أزمة أوكرانيا أخطر من نظيرتها بشأن الصواريخ السوفياتية في كوبا خلال الستينيات، وأشد تعقيداً. والتسوية التي توصل إليها الرئيس الأميركي جون كينيدي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف جاءت خلال أيام من التأزم الشديد والتفاوض غير المباشر بين الرئيسين عبر شقيق الرئيس الأميركي روبرت والسفير السوفياتي المخضرم في واشنطن أناتولي دوبرينين. فما طلبته موسكو من واشنطن في تلك الأيام كان محدوداً قياساً بما تطلبه اليوم من واشنطن و"الناتو" والاتحاد الأوروبي.
ما أوحى كينيدي أنه مستعد له، وهو المواجهة العسكرية ولو صارت نووية، لم يكن خروشوف مستعداً له. أما الرئيس فلاديمير بوتين فإنه حشد 100 ألف عسكري على الحدود مع أوكرانيا ليوحي أنه مستعد للعمل العسكري. وقد فعل ذلك من قبل في جورجيا، ثم أوكرانيا عندما ضم شبه جزيرة القرم، وسلح الانفصاليين في الدونباس. أما الرئيس جو بايدن، فإنه أخرج الرد العسكري على الغزو من القاموس الأميركي، وهدد بالعقوبات الاقتصادية الشديدة، وتمسك بالعمل الدبلوماسي. شيء من دبلوماسية بلا أسنان تخدم سياسة ضعيفة. ولا تكافؤ في التفاوض في مثل هذه الحال.
أزمة الصواريخ في كوبا كانت اختباراً سوفياتياً للرئيس الأميركي الشاب. وهو واجه التحدي بنظيره من دون أن يغفل الدبلوماسية. خلال الأزمة بعث الزعيم الكوبي فيديل كاسترو برسالة إلى القيادة السوفياتية طلب فيها "عدم التراجع أمام أميركا وإبقاء الصواريخ، ولو أدى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة دمرت كوبا"، لكن عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي وحارس العقيدة ميخائيل سوسلوف قال لرفاقه، "هذا جنون". وبعد التسوية التي سحب فيها خروشوف الصواريخ، وحصل على تعهد بعدم العمل لإسقاط النظام الشيوعي في كوبا، وسحب صواريخ أميركية قديمة من تركيا، فإن الحوار بين أنستاس ميكويان وشي غيفارا كان بالغ الدلالات. قال ميكويان لغيفارا، "فعلنا كل ما في وسعنا لمنع تدمير كوبا". ورد الأخير، "أنتم استسلمتم ودمرتم كوبا شرعياً". فقال الأول، "هذا ليس الوقت المناسب للموت الجميل"، في إشارة إلى مشهد من رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، حيث يقول نابليون عند رؤيته لجثمان الأمير أندريه، "أي ميتة جميلة؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما يطلبه بوتين اليوم، هو، في رأي وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، "يالطا2"، أي إعادة تقاسم النفوذ في أوروبا بعد 77 سنة من يالطا خلال الحرب العالمية الثانية. وما يمارسه هو استعادة "مبدأ بريجنيف"، أي السيادة المحدودة لدول المعسكر الاشتراكي والتدخل العسكري السوفياتي عند أي تغيير، أقل مطالبه سحب قوات "الناتو" من الدول السابقة في المعسكر الاشتراكي، لا سيما بلغاريا ورومانيا، ومنع أوكرانيا وجورجيا من الانضمام إلى الحلف، والتسليم بالنفوذ الروسي. والحجة عند بوتين هي "أن جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي وعد غورباتشوف بألا يتبدل شيء من حدود الناتو، لكن أميركا خانت روسيا". غير أن غورباتشوف آخر زعيم سوفياتي أوضح عام 2014 أن موضوع توسيع الناتو لم يتم بحثه إطلاقاً، ولم يتطرق إليه أحد في تلك السنوات".
وسواء كان هناك تعهد أم لا، فإن من الصعب على روسيا أن تقبل "امتداد الناتو" إلى حدودها، كما كان من الصعب أن تقبل أميركا نشر الصواريخ السوفياتية في كوبا. ومن الصعب أيضاً أن يعطي الغرب الأميركي والأوروبي لروسيا حق الفيتو على سيادة دول أوروبية صارت مستقلة عنها، لكن الأرجح أن تبقى جورجيا وأوكرانيا خارج الناتو بسبب حسابات الغرب الاستراتيجية وعلاقاته المعقدة مع روسيا و"قيصرها" الجديد. فالرئيس بوتين لم يجد ما يستشهد به لوصف روسيا اليوم أفضل من قول لوزير الخارجية الروسي أيام القياصرة الأمير ألكسندر غورتشاكوف في القرن التاسع عشر، "روسيا لا تغضب، روسيا تعيد تشكيل نفسها وتتأهب". وهو يبدو، حتى الآن، كأنه ربح معركة من دون إطلاق رصاصة واحدة. ولا شيء يمنعه من إطلاق الرصاص والتوسع ما دام يصف ستالين بأنه "أنجح حكام روسيا في القرن العشرين، إذ مد الإمبراطورية إلى أبعد من آل رومانوف وخلق روسيا النووية وجعلها قوة عظمى". وليس في البيت الأبيض جون كينيدي. ولا أميركا اليوم مثل أميركا الستينيات، وإن كانت أقوى عسكرياً وتكنولوجياً. ولا روسيا اليوم هي الاتحاد السوفياتي. وإن كان بوتين "المنتقم" لسقوطه أكثر جرأة من قادته على المغامرة. ومرحباً بالدبلوماسية والعقوبات.