يُنتظر أن يترك إعلان زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري تفاعلات لا تحصى بعد إعلانه تعليق عمله بالحياة السياسية ودعوته تياره إلى اتخاذ الخطوة نفسها وعدم الترشح للانتخابات النيابية.
فالخطوة تعني غياب الحريري عن المسرح السياسي مع ما سيتبعه من تداعيات لجهة غياب ركن أساسي من أركان المسرح السياسي اللبناني، استند إلى إرث كان له دور أساسي في لبنان ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، مع انخراط والده رفيق الحريري في الحياة السياسية من خارج الطاقم التقليدي، لإعادة إعمار البلد بالارتكاز إلى التسوية التي حققها اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية لإنهاء الحرب وإعادة توزيع الشراكة في السلطة بين المواقع الطائفية الرئيسة والقوى السياسية الفاعلة.
مصير الحريرية السياسية
فغياب الحريري عن المسرح السياسي، ولو أنه أبلغ بعض مناصريه ومحازبيه، أنه مؤقت، يطرح مسألة ملء الفراغ الذي سيتركه من جهة، ومصير ما اصطلح على تسميته "الحريرية السياسية" بعد تولي سعد الحريري الزعامة إثر اغتيال والده في 14 فبراير (شباط) 2005 من جهة ثانية. إذ تحولت الحريرية إلى الزعامة الأولى في الطائفة السنية والكتلة النيابية الأقوى في البرلمان حتى عام 2018، وإلى عنوان رئيس لعلاقات لبنان الخارجية الدولية والعربية، مستندة إلى شبكة واسعة من الصلات بالدول الفاعلة غرباً وشرقاً، قل نظرها، ورثها الحريري الابن عن والده. وتحولت أيضاً إلى مصدر ثقة لعالم الاقتصاد والمال والاستثمارات الخارجية والداخلية في البلد الصغير، الذي يمر بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية عرفها تاريخه، أدت نتيجة التأزم السياسي المتواصل، وإلحاقه بالحروب والصراعات الإقليمية، بفعل الأدوار العسكرية التي يلعبها "حزب الله" خارج لبنان، إلى انهياره ونقلت شعبه إلى وضع معيشي مأساوي.
وهو ما يسعى رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي إلى استلحاق ما فات نتيجة تعطيل المعالجات للأزمة، للتخفيف من حدتها عن طريق بعض الإجراءات التي يشترطها المجتمع الدولي.
مراجعة ونقد ذاتي للتسويات...
وإذ لخص الحريري في 24 يناير (كانون الثاني) في بيان عزوفه وتياره عن الانتخابات النيابية، مشروع والده الذي أراد استكماله بفكرتين هما منع الحرب الأهلية في لبنان، وحياة أفضل للبنانيين، فإنه قدم نوعاً من المراجعة والنقد الذاتي حين قال إنه نجح في الأولى ولم يكتب له النجاح الكافي في الثانية، بسبب التسويات التي قام بها وأتت "على حسابي". وعدّد بعض هذه التسويات "من احتواء تداعيات غزوة حزب الله العسكرية لبيروت والجبل في 7 مايو (أيار) 2008، إلى اتفاق الدوحة، إلى زيارة دمشق، إلى انتخاب ميشال عون، إلى قانون الانتخابات". ولعل انتخاب عون (عام 2016) وقانون الانتخاب (2017) هما التسويتان اللتان سببتا كما قال، "خسارتي بعض صداقاتي الخارجية وكثيراً من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الأخوة".
