من الواضح أننا هذه الأيام بصدد نشوء خطاب ديني إسلامي جديد يشارك عالم اليوم قيمه النبيلة، فيركز على قيمة الإنسانية والتسامح والسلام والاعتراف بمشروعية الائتلاف بين البشر في أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، "ولو شاء ربّك لآمن مَن في الأرض كلِّهم جميعاً، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس 99) والمساواة، فكلكم لآدم وآدم من تراب، كما قال عليه الصلاة والسلام.
وثيقة مكة الأخيرة التي قدمت إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بحضور 1300 شخصية إسلامية من 139 دولة، تؤسس فعلاً لخطاب إسلامي جديد مبني على قيم إسلامية إنسانية عليا، يقف في وجه الخطاب الديني المتطرف الذي "يبشر" بالكراهية والعنف ونبذ الآخر، كل آخر وأي آخر، فكره المسلمين بالآخر، وكره الآخر بالمسلمين، وكيف لا يكرهون المسلمين وهم يقدّمون لهم الإسلام بوجه كريه، أفرز داعش والقاعدة وأنصار الله، والإخوان وغيرهم، فمنه كان نتيجة خطاب مقيت، ومنتجاً لخطاب كريه في الوقت ذاته.
"صحيفة المدينة"
واستلهمت هذه الوثيقة كل وثائق وإعلانات حقوق الإنسان في التاريخ الإنساني، وعلى رأسها الوثيقة السياسية الأولى في تاريخ الإسلام ألا وهي "صحيفة المدينة" التي نشرها النبي، عليه الصلاة والسلام، بعيد هجرته من مكة إلى المدينة لتنظيم المجتمع الجديد وتبيان القيم والمبادئ التي تحكمه. وكانت "صحيفة المدينة" عبارة عن "دستور" الدولة الجديدة، ومعه التعبير الحديث المنظم للعلاقات بين مكونات المجتمع اليثربي في ظل الدولة الجديدة (المهاجرون والأنصار واليهود)، من أنهم "أمة واحدة من دون الناس"، متساوون في الحقوق والواجبات، طالما أنهم التزموا بنود هذا الدستور.
بطبيعة الحال، فإن "صحيفة المدينة" لن تجد لها ذكراً في الخطاب الديني المتطرف، فكل مبادئ وقيم هذه الصحيفة من تسامح وسلام ومشاركة بين مكونات المجتمع المختلفة، في ظل مساواة كاملة بين "مواطني" الدولة الجديدة، وذلك حين نستخدم مصطلحات حديثة لوصف ما حدث في ذلك الزمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحوة دينية حقيقية
في ظني، بل أكاد أقول في يقيني، أن وثيقة مكة تؤسس لصحوة دينية حقيقية، في مقابل تلك "الصحوة" أو الغفوة التي أوردتنا المهالك، فكانت حرباً على الإنسانية وعلى الدين ذاته وقيمه السامية، وكانت عائقاً أمام التنمية واللحاق بمسيرة الحضارة، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، تنشر الكراهية والعنف وعقد الذنب التي شوهت نفسيات الشعوب والطاقة الحضارية الخلاقة للشباب، حين أغلقت عقولهم وجعلتهم أسرى الخرافات التي دفعت بهم إلى سفك الدماء باسم جهاد لا علاقة له بالجهاد.
فماذا قالت هذه الوثيقة التي جعلتنا نصفها ببداية صحوة حقيقية، وعودة إلى وعي كان مستلباً، وعقل أنشىء على الوهم والخرافة وخزعبلات أرباب الوعي المزيّف والداعين له، واستهلال لخطاب ديني جديد، يسهم في صنع الحضارة بدل وصمها بالعار والشنار، ومن ثم الدعوة إلى تدميرها حجراً وبشراً.
القيم التي دعت إليها وثيقة مكة ليست غريبة عن دين الإسلام، بل ليست غريبة عن أي دين، فجوهر الأديان واحد ألا وهو الإنسان: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" (الإسراء 70).
