"وماله؟! أهلاً وسهلاً بهم! سيأكلون كما نأكل ويعيشون كما نعيش". "أستغفرك ربي وأتوب إليك. سألجأ إلى دار الإفتاء ليفتيني أهل العلم والدين في ما أفعل معهم". "العلم والبحوث تشير إلى احتمالات وجود حياة وكائنات في أماكن أخرى. قد لا نكون وحدنا من يعيش في الكون واكتشاف وجود كائنات أمر مثير. وبالطبع سيسبب بعضاً من القلق وربما الخوف".
تكهنات وردود فعل الأفراد حول احتمالات وجود كائنات أو مظاهر حياة في المدار تتراوح بين تبسيط الأمور لدرجة أن تأكل الكائنات الفضائية الفول والفلافل مثلها مثل بني الإنسان، أو تستوجب سؤال رجل دين عن قواعد التعامل والتصرف، أو تستدعي إعمال العقل حيث تقبل احتمالات وجودها والتفكير في ما قد يسفر عنه هذا الاحتمال.
استكشافات كونية غير مسبوقة
احتمالات كثيرة وأسئلة أكثر معلقة في الطبقات الخمس للتلسكوب الفضائي "جيمس ويب" المنطلق في طريقه لاستكشافات كونية غير مسبوقة؛ كل منها في حجم كرة المضرب استحوذت على اهتمام مليارات البشر حول العالم بينما كان يجري تمديدها على مدار الأيام القليلة الماضية مع عملية طي التلسكوب الضخم على نفسه لاستحالة وضعه داخل الصاروخ.
"مهمة جيمس ويب بالغة الخطورة"، بحسب ما وصفتها كوكبة علماء فضاء وكالة "ناسا" الأميركية. فالتلسكوب هو الأقوى والأغلى والأخطر. 10 مليارات دولار ليست بالكلفة البسيطة. وأضخم مرآة على الإطلاق وأكثرها حساسية لا يسهل تكرارها. ومهمة مسح الكون بحثاً عن الضوء المتدفق من النجوم والمجرات التي تشكلت قبل بضع ملايين من السنوات بعد الانفجار العظيم ليست ضمن المهام القابلة للاستنساخ أو الاستهانة.
الوضع يختلف قليلاً
لكن هذه المرة، يختلف الوضع قليلاً. منصات التواصل الاجتماعي أطلقت العنان لتكهنات مثيرة للاهتمام والضحك حيناً والتفكير أحياناً. فبينما حسام فاروق (28 سنة/ مهندس) يرى أن نجاح مهمة جيمس ويب في الانطلاق تؤهله لأن يكون الحدث الأهم في القرن الحالي، لا سيما أن إكمال مهمته بنجاح قد يحل ألغازاً تتعلق بالطاقة المظلمة ومعرفة المزيد عن نظرية الأكوان المتعددة، فإن الأستاذ حسين محمد (58 سنة/ موظف حكومي) يرى أن مسألة اكتشاف أكوان أخرى وربما كائنات غيرنا همّ إضافي ثقيل لسكان الأرض. يوضح أنه "إذا كانت دول العالم اليوم مثقلة بإيجاد ما يكفي لإطعام مليارات البشر ناهيك عن مصيبة كورونا، فكيف سيكون الوضع إذا ما وجدنا أنفسنا ملزمين بإطعام وتسكين كائنات أخرى غيرنا؟!".
لسبب ما غير معروف، تهيمن على أدمغة الكثيرين معضلة إطعام وعلاج وإسكان الكائنات الفضائية التي ربما يكشف عن وجودها "جيمس ويب". لكن ماذا لو كانت هذه الكائنات حال اكتشافها على القدر نفسه من ذكاء أهل الأرض أو أكثر منهم؟ السؤال نزل على رأس السيدة سهير علاء (62 سنة/ معلمة متقاعدة) كالصاعقة. قالت، "ستكون كارثة بكل تأكيد. سندخل في حرب وصراع إن لم يكن من أجل الموارد والخيرات، فمن أجل البقاء. ووقتها سيكون البقاء للأذكى".
وسواء كُتب البقاء للأذكى أو للأكثر حظاً في الصراع المتوقع بين سكان الأرض وغيرهم من سكان الكون حال وجدهم "جيمس ويب" في رحلته الحالية فإن ما يتابعه العالم هذه الأيام بإعجاب لا يخلو من قلق، سواء على مصير التلسكوب الضخم أو لما ستسفر عنه رحلته من اكتشافات وإجابات لأسئلة ربما سيفضل البعض لو كانت قد بقيت حبيسة الفضاء ومجرد فكرة في أفلام الخيال العلمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كوكب القردة
سلسلة أفلام الخيال العلمي "كوكب القردة" مستدعاة بشدة هذه الأيام. المهمة الاستطلاعية في الفضاء التي دفعت رائد الفضاء ليو ديفيدسون في عام 2029 إلى المرور من دون قصد من ثقب في الفضاء ليجد نفسه في عالم موازٍ في منظومة زمنية مغايرة حيث كوكب تحكمه القرود وتتخذ من البشر عبيداً لها حاضرة في أذهان العالمين بأمر "جيمس ويب" هذه الآونة. ماذا لو حكمت القردة بالفعل كوكبنا؟ وماذا لو اكتشف التلسكوب الضخم كائنات أقوى منا وتمكنت من الهيمنة على كوكبنا أو التحكم في مصيره في الكون؟ وماذا لو أفلتنا من قبضتها، لكنها أصرت على مطاردتنا وأصبح سكان الأرض مجموعة من المتمردين الذين يحاولون الانقلاب على حكم القردة كما حدث في "كوكب القردة"؟!
