يرتبط البحر الأحمر ارتباطاً جدلياً وروحياً بمجموعة الشعوب التي تعيش على جانبيه، فكانت مياهه وما زالت والعابرون فوقها جزءاً من أساطيرهم وعاداتهم وتقاليدهم. تلك المياه المجهولة المخيفة أحياناً، والمقدسة أحياناً أخرى، كانت وما زالت بالنسبة لمصر خاصرتها الشرقية، والرحلة الواجبة لأرض الجذور ولجلب البخور من أرض "البونت" الجنوبية. فيما كانت سبيل اليمنيين يمخرون عبابه للوصول إلى الأهل في "بورت سودان" و"عصب" والأراضي المقدسة عبر ميناء "جدة"، أو للوصول إلى مصر "أم الدنيا". وكانت مياهه ناقلة لأول جماعة من المسلمين انطلقت لتحتمي بنجاشي الحبشة، "الملك الذي لا يُظلَم عنده أحد".
في ضفتيه استقر رحال العشائر من الجانبين الشرقي والغربي، فاستوطن أهل الجزيرة العربية أرض الكنانة والسودان وإريتريا والصومال، وانتقلنا نحن اليمنيين شمالاً، وشرقاً وغرباً إلى أوطان صارت أوطاننا، فيما عادت بعض العشائر الحميمة من البر الأفريقي إلى البر الآسيوي والعود أحمد.
البحر الأحمر، أو بحر القلزم، كما كان العرب يطلقون على هذا المجرى المائي الذي زادت أهميته الاستراتيجية بعد فتح قناة السويس في 1869، الذي يربطه من الشمال بالبحر المتوسط، فيما يربطه مضيق باب المندب بالمحيط الهندي جنوباً، تكوَّن عبر ملايين السنين من مجموعة من الصدوع والانكسارات التي باعدت وما زالت تباعد بين آسيا وأفريقيا ضمن ما يعرف جيولوجياً بالصدع السوري الأفريقي العظيم، الذي يمتد من وادي البقاع في لبنان بطول سبعة آلاف كيلومتر إلى موزمبيق في جنوب شرق أفريقيا.
وفي واقع الحال، إن غالبية الدول صاحبة المصلحة في شؤون البحر الأحمر هي دول عربية، باستثناء دولة إريتريا التي تربطنا معها وشائج تاريخية وثقافية وعرقية، وهي عضو مراقب في جامعة الدول العربية، ودولة إسرائيل التي تشكل حضوراً لا يمكن تجاهله في المنطقة، لكنها غير مرحب بها من حيث إنها ما زالت لا ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع كثير من الدول العربية، لعدم التقدم في مسار حل القضية الفلسطينية وفق مبادرة السلام العربية التي قدّمتها المملكة العربية السعودية في ضوء قرارات الشرعية الدولية بالصدد.
ويُبرِز علم الأعراق البشرية (الأثنولوجيا) حقيقة أن الدول على جانبي البحر الأحمر ما هي إلا "كتلة ثقافية واحدة متجاورة". ومن هنا، فإنه لا ينبغي النظر إلى المجرى المائي باعتباره حداً فاصلاً بين قارتين. فاليمن وشمال الصومال وجنوب إريتريا وجيبوتي يرتبطون بموروث ولغة مشتركة.
وفي التاريخ القديم، حكمت مملكة سبأ في "اكسوم" الواقعة في إريتريا اليوم. خلال الصراع في اليمن بين الملكية والجمهورية في ستينيات القرن الماضي قدمت مصر قوافل الشهداء لحماية اليمن. وقدم الخبراء المصريون والسودانيون دعماً تقنياً مهماً لتطوير دول الخليج في المراحل الأولى لبناء الدولة الخليجية الحديثة.
وفي الماضي أسهمت الدول العربية في دعم ثورة التحرر الإريترية خلال 70 - 1980، فيما صارت عصب الإريترية مرتكزاً لتحرير عدن من الميليشيات الحوثية في أغسطس (آب) 2015.
