الفلاندر، وألمانيا لتعبر جبال الألب، وتركب السفن من مدينة جنوى الإيطالية منطلقة صوب الشرق. والأطفال الذين كانوا يُسألون في ذلك الزمن حين يلتقيهم الناس وهم في الطريق، إلى أين هم ذاهبون بثياب الحجيج والصلبان المعلقة من حول رقابهم؟ كانوا يقولون لمن يسألهم بثقة بالنفس وإيمان كبيرين،"إلى أورشليم لكي نحرر الديار المقدسة". ولكن التاريخ يقول لنا إنهم لم يصلوا إلى أورشليم أبداً.
حماسة أطفال أتقياء
وعدم الوصول إلى "أورشليم" هذا هو بالتحديد الموضوع الذي أراد شووب أن يعبر عنه: إخفاق الحملتين، على الرغم من كل الحماسة وكل الوعود. وهكذا نراه يبدأ نصه الذي سيحوله الموسيقي غابريال بييرتي 1863 - 1937 لاحقاً إلى "أوراتوريو" غنائي، ويضفي عليه بعداً روحياً لا ينتمي أصلاً إلى أفكار شووب العقلانية الباردة بأصوات غامضة غيبية تنادي أطفال واحدة من مدن الفلاندر، في عام 1212، بأن يفيقوا ويتوجهوا إلى الديار المقدسة. وهكذا يفيق الأطفال ويتجمعون آتين من كل حدب وصوب متعرفين إلى بعضهم بعضاً، إذ ارتدى كل واحد منهم مسوح الرهبان الحجيج وتقلد صليبه وغطى نظراته بإيمان عميق. وفيما يركض الأهل حزانى يائسين خلف أطفالهم محاولين ثنيهم عما يريدون فعله، لا يأبه الأطفال لتضرعات الأهل، يحمّسهم على ذلك "رهبان قساة" - وفق وصف شووب البديع - لا يهزهم، نحيب هؤلاء الأهل، ولا تردعهم أية رحمة أو شفقة عن إيراد الطفولة موارد هلاك محتم. وهكذا يتجمع الأطفال ومن بينهم ضرير، هو ذاك الفتى آلان الذي تقوده الصبية آليس متفرغة له. وبعد التجمع ينطلق الأطفال في حملتهم، قاطعين جبالاً وودياناً، أحياناً وسط البرد المريع، وأحياناً تحت شمس ربيعية جزلة. ولكن إذ يطول الطريق ويبدأ التعب سيطرته على الصغار، يبدأ شيء من الشك، في صواب ما يفعلون، يتسلل إلى قلوبهم. وهذا الشك يعبّر عن نفسه عبر حوارات وبعض تحريف للأغاني الحماسية، لا سيما في تبادل للعواطف والعبارات بين آلان الضرير ورفيقته آليس. وفجأة تتحول أغنيات الأطفال الحماسية إلى أناشيد تبريرية من الواضح أن مهمتها بعث نوع من الطمأنينة الكاذبة في أذهان الأطفال.
الوصول إلى البحر القاتل
وأخيراً، تصل قوافل الصغار إلى البحر بعد تعب ويتجمعون من جديد على سواحل جنوى، على البحر الأبيض المتوسط، هنا يكون لسان حالهم أنهم باتوا الآن حقاً في بداية الطريق الحقيقية، ويعود إليهم الأمل والحماسة... ولكن ليس لفترة طويلة. إذ إنهم ما إن يصعدون إلى السفن وتبدأ هذه بمخر مياه البحر نحو الهدف المنشود، حتى تهب عاصفة عاتية لا يعود لأحد أمامها حول أو طول. وبعد صراع هائل مع الأمواج تغرق سفينتان، فيما تصبح بقية سفن الحملة كلها عرضة للغرق. وهكذا يشعر المسؤولون أمام تلك الكارثة أنه لم يعد من المهم الآن سوى إنقاذ الأطفال، حتى ولو تمت التضحية بحلم الديار المقدسة. وإذ بات واضحاً أن الإنقاذ لن يمكنه أن يتم إلا بمعجزة، يتدخل هنا آلان الضرير، الذي يرى، هو، ما لا يراه الآخرون: معجزة السيد المسيح الذي يظهر، ليبعد الفاجعة عن الصغار... وليضع حداً بالتالي، لتلك الحملة الصليبية التي لم تكتمل... والتي ستعرف تاريخياً بكونها الأغرب والأقصر بين الحملات الصليبية كلها.