أسئلة كثيرة يراها البعض شديدة المنطقية ويعتبرها الآخر خيالات وأوهاماً. لكن طرحها هذه الأيام تحديداً بينما العالم يترقب وصول "جيمس ويب" إلى وجهته النهائية محتدم. ويبدو أن القنوات الفضائية المتخصصة في بث الأفلام السينمائية، لا سيما الأجنبية، تواكب الأنظار المتعلقة بالتلسكوب وما قد يسفر عنه من فك ألغاز وتقديم إجابات، فتمعن في بث أفلام الخيال العلمي وتحديداً الفضائي حيث كائنات عنيفة وأخرى مخيفة وثالثة تدخل مع البشر في منافسات حامية.
توهج عام
وبين توهج الاهتمام بما يجري على متن "جيمس ويب" وبين فكرة ما يوجد في الكون من كائنات ومظاهر حياة ومصادر طاقة توهج آخر عبرت عنه إحدى عالمات وكالة "ناسا" ميشيل ثالر أثناء بث مباشر وعرض ثلاثي الأبعاد لفتح مرآة التلسكوب الضخمة. قالت ثالر، "أشعر بهذا النوع من التوهج في صدري الآن وأنا أرى تلك المرآة وقد فُتِحت". المرآة الممتدة بطول 6.5 متر بحجم ملعب التنس مهمتها التقاط ضوء الأشعة تحت الحمراء من أعماق الفراغ الخارجي. مهام كثيرة ملقاة على عاتق "جيمس ويب"، منها فحص تكوين الغلاف الجوي للكواكب وهو ما يساعد في البحث عن كواكب تشبه الأرض وربما فيها حياة. كما يقوم التلسكوب بمسح طيف من الضوء غير المرئي للعين البشرية، بهدف الكشف عن علامات النجوم والمجرات الأولى التي تشكلت بعد "الانفجار العظيم".
ما إن يذكر "الانفجار العظيم" حتى يهرع البعض للقراءة عنه ويكتفي الآخر بالاعتقاد أنه انفجار ما حدث في وقت ما في مكان ما دون تكبد عناء البحث عنه. ويظل هناك فريق يلجأ إلى رجال الدين لمعرفة إن كان يجدر بهم تصديق "الانفجار العظيم" أم اعتباره فكراً شيطانياً أو توجهاً لا دينياً يجب اجتنابه.
الدين والانفجار
قبل سنوات قليلة، تلقى مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء علي جمعة سؤالاً من طالبة في الصف الثالث الإعدادي قالت فيه إنها تدرس "الانفجار العظيم" في المدرسة وكيف أن نقطة ما في الكون انفجرت قبل مليارات السنوات ونشأ عنها هذا الكون. جمعة خصص جلسة نقاشية للرد على السؤال وتم توثيقها على صفحته على "فيسبوك". ويبدو أن "جيمس ويب" فتح شهية البعض للبحث عن موقف الدين مما يجري في الفضاء وما قد ينتج منه من معرفة المزيد عن الانفجار العظيم أو وجود كائنات سواء كانت قردة أو غيرها.
رد جمعة على عدم اقتناع طالبة الإعدادية بنظرية "الانفجار العظيم" غذا المزيد من عدم الاقتناع وفتح أبواب التشكيك فيها وفي غيرها من المناهج الفكرية والعلمية المعتنقة في دول فتحت أبواب استكشاف الفضاء على مصاريعها. ملخص ما قاله يشير إلى أن الإسلام ينص على "أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق آدم وأن الإسلام أمد المسلمين بالإجابات متمثلة في (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) أي التكليف". وأضاف "لكن العلماء بدأوا يبحثون في بداية الخلق وغيرها ليحصلوا على إجابة سؤال من أين جئنا؟ وهذا دفعهم للخروج بنظريات مثل أن الكون كله كان موجوداً في صورة نقطة مركزة وأن هذه النقطة انفجرت الانفجار العظيم فتكونت منها مادة دارت حول ذاتها من شدة الانفجار فكونت هذه الكائنات". وأشار إلى أن "الانفجار العظيم لا ينكر وجود الله، لكنه لا يسعى إلى إثباته أيضاً، وأن الخلاف بين المسلم وغير المسلم يكمن في صفات الله، فنحن نرى أن له صفاتاً كمالاً وجلالاً وغيرها لكنهم (علماء الغرب) لا يرون ذلك، فهم يرون أن من فجر الكون شيء لا نعرفه".