فالحريري تعرض لانتقاد من جمهوره العريض أدى إلى مغادرة بعض رموز تيار "المستقبل" التنظيم، ومن حلفاء له وأصدقاء، لذهابه بعيداً في هذه التسويات ومفاعيلها على الوضع العام في البلد، لأنها أتاحت المجال للخصوم أن يحسنوا موقعهم على حساب تياره تحديداً بفعل قانون الانتخاب الذي قبل به. وتعرض للوم ولخيبة أمل من دول صديقة له على المسرحين الدولي والعربي، من أن تلك التسويات انعكست تعزيزاً لموقع القوى المعادية لها بفعل تغطيتها دور هذه القوى، ولا سيما "حزب الله"، ضد هذه الدول، خصوصاً دول الخليج والمملكة العربية السعودية التي مارس الحزب مخططاته الأمنية وحملاته الإعلامية ضدها انطلاقاً من موقعه كشريك في السلطة السياسية اللبنانية، غير آبه بالتزام سياسة "النأي بالنفس" عن حروب وأزمات المنطقة التي التزمتها بيانات الحكومات المتعاقبة التي شارك فيها.
بين أفكار التمنيات والواقع وإفشال الإصلاح
ما كان يأمله الحريري من التسويات تبيَّن له لاحقاً أنه نوع من التفكير في التمنيات الخاصة أو الرغبات (wishful thinking)، فيما أظهرت الوقائع أن أهداف الشريك في تلك التسويات كانت مخالفة تماماً، والمراجعة الشخصية التي قام بها أظهرت له أن ما كان يأمله كان غير صحيح.
وفي تبسيط للأمور، فإن الحريري استنتج أن والده رفيق الحريري كان يسعى إلى التسويات ويقوم بها، وربما عقد تسويات أكثر مما فعل هو، لكنه كان يحصد بعض الإنجازات الاقتصادية والإعمارية والإصلاحية مقابلها، أيام الوصاية السورية التي كانت تتيح له خمسين في المئة مما يريد وتعطي خصومه النصف الآخر من هذه التسويات. أما في عهد تحالف عون مع "حزب الله" وخلال رئاسته هو للحكومة فإن التعطيل كان سيد الموقف وأدى إلى تآكل الدولة تدريجاً، وغلبت الرغبة بالاستئثار والأجندات الخارجية على نيته إنقاذ الوضع المتردي في البلد بالإصلاحات التي كان يطمح إلى القيام بها فلم يتمكن من القيام بالحد الأدنى. والسؤال الذي سمعه من الحريري بعض الذين ناقشوه في خلفيات قراره، هو لو قبل ميشال عون ومعه صهره جبران باسيل و"حزب الله" بتسهيل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من لبنان، بدءاً بتطبيق قرارات مؤتمر "سيدر" (عام 2018 في فرنسا) هل كانوا ليتعرضوا للانتقادات والحملات التي يتعرضون لها الآن في الشارع ومن اللبنانيين وهل كانت النقمة عليهم بلغت هذه الدرجة؟
ربط لبنان بالوضع الخارجي هو المشكلة
ومن الطبيعي أن تكون معاناة الحريري من إقحام الحزب البلد في الحروب الإقليمية، ما أسهم في إفشال مشروع إصلاح وضعه الاقتصادي ومساعدته، وراء يأسه من الوضع السياسي الذي دفعه إلى العزوف وتعليق دوره السياسي. وهو ما عبّر عنه ببيانه قائلاً إن "لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة". وجوهر المشكلة بالنسبة إليه مواصلة فرقاء، وخصوصاً "حزب الله" والتزامه الأجندة الإيرانية، ربط المأزق اللبناني بالتطورات الخارجية التي لا طائل من الإمعان في المراهنة عليها. فلو كان الفرقاء السياسيون يتفقون على فصل الوضع الداخلي وعملية إنقاذ البلد من أزمته الخانقة عن التطورات الخارجية التي ليس في مصلحة لبنان انتظار ما ستؤول إليه أو المراهنة عليها، لكان ممكناً أن يخرج من المأزق الذي هو فيه. ولهذه الأسباب، وفق قول بعض قادة تيار "المستقبل" لم يجد الحريري "شريكاً" له في سعيه للإنقاذ الاقتصادي، وللتجاوب مع صرخة ثوار 17 أكتوبر (تشرين الأول) وانتفاضة الناس في الشارع بعد تدهور الوضع الاقتصادي.
