أدّى ارتفاع الأسعار إلى إرباك المستهلكين والشركات وصناع السياسات في مختلف أنحاء العالم، ما أثار جدلاً ساخناً في واشنطن حول مقدار التضخم السريع نتيجة لخيارات السياسة في الولايات المتحدة ومقدار ما ينبع من العوامل العالمية المرتبطة بالوباء، مثل سلاسل التوريد المتعثر. ففي الوقت الذي تضغط فيه مكاسب الأسعار السريعة بعناد على ثقة المستهلك، وتخلق عبئاً سياسياً على الرئيس جو بايدن، ألقى مسؤولو البيت الأبيض باللوم مراراً على القوى الدولية في ارتفاع معدلات التضخم، بما في ذلك إغلاق المصانع في آسيا وطرق الشحن المرهقة التي تسببت في نقص المنتجات، ورفعت أسعارها لأعلى في كل مكان. ويستشهد المسؤولون بشكل متزايد بالتضخم المرتفع في أماكن، بما في ذلك منطقة اليورو، حيث ترتفع الأسعار بأسرع وتيرة على الإطلاق، كإشارة إلى أن العالم يمر بلحظة مشتركة من ألم الأسعار، ما يبعد اللوم عن السياسة الأميركية.
لكن مجموعة من الاقتصاديين بحسب "نيويورك تايمز" يشيرون إلى السياسات الحكومية باعتبارها جزءاً كبيراً من سبب ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى في 40 عاماً، في حين أنهم يتفقون على أن الأسعار آخذة في الارتفاع نتيجة لعمليات الإغلاق ومشاكل سلسلة التوريد، فإنهم يقولون إن قرار أميركا بإغراق الاقتصاد بأموال التحفيز ساعد في دفع الإنفاق الاستهلاكي إلى الحد الأقصى، ما أدى إلى تفاقم تلك الاتجاهات العالمية.
آلة التجارة العالمية
وتقوم آلة التجارة العالمية بإنتاج وشحن وتسليم مزيد من السلع للمستهلكين الأميركيين أكثر من أي وقت مضى، حيث يتدفق الناس بالنقود لشراء الأرائك والسيارات ومعدات المكاتب المنزلية، لكن سلاسل التوريد لم تكن قادرة على مواكبة هذا الطلب فائق الشحن، وقالت كريستين جيه فوربس الخبيرة الاقتصادية في معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا، إن "أكثر من نصف الزيادة، على الأقل، ترجع إلى عوامل عالمية"، لكنّ "هناك عنصر طلب محلي مهماً".
وحاول البيت الأبيض معالجة التضخم من خلال زيادة العرض، بالإعلان عن تدابير لفتح الموانئ ومحاولة تكثيف التصنيع المحلي، وكل ذلك يستغرق وقتاً، لكن ارتفاع التضخم قد عرض للخطر قدرة بايدن على تمرير السياسة الاجتماعية مترامية الأطراف وقانون المناخ بسبب مخاوف من أن مزيداً من الإنفاق يمكن أن يزيد التضخم. وأشار السيناتور جو مانشين الديمقراطي من ولاية فرجينيا الغربية، والذي يعتبر تصويته أمراً حاسماً لتمرير التشريع، إلى ارتفاع الأسعار كأحد أسباب عدم دعمه لمشروع القانون.
رفع الفائدة وترويض التضخم
قد يكون من السهل معالجة الطلب في زيادات الأسعار على صانعي السياسة، في وقت يستعد فيه الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة لجعل الاقتراض أكثر تكلفة، ما يؤدي إلى إبطاء الإنفاق، في وصفة يمكن أن تساعد في ترويض التضخم، كما أن تلاشي المساعدة الحكومية للأسر قد يؤدي بطبيعة الحال إلى انخفاض الطلب وتخفيف ضغوط الأسعار، ولعل تسارع التضخم بشكل حاد في الولايات المتحدة، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة سبعة في المئة في العام حتى ديسمبر (كانون الأول)، وهي أسرع وتيرة له منذ عام 1982، ولكن في الأشهر الأخيرة، ارتفع بشكل حاد في عديد من البلدان، وهو ما قاله مسؤولو الإدارة الأميركية.
