سنوات طويلة مرت على قرار عام 1968 بضم فرقة المسرح الشعبي إلى المسرح القومي، والتي كان يديرها ويخرج عروضها الفنان عبد اللطيف فتحي (1986-1916) برفقة القصّاص الشعبي حكمت محسن. وقتها كانت فرقة المسرح الشعبي تقدم عروضها باللهجة العاميّة على مسرح القباني، فيما خُصِصت خشبة مسرح الحمراء لعروض المسرح الجاد باللغة العربية الفصحى. لكن هذا الوضع سرعان ما تغير بعد أن أسس سعد الله ونوس (1997-1941) المسرح التجريبي في سورية، وأداره بنفسه من مسرح القباني، مفتتحاً أول عروضه عام 1977 بمسرحية "يوميات مجنون" من إخراج فواز الساجر وتمثيل أسعد فضة.
اليوم يعود المسرح الشعبي في عرض "حكاية من بلدي" عن نص من تأليف جوان جان وإخراج سهيل عقلة، وأداء مجموعة من الممثلين على رأسهم النجمة صباح السالم وبسام دكاك وعبير بيطار وتاج الدين ضيف الله، إضافة إلى أنس الحاج وطلال محفوض وحمدي عقلة ومؤيد الملا. التجربة التي آثر كل من مخرجها وكاتبها أن تذهب نحو المزج بين الإطارين الواقعي والخيالي، تروي حكاية رجل يدعى حسن يستيقظ من نومه بعد مئتي عام، ليجد نفسه بطلاً من أبطال الثورة على الاحتلال العثماني، فيما كان هو ذاهباً لشراء الخبز لزوجته.
بعد 200 عام
هنا تبدأ مفارقات عدة مع هذا الشخص البسيط الذي يتلاعب فيه جميع الأطراف، لا سيما بعد أن يتم تجنيده من قبل قوات الأمن وتنظيم إرهابي متطرف، ليقوم بمهام خطرة خدمةً للوطن والدين في آن، مما يعقّد الالتباس الذي يعيشه الرجل الدمشقي، ويدفعه إلى خوض صراع لا علم له بمآلاته. فهو سيجد نفسه متورطاً كمُخبر لصالح الأمن، وعميلاً للتنظيم الإرهابي، ويتم إلباسه حزاماً ناسفاً للقيام بعملية انتحارية توصله بسرعة إلى الجنة. بين هذا وذاك يتوه حسن عن بيته وزوجته التي ما انفكت تبحث عنه بين زمنين، فهو في زمن مقاومة الاحتلال العثماني من الثوار الذين قادوا هجوماً على قطار حربي للعثمانيين، فأعطبوه وصادروا أسلحته ومؤنه، وهو في الزمن السوري الراهن عميل مزدوج للاستخبارات والتنظيمات المتطرفة.
محنة يعكسها العرض مُمهّداً بأغنية راقصة بعنوان "أوعى الزيت" من تأليف أيمن زرقان، وذلك تبعاً لتقاليد المسرح الشعبي ذي الطابع الاحتفالي، والتي اعتمدت هنا على المواويل والمأثورات من الأقوال الشعبية الساخرة، وأتت في العرض كوسيلة لجعل المتلقي طرفاً مشاركاً في الاحتفالية المسرحية. أسلوبية حددها النوع الفني الذي حاول المخرج من خلاله إبراز عناصر المسرح الشعبي، ولكن بعيداً من صيغة المسارح التجارية، بل باعتماد الأسلوب الشَرطي الذي يستخدم الحركة والإيحاء بالجسد، بدلاً من المناظر الطبيعية والديكورات ذات الصيغة الواقعية (كنان جود) بحيث شغلت كتلة كبيرة لقبضة يد عمق الخشبة، تتفتح أصابعها وتنقبض، تبعاً لتعاقب الحدث وتطوره على المسرح. فتارةً تكون بيتاً لحسن وزوجته، وتارةً مغارة يلجأ إليها الثوار، وتارةً سجناً يقف خلفه المتهم- البريء تجاه القضاء وأمام هيئة محلّفين، ذات طابع كاريكاتوري.