في لقاءاته مع نواب كتلة "المستقبل" وقادة تياره السياسي، لم يوفر الحريري في جزء من تبريراته لموقفه، بعض الحلفاء الذين لم يقفوا معه في سعيه إلى الإصلاح. ومع أنه لم يتوقف كثيراً عند هذه النقطة التي شملت انتقاده حزب "القوات اللبنانية" التي لم تسمه لتكليفه برئاسة الحكومة في عام 2020، وللخلافات الظرفية مع "الحزب التقدمي الاشتراكي"، فإنه أشار إلى وقوف رئيس البرلمان نبيه بري في بعض المحطات الصعبة إلى جانبه، ملمحاً بذلك إلى الصعوبات التي واجهها في تشكيل الحكومة والمطالب التي طرحها عليه الفريق الرئاسي، المدعوم من "حزب الله"، قبل أن يعتذر عن عدم تأليفها جراء العراقيل.
التفرج 4 سنوات وخلط الأوراق
وإذا كانت قراءة الحريري للوضعين السياسي الداخلي والخارجي أدت إلى قراره، فإن الأسئلة كثرت بعد إعلانه بيانه حول ما سيكون قرار نواب كتلته من الترشح للانتخابات في منتصف مايو. وقد بات واضحاً أن عدداً من هؤلاء سيحجم عن الترشح بدءاً بعمته بهية الحريري، مروراً بعدد من نواب بيروت وطرابلس وعكار والبقاع الغربي. وفيما ناقشه بعض نواب كتلته في خياره من باب عدم جواز ترك الساحة خالية لأن الخصوم سيسعون إلى ملء الفراغ، ومنهم "حزب الله"، فإن حجج الحريري كانت بأن الوضع السياسي سيجعل انخراط نواب "المستقبل" غطاء لـ"حزب الله" في السلطة، وأن الغياب عن البرلمان في الدورة المقبلة فرصة لمراقبة ما سيؤول إليه الوضع في البلد ويمكن العودة إلى خوض الانتخابات بعد أربع سنوات، يكون خلالها اتضح المشهد السياسي أكثر. إلا أن بعض الشخصيات الحليفة لـ"المستقبل" قد تخوض المعركة الانتخابية من زاوية تمثيلها التقليدي لعائلاتها أو لمناطق، كانت حاضرة تاريخياً في الندوة النيابية.
وينظر المراقبون إلى مفعول قرار الحريري الامتناع عن الترشح وعن ترشيح قيادات من المستقبل أو دعم مرشحين حلفاء، على أنه خلط للأوراق في العملية الانتخابية التي يعول معارضو العهد الرئاسي و"حزب الله" على حصد الأكثرية فيها، سيؤدي إلى ملء الفراغ من قبل الخصوم في الساحة السنية التي كان انعقد لواء الأكثرية فيها للحريرية السياسية.
من يملأ الفراغ في الساحة السنية؟
وتتوزع التقديرات في انتظار اتضاح نتائج خلط الأوراق بين اتجاهات عدة:
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأول يتوقع أن يسعى "حزب الله" إلى دعم مرشحين سنة في عدد من الدوائر التي يمكن للأصوات الشيعية التي يتحكم بها ترجيح فوزهم في ظل انكفاء "المستقبل" والحريري عن تبني دعم مرشحين باسمه، ما يؤدي إلى تشتيت الأصوات السنية. وثمة من يعتبر أن الحزب قد يرى فرصة له بالتعويض عن الخسائر المتوقعة التي سيتعرض لها حليفه "التيار الوطني الحر" على الصعيد المسيحي بسبب ممارسات رئيسه النائب باسيل وحصول الانهيار المالي في عهد عون، ببعض النواب السنة بفعل انكفاء الحريري وتياره. وهذا الاحتمال دفع رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة خلال اجتماع الحريري إلى رؤساء الحكومات السابقين مع الرئيس ميقاتي، إلى طرح فكرة تولي رؤساء الحكومات كمرجعية سنية تنظيم عملية الترشيح ودعم بعض الشخصيات لمنع الخصوم من اقتناص الفرصة، إلا أن الحريري لم يوافق على الفكرة. وبعض المعلومات أشار إلى أن السنيورة نفسه قد يكون مرشحاً، الأمر الذي علقت عليه مصادره بالتأكيد أن أي خطوة لن تتخذ إلا بالتفاهم مع الحريري نفسه.