وقال الرئيس بايدن خلال مؤتمر صحافي، الأربعاء، "التضخم له علاقة بكل شيء بسلسلة التوريد". وقالت جين ساكي، السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض، بعد صدور أحدث بيانات التضخم، "في حين أن هناك اختلافات بين دولة وأخرى، فإن هذه ظاهرة عالمية مدفوعة بهذه القضايا العالمية".
اضطرابات العرض ترفع التضخم في العالم
هذه هي الحال أن اضطرابات العرض تؤدي إلى ارتفاع التضخم في عديد من الأماكن، بما في ذلك في الاقتصادات النامية الكبيرة مثل الهند والبرازيل وفي الاقتصادات المتقدمة، مثل منطقة اليورو، وأظهرت البيانات الصادرة في المملكة المتحدة وكندا، الأربعاء، تسارع الأسعار بأسرع معدل لها منذ 30 عاماً في كلا البلدين، وارتفع التضخم في منطقة اليورو، والذي يتم قياسه بشكل مختلف عن طريقة حساب الولايات المتحدة، إلى معدل سنوي قدره خمسة في المئة في ديسمبر، وفقاً لتقدير أولي لمكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي.
وقال إسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية بجامعة "كورنيل" وكبير زملاء معهد "بروكينغز"، "الولايات المتحدة ليست جزيرة في خضم هذه العاصفة من اضطرابات الإمدادات والطلب المتزايد، بخاصة على السلع"، لكن بعض الاقتصاديين يشيرون إلى أنه حتى مع إثبات انتشار التضخم في مختلف أنحاء العالم، فقد كان أكثر وضوحاً في أميركا منه في أي مكان آخر. وقال جيسون فورمان، الخبير الاقتصادي في جامعة "هارفرد" والمستشار الاقتصادي السابق لإدارة باراك أوباما، الذي استخدم منهجيات مماثلة للبحث عبر المناطق، وخلص إلى أن ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة كان أسرع باستمرار، في حين جادل مسؤولو البيت الأبيض بأن الاختلافات في التضخم "في السلع الأساسية"، التي تستثني الغذاء والوقود، كانت صغيرة بين الولايات المتحدة والاقتصادات الرئيسة الأخرى خلال الأشهر الستة الماضية.
وتختفي الفجوات تقريباً إذا استبعدت أسعار السيارات، التي ارتفعت بشكل حاد، ولها تأثير أكبر في الولايات المتحدة، حيث يشتري المستهلكون مزيداً من السيارات، (جادل فورمان بأن الأشخاص الذين لم يشتروا سيارات كانوا سينفقون أموالهم على شيء آخر وأن مجرد استبعادهم من سلة الاستهلاك في الولايات المتحدة ليس عدلاً).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما لاحظ مسؤولو الإدارة أن الولايات المتحدة قد شهدت انتعاشاً قوياً في النمو الاقتصادي. وقال صندوق النقد الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إنه يتوقع ارتفاع الإنتاج الأميركي بنسبة ستة في المئة في 2021 و5.2 في المئة في 2022، مقارنة بنمو خمسة في المئة، العام الماضي، في منطقة اليورو، ونمو متوقع بنسبة 4.3 في المئة هذا العام.
وقال جارد بيرنستاين، عضو مجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين، "إلى الحد الذي حصلنا فيه على مزيد من الحرارة، حصلنا على مزيد من النمو".
أميركا و5 تريليونات لحماية اقتصاداتها
في حين أن عديداً من الدول أنفقت بكثافة لحماية اقتصاداتها من تداعيات فيروس كورونا، في بعض الأماكن بما يكفي لزيادة الطلب، وربما التضخم، وافقت الولايات المتحدة على إنفاق نحو خمسة 5 تريليونات دولار في عامي 2020 و2021، من إنتاج الدولة، وفقاً للبيانات التي جمعها صندوق النقد الدولي.
ودعم عديد من الاقتصاديين حماية العمال والشركات في وقت مبكر من الوباء، لكن البعض اعترض على حجم حزمة 1.9 تريليون دولار في مارس (آذار) الماضي تحت إدارة بايدن، وجادلوا بأن إرسال جولة أخرى من التحفيز للأسر، بما في ذلك شيكات بقيمة 1400 دولار، أدى إلى زيادة الطلب عندما كان الاقتصاد يتعافى بالفعل، كما بدا أن إنفاق المستهلكين يتفاعل، فقد قفزت مبيعات التجزئة، على سبيل المثال، بعد سحب الشيكات.
