إذا كان السينمائي الفرنسي الراحل فرانسوا تروفو بعد ذلك بسنوات قد حقق في عام 1975 من خلال فيلمه "حكاية آديل هـ" واحداً من أقوى أفلامه وأكثرها إسالة لدموع المتفرجين، فإن ما يتعين ملاحظته هو أن هذا الفيلم أتى مختلفاً عن معظم أفلامه.
كما أنه واحد من الأفلام القليلة التي عاد فيها إلى تاريخ ما يستلهم واحدة من حكاياته البالغة المأساوية، وهو بالتحديد حكاية "جنون الغرام" الذي أصاب آديل هوغو أصغر بنات الكاتب الفرنسي الكبير فكتور هوغو، الذي يعتبره الفرنسيون وفي مختلف استقصاءات الرأي كاتبهم الأول والأفضل.
والحقيقة أن تروفو من خلال حكاية آديل تمكن من أن "يصوب" الصورة القوية المتماسكة التي كان عموم الفرنسيين وغيرهم يحملونها عن صاحب "البؤساء" و"نوتر دام دي باري" وغيرهما من شوامخ المبدعات الأدبية الفرنسية.
عقلانية لا تورث
فعلى الدوام كانت لهوغو صورة الرجل القوي العقلاني المسيطر على حياته وكتاباته وإنتاجه الأدبي، بل حتى على عائلته ونشاطاته السياسية التي أودته دروب المنفى ذات حقبة من حياته.
ويذكر الذين زاروا متحف غريفن للتماثيل الشمعية في باريس كيف جعل فيه تمثال من الشمع متحرك، يمثل فكتور هوغو ذات عام، يتكلم معلناً ولادة القرن العشرين وانتصار العقلانية.
لكن فيلم تروفو أتى ليخبر الناس بأن تلك الصورة وإن كانت تصور هوغو حقاً فإن حياة الرجل العائلية لم تكن على مثل ذلك الصفاء وتلك القوة، وليس فقط من خلال المصير الرهيب الذي كان لصغرى أبنائه، إذ غلبت عليها عواطفها ووقعت في الغرام إلى حد الجنون، مما أرسلها إلى مستشفى الأمراض العقلية تمضي فيه نصف القرن الأخير من حياتها التي كانت طويلة، على عكس معظم أفراد عائلة هوغو، لكن بائسة كحيوات معظم أفراد تلك العائلة، كما سنرى بعد سطور.
جنون عائلي معمم
لئن كنا أشرنا هنا إلى الجنون الذي أصاب آديل فإن ما لا بد من تأكيده تأكيداً يتنافى مع الصورة المعهودة لفكتور الكبير، هو أن آديل لم تكن "المأساوية" الوحيدة في حياة العائلة، فنحن نعرف من خلال سيرة الأب الكاتب أن من بين الأبناء الخمسة الذين أنجبتهم له زوجته آديل فوشيه، أن كان من نصيب الأول أنه مات وهو طفل، ثم كان دور الابنة الأولى بلوندين التي توفيت وهي في الـ 19من عمرها، وآديل طفلة بالكاد تذكر عنها شيئاً.
لكن آديل سرعان ما خبطها الحب ودمرها، وكذلك كانت حال أوجين شقيق فكتور الذي كان مغرماً أصلاً بآديل التي تزوجها فكتور مما أصابه بالجنون، جنون الحب الذي سيصيب آديل الابنة لاحقاً في تلك الحكاية التي سيرويها تروفو في فيلمه الذي نتحدث عنه هنا.
وكأن هذا لا يكفي، فإذا بآديل فوشيه وسط المآسي العائلية ترتبط بعلاقة آثمة مع الناقد سانت بوف، بيد أن فكتور هوغو لن يبالي بالأمر كثيراً، إذ إنه هو الآخر سيرتبط بعشيقة له ستعيش مع العائلة كأنها فرد منها، لا سيما خلال سنوات المنفى في جزيرة جرزي.
غرام فريد
طبعاً لن نواصل هنا حديثنا عن العائلة، بل سنتوقف فقط عن حكاية آديل هوغو، وعند ذلك الغرام الذي حان الوقت للعودة إليه هنا، ولنبدأ منذ العام 1854 الذي كرست له صغيرة العائلة جزءاً كبيراً من المذكرات التي كتبتها لاحقاً، وذلك لأنه وكما تروي هي بنفسها كان العام الذي راحت تتأرجح فيه بين غرامين، واحد منهما تريد التخلص منه والثاني تريد الحفاظ عليه.
في ذلك الحين كانت آديل في الـ 24 من عمرها، ولم يكن قد ظهر عليها بعد أي من علامات الجنون، لكن المشكلة بدأت هنا وتحديداً خلال وجود العائلة في جزيرة جرزي، وكان ذلك إثر التقائها في حفل راقص بضابط في الجيش الإنجليزي يدعى آلبرت بنسون، فكان ذلك الغرام الثاني الذي أرادت الحفاظ عليه، وتتخيله حكاية الغرام الكبير في حياتها غير متنبهة، كما يخبرنا الفيلم الذي سيقول مخرجه لاحقاً إنه إنما اتبع فيه الحقائق التاريخية بحذافيرها بعد شهور من الأبحاث والقراءات، إلى أن غرامها كان من طرف واحد، وأن بنسون لا يكن لها أي مشاعر على الإطلاق.
