برحيل الشاعر نور الدين صمود (1932-2022) يفقد الشعر الستيني في تونس آخر شعرائه الكبار الذين فتحوا القصيدة التونسية على آفاق تعبيرية جديدة، وضخوا جذعها اليابس بماء الفكر والروح.
فمنذ رحيل الشابي ظل الشعر التونسي يتردد بين قديم لا يريد أن يختفي تماماً، وجديد لم يتمكن من الهيمنة على الساحة الشعرية هيمنة كاملة. ثمة في هذا الشعر قصائد بقيت مشدودة إلى التراث الشعري تسترفد أصوله وتعيد إنتاج عناصره. وثمة قصائد ثانية أرادت أن تواصل مشروع الشابي فأرهفت السمع للحظة التاريخية، وسعت إلى تأسيس شكل جديد من الكتابة. وتعد الستينيات منعطفاً مهماً في تاريخ الأدب التونسي، إذ أقدم عدد من الشعراء على استئناف مشروع الشابي، مستأنسين بالخطاب الشعري الحديث الذي ظهر في المشرق العربي.
ويعد نور الدين صمود من أهم شعراء هذا الجيل، جيل الستينيات، الذي حاول اجتراح أسئلة شعرية جديدة، وعمل على تأسيس قصيدة مختلفة في زمن كان فيه عبء التقاليد ثقيلاً، وسطوة التراث قوية. لهذا كانت القصائد التي كتبها صمود، في تلك المرحلة، تنطوي على ضرب من الصراع بين لغة تجيء من الماضي وتريد أن تستمر في الحاضر، ولغة ثانية تريد أن تنبثق من الحاضر وتمضي في اتجاه المستقبل. اللغة الأولى كانت تستعيد أنموذجاً للكتابة قائماً في الذاكرة، اكتسب من أثر تكرار بعد تكرار، شرعية فنية وجمالية، أما اللغة الثانية فقد عدلت عن السنن الشعرية السائدة ومضت تكتشف ذرى تعبيرية جديدة.
ترجمة الأحاسيس
أحب أن أخلع على التيار الذي انتمى إليه الشاعر، في المرحلة الأولى من حياته الأدبية، مصطلح "الرومنطيقية الجديدة"، حيث الشعر تعبير عن الانفعالات والمشاعر، أو إذا أردنا الدقة قلنا إنه "ترجمة" يتم بمقتضاها نقل الأحاسيس من وجود داخلي، غامض، مشوش إلى وجود خارجي واضح جلي يتحكم فيه نظام دقيق هو نظام اللغة. وعبارة الترجمة تشير، في هذا السياق إلى أن الشعر هو في المقام الأول، انتقال من لغة إلى أخرى، اللغة الأولى هي لغة المشاعر والأحاسيس، أما اللغة الثانية فهي لغة الكلام والإيقاع. ويترتب على ذلك أن الشعر ليس الانفعال فحسب، وإنما هو طريقة مخصوصة في التعبير عن ذلك الانفعال. ولما كان الانفعال حالة ذاتية، أو إذا استخدمنا عبارات شعراء هذه المرحلة، لقلنا وجب أن يكون الشعر قادراً على الإعلان عن "تفرده وتميزه".
كل الشعراء الذين ضمهم هذا التيار ومن أهمهم جعفر ماجد ونور الدين صمود وأحمد اللغماني وزبيدة بشير، ظلوا على صلة وثقى بالقصيدة التقليدية يستحضرون أساليبها ومراسم إنشادها. لكنهم، سعوا في الوقت ذاته إلى التطلع إلى أفق لغوي وإيقاعي جديد، مستأنسين بتجارب نزار قباني وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور.
يلاحظ أن الشعر لدى شعراء الستينيات يثوي عميقاً وبعيداً في مطاوي النفس، يغذيه حنين إلى زمن آفل أو شوق إلى زمن آت. ولما كانت الذات هي وطن الشعر وبيته فإن القصيدة تحولت، لدى هؤلاء الشعراء إلى لحظة بوح واعتراف، الكلمات فيها تستمد من هذا الوطن القصي شحنتها العاطفية وقوتها الدلالية.