المسرح الشعبي
لجأ العرض إلى توحيد الأزياء لممثليه العشرة (راما فليون)، وهذا ما جاء منسجماً أيضاً مع طابع المسرح الشعبي، وتقليداً للجوقة في المسرح اليوناني القديم. فالملابس في مثل هذه النوعية من العروض لا تعتبر زينة للممثل، بقدر ما تكون وسيلة مساعدة، لها دور وظيفي في خلق التواصل الحي والعفوي بين المؤدي والجمهور، وأداة تلقائية للفضح والتعرية، من دون أن تُخل بالبنية الأساسية للعرض، أو أن تكون ذات طابع إيهامي كما في العروض الكلاسيكية التي تبالغ في رصانة الأزياء وإبراز جمالياتها.
وأسهمت الإضاءة (بسام حميدي) هي الأخرى في تحديد القالب الفني لعرض "حكاية من بلدي" من دون أن تفصل بين الصالة والخشبة كما هي الحال في العروض الكلاسيكية، بل كانت إضاءة رمزية توحي بالحالة التي أراد المخرج إبرازها، وأداة عملت على إشعار الجمهور بأنه يعيش احتفالاً من دون أن تغرقه في الظلام، وتفصله تماماً عما يدور أمامه. وذلك من أجل أن يكون المتلقي حاضر الذهن في اللعبة المسرحية التي تعتبره طرفاً جوهرياً فيها. وهذا ما بدا واضحاً في أداء الممثلين العشرة لأكثر من ستة وثلاثين نمطاً من الشخصيات، التي توزعت بين شخصيات القاضي ومساعده، والصحافية والفتاة، والجنود، ورجال الحارة، والزوجة والمحقق، وسواها من الشخصيات النمطية التي تبادل ممثلو العرض أداءها من غير التقيد بأداء شخصية واحدة، ما عدا شخصية حسن التي لعبها الفنان زهير بقاعي ببراعة على امتداد زمن العرض. وحاول تقديم أداء نوعي لحالة الإنسان السوري المقهور الذي تورط في صراعات لا تعنيه تحت شعارات وطنية ودينية، ليصبح بطلاً قومياً أو شهيداً في سبيل إعلاء كلمة الحق، بينما كان هو يبحث عن قوت يومه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مقولة لا شك أنها نبيلة وملحّة في تشريح واقع السوريين اليوم، لكن العرض ظل في صياغته الفنية هذه، متناقضاً مع فكرة الزمن المفتوح للأحداث، والتي امتدت على أكثر من ثلاثمئة عام. وهذا ما أصاب العرض بالترهل في مواضع منه، لا سيما مشاهد القاضي، ورغبته في استجداء الضحك والسخرية من محكمة صورية لحسن "المتمرد على قوانين الدولة العليّة"، إضافةً إلى التباين الواضح في مستوى أداء الممثلين، وضياعهم بين الفضاء الحر المفتوح للأحداث، وبين تحديد الزمان والمكان ضمن قاعة ذات أبعاد هندسية وقياسات معمارية كمسرح القباني. وهذا على عكس الفضاء الدائري الذي يعتبر الأكثر ملاءمة لمثل هذه العروض، لكونه يحطم الإيهام الذي تكرّسه الخشبة الإيطالية، ويُدخل المتلقي في اللعبة بلا فصل تعسفي بينه وبين الخشبة.
وعلى الرغم من ذلك أنهى عرض "حكاية من بلدي" الذي أنتجته "مديرية المسارح والموسيقى"، سنوات من القطيعة مع شرائح أوسع وأكثر تنوعاً من الجمهور، مستفيداً من مزايا "المسرح الفقير". المصطلح الذي أطلقه المسرحي البولندي بيجي غروتوفسكي (1933-1999) كرد على ضخامة عروض المسارح الرسمية، وإنجاز عروض تقتصد في الأزياء والديكورات، لصالح خطاب واقعي وبعيد من التعالي على الجمهور. هذا في الوقت الذي يتحفظ العديد من الممثلين السوريين الخوض في غمار هذه التجربة لتدني الأجور، وغياب الدعم الحقيقي للمسرحيين في البلاد التي تمر في أسوأ أزمة معيشية منذ اندلاع الأحداث فيها قبل نيف وعشر سنوات.