وقال آدم بوزين، رئيس معهد "بيترسون" للاقتصاد الدولي، إن الحكومة الأميركية أنفقت كثيراً في وقت قصير جداً في النصف الأول من عام 2021، لكنه أضاف أنه لو لم تكن هناك اختناقات ونقص في سوق العمل، فربما لم يكن الأمر ذا أهمية كبيرة.
نمو الطلب اصطدم بأزمة سلسلة التوريد
ووجد الأميركيون أنفسهم مع كثير من الأموال في البنوك، وعندما أنفقوا تلك الأموال على السلع، اصطدم الطلب بسلسلة التوريد العالمية التي كانت هشة للغاية بحيث لا يمكن اللحاق بها، في حين أدى تفشي الفيروسات إلى إغلاق المصانع، وواجهت الموانئ تراكم الأعمال المتراكمة وندرة سائقي الشاحنات، ما تسبب في تعكير صفو طرق العبور. كان الأميركيون لا يزالون قادرين على شراء سلع أكثر من أي وقت مضى في عام 2021، وأرسلت المصانع الأجنبية أرقاماً قياسية من المنتجات إلى المتاجر الأميركية وعتبات أبواب المستهلكين، لكن كل هذا التسوق لم يكن كافياً لتلبية طلب المستهلكين.
وشهد الميناء، العام الماضي، أكبر ازدحام على الإطلاق، حيث قام بمعالجة الحاويات بنسبة 16 في المئة أكثر مما كان عليه في عام 2020، ومع ذلك، لا يزال لديه عدد كبير من السفن المتراكمة التي تنتظر الرسو، والتي ينتظر عديد منها، حتى يوم الجمعة، شهراً أو أكثر. وقال الاقتصاديون إن المساعدة الإضافية التي قدمتها الحكومة للعائلات في العام الماضي كانت ذات أهمية للتضخم بسبب تلك الاختناقات، بالتالي فإن منح الأسر مزيداً من المال لشراء معدات التخييم أو طاولة مطبخ جديدة أدى إلى توسيع الفجوة بين ما يريده المستهلكون وما يمكن للشركات توفيره بالفعل، ومع نقص المعروض من السلع، وزيادة تكلفة النقل، رفعت الشركات أسعارها.
في حين لم تكن الشيكات الحكومية وحدها السبب في زيادة الطلب الأميركي، نظراً لأن مخاوف الفيروس تمنع المستهلكين من التخطيط لرحلة إلى باريس أو عشاء في مطعم فاخر، فقد لجأ كثيرون إلى تجديد غرفة المعيشة بدلاً من ذلك، ما جعل السلع سلعة ساخنة بشكل غير عادي، كما ساعدت عمليات الإغلاق التي أجبرت العائلات على التوقف فجأة عن الإنفاق في بداية الوباء على تضخم مخزونات المدخرات.
كما أن وجود أسعار الفائدة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي في أدنى مستوياتها، قد عزز الطلب على عمليات الشراء الكبيرة التي تتم عن طريق الائتمان، من المنازل والسيارات إلى الاستثمارات التجارية مثل الآلات وأجهزة الكمبيوتر، وأظهرت البيانات الصادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن العائلات أخذت على عاتقها مزيداً من ديون الإسكان والسيارات، ما ساعد على ضخ هذه القطاعات، ولكن إذا كان الطلب المدفوع بالتحفيز يغذي التضخم، فقد يأتي التشخيص مع جانب إيجابي، وقد يكون من الأسهل تخفيف الإنفاق الاستهلاكي بدلاً من إعادة توجيه خطوط الإمداد المتشابكة بسرعة.
وقد يبدأ الناس بطبيعة الحال في شراء كميات أقل مع تلاشي المساعدة الحكومية، ويمكن أن يتحول الإنفاق بعيداً من السلع والعودة إلى الخدمات إذا انحسر الوباء، في وقت تعمل سياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي على بناء الطلب، وليس العرض.