سجال وردّ وموسيقى
منذ كتب مارسيل شووب قطعته الشعرية/ الأسطورية هذه، ثار في وجهه سجال عنيف، خصوصاً أمام برودة وصفه للأحداث، وموضوعية تعامله التفسيري معها، وهو تعامل شاءه الكاتب أن يكون إنسانياً، ناقداً، يتساءل في نهاية الأمر حول جدوى الحروب، وحول حقيقة أبعادها الدينية (مذكّراً قراءه في شكل موارب بجان دارك والأصوات التي دعتها إلى الحرب ثم الفشل الذي كان لتدخلها، والثمن الغالي الذي دفعته)، هذه البرودة تتبدى في لحظات كثيرة، أقرب إلى السخرية من كل ما يحدث. هذا بالنسبة إلى النص الأدبي الشعري، أما بالنسبة إلى الأوراتوريو الغنائي الذي كتب ولُحن انطلاقاً منه لاحقاً، فإنه عاد وأصلح الأمور بعض الشيء، إذ إن النقل الموسيقي للعمل (كما أشرنا) جرده من حس السخرية ليدخله في شيء من الميتافيزيقية الروحية التي انتهى بها الأمر إلى أن ترضي المدافعين عن الحملات الصليبية. والحقيقة أن ذلك التعديل أتى في جزء منه على حساب أصوات مسلمين جعلها شووب تشغل الجزء الثامن والأخير من روايته، فإذا بالموسيقى تلغي كل ما له علاقة بالصوت المسلم الذي أراده شووب معادلاً للصوت الصليبي، محاولاً أن يفسر الحكاية من وجهة نظر أخرى. و"للتغطية" على ذلك النقصان تعمد ملحن الأوراتوريو غابريال بييرني إلغاء أربعة أجزاء من الحكاية مكتفياً بأن يشمل التلحين الموسيقي أربعة أجزاء فقط من أصل الثمانية، فاقتصر الإنشاد وموسيقاه على العناوين التالية: "الرحيل"، و"الدرب الطويلة"، و"الجدار"، وأخيراً "المخلص في العاصفة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دعاية مجانية غير متوقعة
غير أن ما حمل العزاء يومها إلى شووب وذلك قبل ثلاث سنوات من رحيله كان إدراكه أن النجاح الذي حققه الأوراتوريو حتى وإن كان جمهوره محدوداً، بدا في نهاية المطاف نوعاً من الدعاية لروايته (على قدم المساواة إلى جانب النجاح الكبير الذي حققه كتاب بوردو من موقع المتناقض معه، بخاصة أن بوردو كان أوسع شهرة من شووب بكثير، لا سيما في الأوساط الشعبية، ما وسّع من دائرة قراء "حملة الأطفال الصليبية" بشكل لم يكن متوقعاً). ناهيك بأن ذلك كله أعاد إلى الاهتمام العام تينك الحملتين المخفقتين، ما أعاد السجالات صاخبة من حول ماض كان كثر يعتقدونه قد دفن منذ زمن بعيد بكل يقينياته فنسيت خطاياه، فإذا بكتاب وأوراتوريو يطلعان من العدم ليقولا إن الحقائق لا يمكن أن تنسى! ولم يكن مارسيل شووب يأمل أكثر من ذلك للنص الذي كان يعتبره كتاب عمره.