ونظراً للأهمية الجيواستراتيجية للبحر الأحمر، باعتباره أهم ممرات الربط البحري في العالم، فإن البلدان المطلة على البحر الأحمر اكتسبت أهمية استراتيجية على الصعيد العالمي والإقليمي. وبحكم كون البحر الأحمر طريقاً بحرياً استراتيجياً تمر من خلاله 60 في المئة من احتياجات النفط والغاز الأوروبية، ونحو 25 في المئة من الاحتياجات الأميركية من البترول الخليجي. كما أن بيانات التجارة الدولية تشير إلى أن ما قيمته 2.5 تريليون دولار سنوياً من السلع والبضائع تمر عبر البحر الأحمر، أي ما يعادل 13 في المئة من مجموع التجارة الدولية.
ويرتبط البحر الأحمر بالأمن القومي العربي من جهة، وبأمن القرن الأفريقي من جهة أخرى، وتزداد أهمية هذا المجرى المائي لعلاقته بالفضاء الحيوي المتصل بالأراضي المقدسة الإسلامية ومنابع النيل وروافده ومناطق إنتاج النفط.
ومن هنا، فقد أصبح البحر الأحمر وخليج عدن منطقة جذب للقوى الدولية الكبرى، وجزءاً مهماً ضمن مناطق النفوذ في الاستراتيجية العالمية، خصوصاً خلال العقدين الأخيرين بعد انتشار ظاهرة القرصنة البحرية في شواطئ الصومال، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى مباشرة "عملية أتلانتا" لمكافحة القرصنة. كما أسهم انتشار ظاهرة الإرهاب وبروز الصراعات الداخلية في بعض الدول، في تحفيز الدول الكبرى للسعي لإيجاد موطئ قدم دائم لها في المنطقة.
فإضافة إلى الوجود العسكري التقليدي للمرحلة ما بعد الاستعمارية، الذي مثلته القاعدة العسكرية البحرية والجوية للقوات الفرنسية في جيبوتي، تزايد هناك خلال السنوات الأخيرة انتشار القواعد العسكرية الأميركية واليابانية والإيطالية، إضافة إلى وحدات ألمانية وإسبانية ضمن القاعدة العسكرية الفرنسية.
فيما بات ملحوظاً الوجود العسكري المتزايد وغير المسبوق في التاريخ للصين التي حصلت على حقوق انتفاع في 23.5 في المئة من ميناء جيبوتي، وتشير التقارير العسكرية إلى أن الصين تقوم ببناء أكبر منطقة تجارة حرة في أفريقيا ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، معززة بقاعدة عسكرية مهمة.
وفي عصب الإريترية، فإلى جانب ما كان قد أُشيع في الماضي عن وجود مركز تنصت عسكري إسرائيلي، يستضيف الميناء الإريتري قاعدة عسكرية لوجيستية لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي كان لها إسهام كبير في عمليات القوات الإماراتية ضمن قيادة التحالف في جنوب اليمن، كما أشارت تقارير صحافية إلى تطلع الإمارات لبناء قاعدة عسكرية في ميناء بربرة في أرض الصومال الواقعة في خليج عدن، إلا أن السلطات هناك ألغت العقد في بداية 2020.
ويزيد الوضع تعقيداً الوجود العسكري الروسي في ميناء بورت سودان، بناءً على اتفاق جرى التوقيع عليه بين البلدين في 2017، والتواجد التركي من خلال تطوير ميناء وجزيرة سواكن السودانية التي كانت في ما مضى مركزاً عسكرياً بحرياً متقدماً للإمبراطورية العثمانية في البحر الأحمر، إضافة إلى وجود تركيا النشط في الصومال، إلا أن السلطات التركية تنفي أي انتشار عسكري لها في سواكن، وتؤكد أنها تطور منتجعاً سياحياً هناك، وأنها حصلت على حق الانتفاع في المنطقة لفترة 99 عاماً.
لقد شكل الوجود العسكري الأجنبي في منطقة جنوب البحر الأحمر وخليج عدن تحدياً عسكرياً استراتيجياً لدول المنطقة وثقافتها وقيمها، ما دفع هذه الدول إلى اتخاذ المبادرات والخطوات لإبعاد منطقتهم عن كل أشكال الاستقطاب الدولي، والسعي للقضاء على أي أطماع تهدد أمن دول المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت أبرز التحديات التي شهدتها السنوات العشر الأخيرة زيادة النشاط الإيراني المزعزع للأمن والاستقرار في جنوب البحر الأحمر، حيث توجد لطهران مصفاة في ميناء عصب الإريتري، وحامية من الحرس الثوري تعمل على مدار الساعة على نشر الفوضى والإرهاب في جنوب البحر الأحمر عبر دعم ميليشياتها في اليمن، للاعتداء على الملاحة الدولية بدعم مباشر عملياتي واستخباراتي ولوجيستي منها.
