فازت تحفة ستيفن سبيلبرغ، "قصة الحي الغربي"، بثلاث من جوائز الـ"غولدن غلوب" التي لم تحظَ هذا العام بأي تغطية إعلامية وأي اهتمام شعبي، واقتصر الإعلان عن الفائزين بنشرة إنترنتية، وذلك بعد التعتيم العام عليها إثر دعوة هوليوود بمقاطعة تلك الجوائز التي اتهمت بالفساد، على الرغم أن القائمين عليها، وعدوا بإجراء إصلاحات جذرية. أياً يكن، وسواء أكان الغضب على الـ"غولدن غلوب" مبالغاً فيه أو لا، فلا يمكن إلا الإشادة بخيار المصوتين الذين أكدوا أنهم أصحاب ذوق رفيع، عبر إسنادهم جائزة أفضل فيلم غير درامي لعام 2021 لـ"قصة الحي الغربي". والحق أن الفيلم بحاجة إلى مساندة ودعم كاللذين نالهما، بعد الفشل الجماهيري الذريع الذي تعرض له، ليتحول على أثره إلى أحد أفلام سبيلبرغ القليلة التي رفضها الجمهور وتجاهلها في حين أثنى عليها النقاد. لم يجمع الفيلم حتى الآن سوى 50 مليون دولار، أي نصف المبلغ الذي كلفه. في المقابل، نال إلى الساعة ما يقارب الـ30 جائزة عالمية.
يميل الواحد منا إلى الاعتقاد أن الفشل الشعبي الذي يتمثل في الإيرادات الكارثية التي حققها الفيلم، لا يعني الكثير بالنسبة لعملاق السينما الأميركية سبيلبرغ. هو الذي أصبح على مشارف الثمانين من العمر، وصاحب ثروة مالية ضخمة تتجاوز الـ3 مليارات دولار تجعله ثاني أغنى سينمائي في العالم (الأول هو جورج لوكاس). لم يبقَ حلم لم يحققه ومجد لم يعرفه في حياته. أفلامه غزت جميع أنحاء الأرض وعرضت في كل زاوية منها. أغوى الجمهور والنقاد على حد سواء. إنه "قصة النجاح" الأشهر في هوليوود، الفنان الذي كل ما يلمسه يتحول إلى ذهب. فاز بالجوائز، وأخرج أفلاماً تتراوح بين الأكثر جديةً، ونصوص تراعي أصول الترفيه الهوليوودي المصنوع بخيال جامح ورغبة شديدة في بيع الأوهام للجمهور.
رائد كل الأنواع
لم يترك سبيلبرغ نوعاً سينمائياً يفلت منه، من سينما الحرب التي قدم لها رائعته "إنقاذ الجندي راين" إلى الكوميديا فالدراما التاريخية والتحريك والمغامرات وعلم الخيال. وبعد أن تطرق إلى معظم الأنواع الأساسية والسائدة في السينما، قرر خوض النوع الذي كان قد صنع مجد السينما الهوليوودية في عصرها الذهبي: الميوزيكال، وليس أي ميوزيكال، بل "قصة الحي الغربي" الذي كان سبق أن أخرجه روبرت وايز وجيروم روبنز في عام 1961 بناءً على مسرحية عرضت على خشبة برودواي في عام 1957، في أفلمة تعتبر ذروة فن الميوزيكال الهوليوودي، وفازت وقتها بعشر جوائز "أوسكار". إذاً، في مشروع سبيلبرغ شيء من التحدي، فإعادة صوغ تحفة سينمائية من حجم "قصة الحي الغربي" في قالب جديد وقراءة مستحدثة ليست مهمة بسيطة، لكن نابغة هوليوود أراد تقديم هدية لنفسه، هدية بتكلفة مئة مليون دولار، وذلك لاستعادة لحظة طفولية وإلقاء تحية على السينما التي تربى عليها عندما كان مراهقاً في الستينيات، ثم أهداه إلى والده الذي توفي قبل عامين.
"قصة الحي الغربي" لسبيلبرغ ليس "ريمايكاً" (إعادة صنع) لفيلم روبرت وايز وجيروم روبنز، بل عودة إلى الميوزيكال (حمل توقيع آرثر لورنتس وستيفن سوندهايم وليونارد برنستين) الذي كان قد استلهم من حكاية روميو وجولييت ناقلاً تراجيديا شكسبير هذه إلى نيويورك الخمسينيات. التزم سيناريو الفيلم نص الميوزيكال بالتفاصيل، مع بعض التحديث الذي يراعي ظروف العصر والتغييرات التي شهده، ما سنتابعه بشغف وعيون شاخصة على الشاشة طوال أكثر من ساعتين ونصف الساعة، هو قصة حب ناشئ على خلفية مواجهات وصراعات دامية وعنيفة بين عصابتين، تدور فصولها في أحد أحياء غرب نيويورك الفقيرة الآيلة إلى الاختفاء بسبب التطور العمراني. إحدى العصابتين أفرادها من أصول أوروبية بيضاء، أما الثانية فمهاجرون بورتوريكيون.