الإيقاع التقليدي
يظل نور الدين صمود أكثر شعراء الستينيات افتتاناً بالإيقاع التقليدي، فمعظم قصائده معقودة بالقوافي جارية على بحور الخليل. ثمة إصرار من الشاعر على إعادة الاعتبار للقصيدة التقليدية وعلى إعادة بعثها من رمادها. فالمسألة تتجاوز التنويع في أساليب الأداء وطرائق الإيقاع إلى ضرب من الاعتقاد الراسخ في "جمالية "البنية الإيقاعية التقليدية التي يراها نابعة من جوهر اللغة العربية ومن أعماق تراثها.
والواقع أن الشاعر بدأ في مرحلة أولى من حياته الأدبية منفتحاً على القصيدة الحديثة، يسترفد بمنجزاتها اللغوية والأسلوبية، بل وجدناه صادماً في بعض نصوصه الأولى، لكنه مال في مرحلة ثانية إلى القصيدة التقليدية يعيد إنتاج خصائصها البيانية القديمة ولعل قصيدته "غرامك ينمو بقلبي" تنهض خير مثال على ذلك. فقد قامت هذه القصيدة على أحد المحسنات البديعية اللفظية، وهو رد العجز على الصدر، ويعرف هذا الزخرف البلاغي على أنه وقوع أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين في أول البيت واللفظ الآخر في آخره. وبذلك يستطيع القارىء إكمال البيت بالاعتماد على ما توحي به الكلمة المناسبة في الصدر، وقد أجرى الشاعر هذه القصيدة على قافية الواو، وهي من القوافي النادرة في مدونة الشعر التقليدي
سلوت وقد كنت لي سلوة فأرهقني منك ذاك السلو
سموت بحبك حتى غدوت بجو السماء وزاد السمو
وأرسيت بين الضلوع هواك وما أتعب القلب ذاك الرسو
وربما كان جنوح الشاعر إلى المضامين التقليدية مثل الغزل والوصف والتغني بالطبيعة، من الأسباب المباشرة في استدعاء هذه البنية الإيقاعية التقليدية. وهذه المضامين ظلت ثابتة في مجاميعه الشعرية لا تكاد تختفي حتى تعاود الظهور من جديد تؤكد ذلك هيمنة القصائد العمودية على إنتاجه الشعري عامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يلتفت صمود إلى التجارب الشعرية الجديدة التي بدأت تحتفي بقصيدة النثر، وتدعو إلى التنكب عن الإيقاع التقليدي. وأبرز تلك التجارب هي تجربة في غير العمودي والحر التي هجر شعراؤها عروض الخليل بمختلف تطبيقاته (عمودي، موشح، حر...)، وراحوا يستنبطون أو يزعمون استنباط الشكل الإيقاعي الأشكَل بدهرهم، والملائم لكل قصيدة على حدة. ففيما كان هؤلاء يحاورون الشعراء الغربيين مثل اليوت وستويل واراغون، كان صمود يحاور المتنبي والمعري والبحتري. فهو ينتمي إلى سلالة شعرية أخرى وإلى تاريخ فني وأدبي مختلف. فصمود لم يكن في مرحلته الشعرية الثانية يعيش هاجس الحداثة، وإنما كان يعيش هاجس استمرار التراث.
لكن على الرغم من كل ذلك، نريد أن نؤكد أن نص صمود وإن غرف من التراث أهم عناصره الدلالية والإيقاعية، فإنه جاء مضمخاً بماء التجربة، تجربة الشاعر وهو يرهف السمع لإيقاع الحياة من حوله. وقد لا نبالغ إذا قلنا إننا نستطيع أن نقرأ سيرة الرجل من خلال قصائده، وأن نقرأ مختلف المراحل الفكرية والشعرية التي مر بها. فشعره يشف عن شخصيته ويكشف عن تاريخها. هذا الإيقاع الذاتي هو الذي جعل شعر صمود يتميز بغنائية لافتة.
ترك الراحل عدداً كبيراً من الأعمال من أهمها، في مجال الشعر "رحلة في العبير" و"أغنيات عربية" و"نور على نور"... وفي مجال النقد "دراسات في نقد الشعر" و"زخارف عربية" و" الطبري ومباحثه اللغوية" و"تأثير القرآن في شعر المخضرمين"، وفي مجال أدب الأطفال "طيور وزهور" و"حديقة الحيوان".