ولهذا الغرض، قام الحرس الثوري الإيراني بتشغيل سفينة "سافيز" المتخصصة بعمليات المراقبة وجمع المعلومات الاستخبارية في الممر المائي الدولي قبالة السواحل اليمنية جنوب البحر الأحمر، لتقديم المساعدة الاستخباراتية للحوثيين، لتمكينهم من تلغيم المجرى الملاحي الدولي، والاعتداء على السفن التجارية عبر العبوات الناسفة، واستخدام القوارب المتفجرة السريعة.
وقد تعرضت "سافيز" لعمل تخريبي عبر لغم لاصق في أبريل (نيسان) 2021، واستبدلتها إيران في أغسطس2021 بسفينة "بهشاد" للغرض ذاته، وهي تصر على أن جهودها في جنوب البحر الأحمر تصب في مكافحة القرصنة وتوفير الأمن البحري، وهو في واقع الحال اختراق صارخ للقانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة.
كما قام الحوثيون خلال السنوات الماضية انطلاقاً من الحديدة، بإطلاق النار ومهاجمة 13 سفينة شحن، واختطاف ثلاث سفن تجارية، وإرغامها على الرسو في مناطق سيطرتها في الحديدة والصليف.
وكان آخر عمليات القرصنة هذه قيامها باختطاف سفينة الشحن التجارية "روابي" التي ترفع العلم الإماراتي في 3 يناير (كانون الثاني) الجاري في الممر الملاحي الدولي قبالة سواحل الصليف واحتجاز بحارتها الـ11 حتى اللحظة، في تصعيد خطير.
لقد شهدت المنطقة جهوداً متواصلة للبحث عن أنجع الأطر الدبلوماسية لمواجهة المخاطر وتحييد دولها من حالات الاستقطاب الدولي، وحماية حركة التجارة والملاحة الدولية وتعزيز القدرات الأمنية والعسكرية للدول وزيادة التعاون في ما بينها، للاستفادة المثلى من الثروات التي تتواجد في الممر المائي الاستراتيجي وأعماقه لصالح نماء وازدهار دول المنطقة.
في العام 1974 أطلقت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، البرنامج الإقليمي لحماية بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، وجرى خلال السنوات اللاحقة التوقيع على العهد الإقليمي للحفاظ على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن في 1982، وقد عملت مصر بالتعاون مع جامعة الدول العربية على تطوير آليات العمل في هذا الإطار.
وضمن تجارب تطوير التعاون الإقليمي تأتي "مدونة جيبوتي لقواعد السلوك" التي جرى اعتمادها من قبل المنظمة البحرية الدولية في 2008، بهدف مكافحة القرصنة والسطو المسلح الذي استهدف السفن في منطقة غرب المحيط الهندي وخليج عدن قبالة السواحل الصومالية.
وفي يناير 2017 اعتمدت المنظمة البحرية الدولية "تعديل جدة لمدونة جيبوتي لقواعد السلوك" الذي وسع التفويض ليشمل الأنشطة البحرية غير المشروعة، بما في ذلك الاتجار بالبشر والصيد غير المشروع وغير المبلغ عنه وغير المنظم.
وحيال التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة والتعقيدات المتزايدة في شؤون البحر الأحمر وخليج عدن ومخاطرها على الأمن الإقليمي واستقرار الملاحة الدولية، قامت دول المنطقة بالتوافق مع المبادرة التي رعتها بحكمة السعودية، بإنشاء تجمع إقليمي يجمع الدول ذات المصلحة، وبعد مشاورات ولقاءات متواصلة استمرت قرابة العامين جرى في يناير 2020 التوقيع على ميثاق تأسيس مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن بمشاركة وزراء خارجية كل من السعودية ومصر والسودان وجيبوتي والصومال وإريتريا واليمن والأردن.