مفهوم "الإنسانية" هذه لا نجده في نصوص الخطاب المتطرف، ولا في القيم، إن كان لها أن تُسمى قيماً، التي كان "يبشّر" بها كهنة الغفوة الدارسة لا أعادها الله، ولن يعيدها بإذنه، فالله أرأف بخلقه من الأم على وليدها.
عودة المسلمين إلى ساحة الحضارة
27 بنداً في هذه الوثيقة تشكل في تداخلها تبشيراً بعودة المسلمين إلى ساحة الحضارة، بعدما مر حين من الدهر، كانوا فيه وبالاً على هذه الحضارة، بعد أن كانوا حلقة من حلقات السلسلة الحضارية الإنسانية. البند الأول من هذه الوثيقة هو رفض العنصرية والاستعلاء مهما كانت مبرراته من دين أو عرف أو لون، فجميع البشر هم من نسل آدم وحواء، في النهاية، وكلهم عيال الله، كما ورد في الحديث الشريف.
وبما أن البشرية كلها من آدم وحواء، ومن ذكر وأنثى، فإن تهميش المرأة والتقليل من شأنها، أمر مناقض تماماً للفطرة، فهي أولاً وأخيراً إنسان "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء" (سورة النساء 61).
يقول تعالى "منهما"، ولم يقل "منه" فقط. وبناء على ذلك، فإن المرأة إنسان كامل بتقدير خالقها وخالق الرجل وخالقنا جميعاً، وبالتالي هي كاملة الأهلية، ولذلك كانت مكلفة كالرجل تماماً، لا يعتريها نقص ولا يقلل من شأنها نقصان. وانطلاقاً من ذلك، فإن المساواة بين الرجل والمرأة أمر طبيعي وفقاً لهذه النصوص المقدسة، إذ تتساوى معه في الأهلية وفي المواطنة وفي تقرير المصير، بعيداً من مقولات تجعل منها كائناً أدنى، وجنساً لا ينتمي للإنسان.
أما البند الذي وقفت عنده كثيراً، فهو ذاك الذي يشرعن للتعددية والاختلاف بين بني البشر: التعددية الدينية والثقافية، إذ يقول البند الثالث من الوثيقة: "الاختلاف بين الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطبائعهم وطرائق تفكيرهم قدر إلهي قضت به حكمة الله البالغة"، وبالتالي فإن فرض معتقدات، أو ثقافة ما على فرد أو جماعة أو شعب، هو أمر مناف للإرادة الإلهية: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" (سورة هود 118).
لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة
التعددية والاختلاف هما الطبيعة التي جُبل عليها البشر والسر وراء صنع الحضارة والمدنية: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (سورة البقرة 251). والفساد هنا هو تعطل مسيرة إعمار الأرض، التي هي غاية خلق الإنسان وخلافته على الأرض. أجل، لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، بدين واحد، وثقافة واحدة، ولون واحد، ولكن ذلك لم يكن إرادة القدير.
من ذلك، يأتي مضمون البند الرابع الذي يفنّد مفهوم صراع الحضارات والثقافات، فالتعددية والاختلاف (مفهوم الدفع)، هما مصدر للثراء الحضاري الإنساني الشامل، في ما لو نُظر إليهما بعيداً من العنصرية والإقصاء ونظريات المؤامرة، وليسا مبرراً لصراع حضارات وثقافات يحاول كل منها الهيمنة على الآخر، ومن ثم صراع الناب والمخلب الذي فيه الجميع من الخاسرين.
هذا الصراع قد يكون هو واقع حال العالم المعاصر، وينفخ فيه النار متطرّفون من هنا وهناك، ولكن واقع الحال لا يعني اليأس من إصلاح هذه الحال، فكم من صراعات كانت ثم زالت، وكانت بداية زوالها حكمة الحكماء، والتطلع إلى مثال يسعى إليه، وتلاقي الحضارات والثقافات والتفاعل بينها هو ما يجب السعي إليه من أجل خير الإنسانية، والمسلمون جزء من هذه الإنسانية، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
هذا ولنا عودة إلى حديث مكة ووثيقتها، إن شاء فاطر كل شيء.