وأوضح جمعة بنبرة رافضة إلى من يحاولون الإجابة عن أسئلة الكون والوجود عن طريق النظريات العلمية، فيقول "ظهر من يؤلف في النهايات فألف أحدهم نهاية التاريخ ونهاية الحضارة ونهاية العالم وغيرها، لأنه يحاول أن يجيب عن هذه الأسئلة النهائية التي هي عند المسلمين تسمى الأسئلة الكبرى والمجاب عنها في القرآن الكريم". وأنهى موقفه المتداول بكثرة هذه الآونة بين الباحثين عما يجري في الفضاء على هامش "جيمس ويب" بقوله "السؤال المهم هو من فجره (الانفجار العظيم) وليس كيف أو متى تفجر؟".
أسبوعان وملايين الكيلومترات
متى يصل "جيمس ويب" إلى محطته النهائية؟ بعد نحو أسبوعين وتحديداً يوم 23 من يناير الجاري بحسب تقدير علماء "ناسا". فقد انطلق قبل أيام قليلة من غايانا الفرنسية وحالياً يبعد عن الأرض بنحو 900 ألف كيلومتر، أي أربعة أضعاف المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر وتبلغ المسافة الكلية لرحلته نحو 1.5 مليون كيلومتر.
رحم الله جيمس ويب الذي يحمل التلسكوب الأكبر اسمه، بعدما رحل عن عالمنا في 27 مارس (آذار) عام 1992 بعد أعوام طويلة من العمل في خدمة بحوث الفضاء بالولايات المتحدة الأميركية حيث آمن بأن البحث في الفضاء ودور العلم في تقديم إجابات أكبر من مجرد برنامج سياسي لرئيس أو واجب علمي لمركز. وأدار وكالة الفضاء الأميركية بين عامي 1961 و1968. وهناك قناعة أميركية بأنه قدم للعلم والبحث والعقل النقدي الذي لا يقبل بالمسلمات أكثر مما قدمته الحكومات كلها مجتمعة.
حب العلم والسياسة
المفاجأة هي أن ويب لم يكن عالم فضاء أو دارساً لعلوم الكون، بل درس القانون وعمل بالسياسة لكنه آمن إيماناً مطلقاً بأهمية العلم في البحث والتنقيب عن الكون وما فيه وعوالمه الغامضة. ونجح نجاحاً مبهراً في تسخير السياسة وتهيئة الرأي العام لدعم مسيرة "أبولو" التي خصصت وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" موارد ضخمة لها وحققت نجاحاً لا على الصعيد العلمي والفضائي فقط، بل على صعيد الحرب الباردة والمنافسة الشرسة مع الاتحاد السوفياتي السابق وبرنامجه الفضائي.
على إحدى صفحات "فيسبوك" المخصصة للمناقشات الثقافية بين مجموعة من الأصدقاء والصديقات من محبي العلم والثقافة من دول عربية عدة طرح أحدهم سؤال عن أهمية "جيمس ويب" والدور الكبير المتوقع أن يلعبه وتغيير ما نعرفه عن الكون. وأرفق بسؤاله مقطعاً عن الدور المتوقع لـ"جيمس ويب" مكملاً مسيرة "هابل". حيث "سيمكن الأول البشرية من رؤية جزء من الكون لا نستطيع رؤيته من خلال تليسكوب خارق آخر هو (هابل) والذي عمل لمدة ثلاثة عقود أمدنا خلالها بحقائق مهمة عن الكون، بينها الصورة الشهيرة لمنطقة الغبار والأبخرة الكونية المعروفة باسم (أعمدة الخلق)، فضلاً عن صور نحو 10 آلاف مجرة أطلق عليها اسم "مجال هابل شديد العمق". يأتي ويب ليرينا الكون من خلال الأشعة تحت الحمراء، ويلتقط الضوء الذي لا تراه العين البشرية.
الكون المعلوم المجهول
وبينما الأصدقاء والصديقات يتناقشون ويتحاورون حول سباق الدول الكبرى في الفضاء، وإمكانات الكون غير المكتشفة بعد، والفروق بين دول العالمين الأول والثالث وما بينها في مجال علوم الفضاء إذ بتعليق من أحدهم يحمل سؤالاً استنكارياً عن جدوى مليارات الدولارات المهدرة هذه في بحوث لا تطعم شعوباً جائعة أو تشفي مرضى غير قادرين على العلاج أو توفر سقفاً يستر عائلات لديها ثمانية وتسعة وعشرة أطفال لا تملك قوت يومها. وذيل استنكاره بـ"الأجدر إعطاء هذه المليارات لمن يحتاجها في الكون المعروف وليس إهدارها في الكون المجهول".
وبين الكون المعروف ونظيره المجهول، تدور دوائر بحث عن لقمة عيش هنا وبحث فضائي هناك، وأسئلة وحكايات وقوائم أولويات تكشف الكثير مما يدور في دهاليز الكون المعروف، وتكهنات وتوقعات حول ما يمكن أن يحدث في حال اكتشف "جيمس ويب" وجود كائنات أخرى غير البشر قد تنافسهم في لقمة عيشهم أو تفوقهم في رحلة بحثهم أو تدفع بعضهم إلى المزيد من دفن رؤوس قلة المعرفة في الرمال المتحركة.