هكذا بدأت تفقد أعصابها وصبرها قبل أن تبدأ بملاحقته من مكان إلى آخر وصولاً إلى منطقة هاليفاكس في أقاصي الشمال الكندي، إذ أرسل وفرقته ليخوض حروباً كانت قائمة هناك.
اسم مستعار وهويات مبتكرة
والحقيقة أن الفيلم، وعلى عكس ما تفترضه آديل في مذكراتها، لم يعبأ بموقف بنسون من عشيقته التي كان يعتبرها عشيقة وهمية، بل راح يتبع هبوط الفتاة إلى جحيمها، وهو هبوط أدته ممثلة الدور النجمة الفرنسية من أصل ألماني - جزائري إيزابيل آدجاني أداء رائعاً، استحقت عنه جوائز عدة نالتها، وأخرى رشحت لها لكنها لم تنلها، وهو هبوط ترافق مع عيشها حكاية حب لم يكن لها في الحقيقة وجود في الواقع، ولم تبدل شيئاً من حياة بنسون أو مشاعره تجاهها، وهو الذي واصل حياته وارتباطه بحبيبة أخرى حقيقية له لم تكن آديل تعترف بوجودها على الإطلاق، وبالكاد تشير إليها في يومياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما كانت تشير إليه آديل هو أنها كانت تسافر وغالباً باسم مستعار وبهويات استغرب الجميع كيف كانت تحصل عليه، متنقلة بحسب تنقلاته من مكان إلى آخر متصرفة كأنها زوجته التي تريد الاطمئنان عليه وإلى أنه في خير.
وهكذا كان لا بد من أن تتحول إلى مضغة في الأفواه في كل مكان تلاحقه فيه من نوفا سكوتيا الكندية إلى إيرلندا إلى باربادوس في الكاراييب هناك، حيث كشفت عن هويتها من دون أن تتعمد ذلك، إذ وصلتها من دون أن يعرف أحد كيف، أنباء تتحدث عن وفاة أبيها في العام 1885، وكانت قد باتت في الـ 55 إنما من دون أن تتخلى عن حكاية غرامها التي كانت واثقة من كونها حكاية حقيقية، ومن مطاردة "زوجها" الذي كان قد بدأ يعلن امتعاضه من تلك الحكاية التي بدا له أنها لن تنتهي.
شريدة في مدن بعيدة
بيد أن الرجل كان سرعان ما يتناسى الحكاية، مبدياً امتعاضه فقط من كون هذه السيدة الملحاحة تقدم نفسها باسم "السيدة بنسون"، وتروي لمن تلتقيه كيف أن "زوجها مغرم" بها إلى حد الجنون، لكن أشغاله تفرض عليه إخفاء الحكاية.
وفي تلك الأثناء كان الفقر يتفاقم وغالباً ما تُرى تائهة بأسمال ممزقة في شوارع المدن التي تنتقل إليها ملاحقة "زوجها"، لكن في نهاية تلك المرحلة، وإذ انكشفت هوية آديل في الباربادوس، تم نقل العاشقة التائهة إلى باريس، والجدير بالذكر هنا هو أن كل المعلومات المتعلقة بتلك المرحلة من حياة آديل هوغو أتت من مئات الصفحات التي كانت تدونها يوماً بيوم مالئة إياها بما لن يكون من الصعب تبين أن كل ما فيها كان من بنات خيالها.
لكن اللافت في الأمر أن آديل توقفت عن كتابة المزيد في الوقت نفسه الذي مات فيه أبوها، ونقلت هي إلى باريس لتهتم عائلتها بالعناية الطبية بها، وهي عناية إن لم تكن مجدية على صعيد شفائها من "غرامها" الذي دام أطول مما يجب، فإنها أتت مجدية على الصعيد الصحي، إذ إن سنوات التشرد الطويلة كانت قد أسقمتها وأضعفت منها الجسد إلى جانب الأعصاب.
ففي نهاية الأمر ستعيش آديل وإن في مصحة الأمراض العقلية حتى العام 1914 فتكون بذلك الوحيدة التي عمرت حتى سن الـ 85 من بين أبناء فكتور هوغو.
"هل لا يزال يبحث عني؟"
ولئن كانت آديل هوغو استعادت صحتها الجسدية خلال سنوات المصحة الطويلة، ولئن كانت قد توقفت تماماً عن تدوين يومياتها، بل حتى عن الكتابة على الإطلاق، فإنه لم يكن من النادر لها أن تجمع الممرضات من حولها في سنواتها الأخيرة لتحكي لهن عن "زوجها" الذي "ظلمته" بتصرفاتها، ولا تدري الآن أين هو وهل لا يزال يبحث عنها!