يتواصل تراجع الدينار التونسي مقارنةً بالدولار والعملات الأخرى. وكشف مؤشر البنك المركزي التونسي عن تجاوز سعر صرف الدولار 2.9 دينار تونسي. ولم تتمكن العملة المحلية من مواجهة هذا الانخفاض الملحوظ الذي بدت بوادره منذ الصيف الماضي. ويستقر سعر الدينار التونسي عند 3.27 مقابل اليورو. وينبئ نسق السقوط الذي شهده الدينار منذ 2021 بالتهاوي بحكم عدم تسجيل التعافي المنشود. ويمثل ذلك مرآة لنقص الطلب على العملة المحلية ومخزون العملة الأجنبية بحكم هبوط حجم مواردها وتدنّي الاستثمار الداخلي والاستثمارات الخارجية، إضافة إلى سوء أداء عائدات السياحة. وفي حين يرى خبراء أن الدينار التونسي يسجل استقراراً نسبياً، منذ عامين على الرغم من التراجع المسجل، إذ لا تنذر وضعيته بالانهيار نظراً إلى السياسة النقدية المتوازنة للبنك المركزي، يؤكد آخرون أن العملة الوطنية تسير نحو هبوط تاريخي كنتيجة حتمية لخمول الاقتصاد الوطني ومناخ عدم الثقة المحيط به.
مسار سلبي
وانطلق المسار السلبي للعملة الوطنية منذ 2011، بعد أن كان سعرها لا يتجاوز 1.33 دينار مقابل الدولار في يناير (كانون الثاني) 2010 وتراجع إلى 1.51 دينار في مارس (آذار) 2012، ثم إلى 1.66 دينار في ديسمبر (كانون الأول) 2013، وصولاً إلى 1.72 دينار في يوليو (تموز) 2014، ليأخذ منحى خطيراً منذ عام 2015، إذ تهاوى إلى 1.93 دينار في فبراير (شباط)، ثم 2.2 دينار في أغسطس (آب) 2016، و2.42 دينار في يوليو 2017، ليصل إلى السعر الأدنى التاريخي وهو 3.02 دينار في أبريل (نيسان) 2019، ما مثل دافعاً للمخاوف الحالية باقترابه من هذا السقف، وهو 2.901 في الوقت الراهن، وفق المؤشرات المالية للبنك المركزي التونسي.
انزلاق حاد
وعمّقت الأزمة الصحية انخفاض الاستثمار الخارجي وفتور الاستهلاك، المسجلَين خلال الأعوام الماضية. وتراجعت نسبة الاستثمار إلى 13 في المئة من الناتج القومي الإجمالي عام 2020.
كما انحدرت نيات الاستثمار في المشاريع، التي تتجاوز تكلفتها 15 مليون دينار (5.17 مليون دولار)، بنسبة 20 في المئة خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2021، وفق الهيئة التونسية للاستثمار (حكومية).
وسجلت قيمة الاستثمارات الدولية المتدفقة على تونس خلال النصف الأول من 2021 نقصاً بنسبة 7.4 في المئة لتبلغ 8 .945 مليون دينار (326.1 مليون دولار) مقابل 1.02 مليار دينار (351 مليون دولار) في الفترة ذاتها من 2020.
وبلغت العائدات السياحية حتى 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 1.97 مليار دينار (679 مليون دولار)، مقارنة بـ1.86 مليار دينار (641 مليون دولار) عام 2020 بزيادة 6.1 في المئة مقابل 5.4 مليار دينار (1.86 مليار دولار) عام 2019 بنسبة تراجع تفوق 50 في المئة.
وأسهمت هذه العوامل في نقص مخزون العملات، ما انعكس مباشرة على سعر العملة المحلية. ويبلغ حجم الموجودات الصافية من العملة الأجنبية 23.3 مليار دينار (8.03 مليار دولار)، ما يساوي 134 يوم توريد في الوقت الراهن.