الثاني هو أن تتراجع الحماسة في القاعدة السنية ومناصري "المستقبل" عن النزول إلى مراكز الاقتراع بسبب قرار الحريري، نظراً إلى شعور أبناء الطائفة بأن غبناً يلحق بهم وبتمثيلهم النيابي والسياسي هو امتداد لعملية إضعاف موقع رئاسة الحكومة، تعرضت له خلال عهد الرئيس عون، وتحالفه مع "حزب الله".
التنافس المسيحي وتفعيل بنية "المستقبل"
الثالث هو أن تسعى القوى المسيحية المتنازعة على أكثرية النواب المسيحيين الـ64 في البرلمان، لأسباب تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية في أكتوبر المقبل، إلى التنازع على كسب أصوات الناخبين السنة بعد قرار زعيمهم الأقوى الانكفاء عن المنازلة الانتخابية. وظهر هذا التنازع في تصاعد الحملات المتبادلة بين قادة حزب "القوات اللبنانية" و"التيار الحر" باتهامات كل فريق للآخر بأنه أسهم في دفع الحريري إلى اتخاذ قراره هذا. فكل من الفريقين المتنافسين على الصعيد المسيحي يأمل الحصول على أصوات مناصري "المستقبل"، إذا تحالف مع مرشحين سنة (وجهاء أو ممثلي عائلات...) لديهم قاعدة انتخابية وقد يتعاطف معهم مناصرون لـ"المستقبل" فيحصد مرشحو "القوات" و"التيار الحر" أصواتهم إذا تحالفوا معهم في لوائح ويساعد ذلك في حصول المرشحين المسيحيين المتنافسين على الحاصل الانتخابي المطلوب. هذا التنافس أدى في الوقت نفسه إلى استعار الحملات بين الناطقين باسم "المستقبل" و"القوات" وبينهم وبين "التيار الحر"، رافضين تجيير مناصريهم لأي من الفريقين.
أما على صعيد البنية التنظيمية لتيار "المستقبل"، فإن مصادر قيادية فيه تؤكد أنه لا تغيير أو انكفاء في دوره السياسي خارج إطار النيابة والحكومة. فالحريري ينوي تفعيل الوضع التنظيمي للتيار وإجراء مراجعة لثغرات عمله السابقة ودراسة السبل التي تجعله أكثر قرباً من الناس لتعزيز فعاليته واستقطابه للمناصرين. فقياديو التنظيم تبلغوا من الحريري أن التيار باقٍ وأن تعليق العمل السياسي لا يعني الانكفاء الكلي طالما هو قال في بيانه أنه يعني "تعليق أي دور أو مسؤولية مباشرة في السلطة والنيابة والسياسة بمعناها التقليدي".
وعبر بعض مناصري "المستقبل" عن هذا التوجه بتعميم مقطع فيديو بعنوان (Eagle Rebirth) أي "ولادة النسر مجدداً"، نشره الحريري على تطبيق "فيرو"، يروي ما يقوم به النسر بعد مرور 40 عاماً من عمره فينعزل في الجبال خمسة أشهر كي يجدد منقاره وريشه ليحيا حتى 70 عاماً فيعود إلى التحليق. اعتبر هولاء أن الفيديو يرمز إلى أن هناك ولادة جديدة مرتقبة لتياره ودوره.