المقارنة مع النسخة السينمائية السابقة تفرض نفسها في بعض الأحيان، أقله للقول إن فيلم سبيلبرغ أكثر إمعاناً في العنف والسياسة. من الواضح أنه قرر ألا يغض الطرف عن الكثير من القضايا التي حركت الرأي العام في السنوات الأخيرة، من قضية المتحولين جنسياً إلى العنصرية، لكن ضخ هذا كله في الفيلم بلا أي تدليس سياسي أو إقحام، لدرجة أننا نصبح أمام إعادة قراءة للخمسينيات، ولكن بوعي اليوم. لم يحتج الفيلم إلى إعادة موضعة الأحداث في الفترة الحالية، فعند سبيلبرغ الأزمنة تتحاور بعضها مع البعض الآخر، وما الحاضر سوى صدى للماضي.
العدالة الغائبة
مع "قصة الحي الغربي"، سواء في نسخته السينمائية أو المسرحية، نحن إزاء عمل عن العدالة الاجتماعية الغائبة. صحيح أن الخطاب السياسي في الفيلم واضح المعالم والأهداف، إلا أن التقاط كل أبعاده لا يحصل بتلك السهولة. فالتفاصيل مدسوسة داخل كل ما تتشكل منه جماليات هذا الفيلم المترجح بين الثريللر والميلودراما. وفي هذا المجال، يؤكد سبيلبرغ مرة جديدة أنه سيد حرفة وصنعة لا يكاد أحد يرتقي إليه فيهما. فهو يبرع في إشاعة مناخ ميوزيكالي بديع منذ اللحظة الأولى التي نطأ فيها داخل الكادر. الإيقاع الجازي (من الجاز)، الموسيقى المألوفة لليونارد برنستين، صفير الشباب في مطلع الفيلم، الأجساد المتداخلة المتناحرة المتهاوية... هذا كله ليس بجديد، ولكن يا للمفاجأة: يستخرج سبيلبرغ روحاً جديدة من شيء قديم. ينهض من تحت ركام السنين لينظر إلى الحاضر بفيلم لا يفقد الأمل بالإنسان على الرغم من سوداويته، يبقى كلاسيكياً في سرده وتصويره وإداراته للممثلين، وفي غيرها من الأمور الكثيرة، لكنّ ثمّة تمرداً يبقى كنار تحت الرماد، نشعر به ولا نراه وجهاً لوجه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يعد لسبيلرغ شيء يثبته في أي مجال فني وإبداعي. مع ذلك، قد يسأل الواحد منا: من أين يأتي الرجل السبعيني بكل هذه النضارة في النظر إلى الأشياء والناس؟ ومن أين يستمد هذه الديناميكية والحيوية؟ أو تلك القدرة على التسلية والتثقيف وخلق الوعي في آنٍ؟ كما أن لسبيلبرغ الجرأة في الولادة مجدداً في عمر متقدم، هذا فيلم معلم كبير يصور كما يتنفس، وبالسهولة عينها لدخول الأوكسيجين إلى رئتيه. مشهد أغنية "أميركا" وحده إنجاز بصري هائل. إنه مشهد يحبس الأنفاس ويحمل الفيلم إلى مستوى آخر من الروعة السينمائية. الإتقان على مستوى الإخراج، اللعب بالكاميرا المتحركة على الدوام، حس التشويق، كل هذا تحصيل حاصل عند سبيلبرغ الذي يمزج جمال السينما ببشاعة الشرط الإنساني في لحظة سقوطه. وعلى الرغم من أن العناصر كلها مستعارة من المسرحية، فيمكننا التأكيد بأننا أمام فيلم خالص لسبيلبرغ سواء في تفاصيله أو خطوطه العريضة.
هذا فيلم من زمن آخر بلا شك، ما يشرح (من دون أن يبرر) عدم استجابة الجمهور له. لا يخاطب الناس باللغة السائدة والمهيمنة والمستهلكة، بل بلغة السينما والمسرح والموسيقى. بلغة شباب يروون الحكاية بأجسادهم، بطموحهم وجمالهم وأصواتهم الفتية، بغرورهم وغضبهم وقدرتهم على الحب والكره، وبجهلهم بالحياة وما يدور في فلكها. سبيلبرغ يصنع سينما خارج الموضة والتيارات. سينما صنعت لتبقى لا لتستهلك.