وحدد الميثاق أهدافه العامة برفع مستوى التعاون في المجالات الأمنية والاقتصادية والروابط التجارية والاستثمارية وحماية البيئة والموارد المائية وتنسيق المواقف السياسية في المحافل الإقليمية والدولية لخدمة مصالح الدول الأعضاء، وحماية التجارة العالمية وحركة الملاحة الدولية.
وبهذه الخطوة، تؤكد دول المنطقة رغبتها في صياغة استراتيجيتها الخاصة، لحماية أمنها المشترك وتوفير الحماية للممر المائي والاستفادة منه ومن موارده لصالح جميع الشعوب المطلة عليه، بخاصة أن الاستراتيجيات المتوفرة بخصوص البحر الأحمر صاغتها أطراف من خارج النطاق الإقليمي، مثل أميركا وروسيا واليابان وهولندا وفرنسا وألمانيا والدنمارك، وهي استراتيجيات تعكس بشكل واضح مصالح تلك الدول التي صاغتها دون الأخذ بالاعتبار مشكلات وأولويات ومصالح دولنا في المنطقة.
وخلال عملية صياغة رؤيتنا في المنطقة لاستراتيجية البحر الأحمر وخليج عدن، يمكننا التعاون مع كافة الأطر والهيئات الدولية بما يتفق مع احتياجاتنا للتعاون الدولي. فإضافة إلى تطوير المراكز الأمنية والدبلوماسية والعلمية والبحثية والاستثمارية المشتركة لحماية المنطقة، وتطوير قدرة دولها وقواتها البحرية وخفر السواحل على حماية مجالها الحيوي، تحديداً تنفيذ الالتزامات الدولية المنصوص عليها في القانون الدولي وقانون البحار لمكافحة استخدام الملاحة الدولية لنقل المواد المحظورة والمواد غير التقليدية ومكافحة الإرهاب العابر والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية والإشعاعية وغير التقليدية، مثل تلك الممارسات التي تحرض عليها إيران في جنوب البحر الأحمر، بما في ذلك تنفيذ قرارات مجلس الأمن، التي تؤكد عدم امتثال طهران لحظر توريد الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن.
وبالنسبة إلينا في اليمن يشكل التعاون المشترك لدعم عمليات التحالف لاستكمال طرد الميليشيات الحوثية من ساحل البحر الأحمر أهم الخطوات التي تتفق معنا حولها كل الدول الموقعة على الميثاق لضمان أمن منطقة جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، وزيادة قدرة القوات البحرية اليمنية وقوات خفر السواحل لحماية الممر الملاحي بالتعاون مع قوات التحالف.
لقد أثبتت تجربة السنوات الماضية منذ توقيع اتفاق ستوكهولم حول موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، فشل الاتفاق في إنجاز المهمة المركزية التي نص عليها في عودة مؤسسات الدولة إلى الحديدة وخروج الميليشيات منها. كما فشلت جهود الأمم المتحدة في وقف اعتداءات إيران وميلشياتها المستمرة على الملاحة الدولية جنوب البحر الأحمر.
فلم يعد من جدوى لوجود بعثة الأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ اتفاق الحديدة، الذي يعتبر قرار إنشائها في حكم اللاغي قانوناً. وفي واقع الحال فإن بعثة الحديدة لم تعمل في الأساس على الرغم من ميزانيتها السنوية التي تصل إلى 45 مليون دولار، ولم تتمكن من رفع التقارير عن استخدام الميليشيات الحوثية للموانئ المدنية في الحديدة والصليف ورأس عيسى كقواعد عسكرية لإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة والزوارق المفخخة والألغام البحرية أمام مرأى ومسمع المراقبين الدوليين.
ومن هنا، فإن الوضع يتطلب إفساح المجال لاستعادة سيطرة الدولة على المنطقة، واستعادة الأمن والاستقرار والحماية للممر الملاحي الدولي الاستراتيجي، وقطع دابر الوجود الإيراني الذي يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي.
إن اتخاذ مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر الخطوات الضرورية لاستعادة الأمن والأمان لشعوبنا يشكل مدخلاً لتطوير أشمل لجوانب العيش المشترك والمصير الواحد ولعودة الروح "للكتلة الثقافية الواحدة المتجاورة" بين جانبي البحر الأحمر، ويزيد تعميق دفء علاقة تمتد لآلاف السنين.