متطلبات السوق
ويرى محمد سويلم، المدير العام السابق للسياسة النقدية في البنك المركزي التونسي أنه "من غير الدقيق الحديث عن انهيار العملة. لكن بالنظر إلى سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية نلاحظ تراجعاً بقيمة 0.3 في المئة مقارنة بصيف 2021 تجاه الدولار، فيما استقر سعر الدينار تجاه اليورو، علماً أن عام 2019 شهد أدنى سعر مقابل الدولار الأميركي بـ3.02 دينار. لكن، تمكّنت العملة التونسية من الحفاظ على استقرار نسبي، وتراوح سعرها بين 2.7 و2.8 دينار مقابل الدولار طوال الأعوام التي تلت 2019. وهي الفترة التي لم يسجل فيها الانحدار الحاد الذي شهدته في الأعوام التي سبقتها. وفقد الدينار التونسي 52 في المئة من قيمته في الفترة الفاصلة بين 2010 و2018 مقابل الدولار الأميركي، و44 في المئة من قيمته مقابل اليورو من 1.92 دينار عام 2010 إلى 3.43 عام 2018 وصولاً إلى 3.27 حالياً. وخسر الدينار 46 في المئة من قيمته مقابل الدرهم المغربي، من 1.7 لعشرة دراهم عام 2010 إلى 3.09 دينار لعشرة دراهم عام 2021.
وهي نتيجة حتمية للاختلالات الحاصلة في سلم المدفوعات. وقد أدى انفلات الدينار إلى ارتفاع التضخم، إذ أنهت تونس عام 2021 بنسبة 6.6 في المئة، ما انعكس مباشرة على مستوى الدين الخارجي بحكم أن أكثر من 60 في المئة من الدين العام يتم سداده بالعملات الأجنبية.
حصة تونس من السوق الأوروبية
ولم تجنِ البلاد فوائد تذكر من تراجع العملة، في حال كان ذلك تخفيضاً مقصوداً للدفع إلى الرفع من تنافسية السلع التونسية في الأسواق العالمية، بحيث لم يتحسن الميزان التجاري وحصص السوق لديها، خصوصاً مع الاتحاد الأوروبي الشريك الأول. وهوت حصة تونس في السوق الأوروبية من 0.60 عام 2010 إلى 0.50 عام 2020، مروراً بـ0.58 عام 2011 و0.54 في 2012 في نسق تنازلي مخيف مقارنة بالبلدان المنافسة وأهمها المغرب التي رفعت من حصتها لدى السوق الأوروبية من 0.50 عام 2010 إلى 0.89 عام 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتخضع تونس لضغوط من جانب المانحين بهدف تعويم الدينار من أجل تصحيح الإخلالات في ميزان المدفوعات. ويتمثل ذلك في إخضاع سعر الصرف لآليات السوق، ومنها العرض والطلب. لكن يؤدي ذلك آلياً إلى تهاوي العملة المحلية، لأن الطلب على العملة الأجنبية يفوق العرض في سوق الصرف التونسية. في حين أن عرض الدينار التونسي يفوق الطلب، ما أدى إلى انخفاض سعر الصرف. ويتأثر سعر الصرف بعوامل عدة أهمها التوقعات الاستباقية للسوق market expectations.
بناء على ذلك، يُضطر البنك المركزي التونسي إلى تغطية عجز العملات، بعرض جزء من الاحتياطي لديه من العملة الصعبة على البنوك لخلق جزء من التوازن وتفادي تصاعد التضخم.
وإجمالاً، لم تجنِ تونس من تراجع الدينار غير انهيار عملتها الوطنية والصعود الكبير للتضخم وانتفاخ الدين.
موارد العملة
وذهب الاقتصادي جمال بن جميع إلى القول إن "الخمول الذي أصاب الاقتصاد التونسي أدى إلى نقص حاد في احتياطي العملة الصعبة، وإلى انفلات العملة الوطنية. وهي مرشحة للتهاوي في المستقبل وبلوغ مستويات قياسية بحسب المعطيات الآنية. ويعود ذلك إلى نسق الاستيراد المتصاعد وغير المدروس، مقابل ضعف المؤسسات التونسية بفعل الأزمة المالية الحادة وعدم قدرتها على المنافسة وتراجع حجم الصادرات، بالتالي مداخيل العملة الصعبة، إضافة إلى ركود الاستثمار الداخلي وتراجع حجم المشاريع العمومية بل انعدامها في الأعوام الماضية. وقد تعمق العجز بفعل الأزمة الصحية التي تسببت في ضآلة موارد السياحة".
ورأى بن جميع أن "الحكومات المتعاقبة لم تنجح في التأسيس للـإصلاحات اللازمة لتقليص هذا العجز في موارد العملات. وفشلت في تكريس سياسة حمائية أضحت ضرورية، وترشيد الاستيراد ومعاضدة المنتجات التونسية وتمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة الكفيلة بدفع الإنتاج والتصدير وخلق موارد للعملة، بالتالي تحقيق التوازن المنشود في السوق المالية، ما يحسن وضعية العملة الوطنية".