يبدو أن المشهد السياسي في السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي قام به البرهان، وأعاق به المرحلة الانتقالية، ينعكس اليوم في تدبير المكون العسكري من خلال رهانات مجربة وفاشلة. فبين امتناعين أساسيين، امتناع قوى الثورة عن الردة عن مطلب الدولة المدنية، وامتناع المكون العسكري عن التسليم بتلك الحقيقة، يلعب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على ألعاب الوقت، ظناً منه أن هناك إمكانية للخروج من مأزق الانسداد، الذي أوقع فيه البلد، وقاده إلى ما أصبح عليه اليوم من تعطيل للدولة، وتوقف للدعم الدولي الاقتصادي والسياسي. وعجز داخلي حتى الآن عن تنصيب لرئيس وزراء يحل محل حمدوك.
فالنشاط الذي برز، خلال الأسبوع الماضي، عبر الحشود التي تظاهرت بإيحاء من المكون العسكري، الذي وظف في تلك الحشود بعض قوى الثورة المضادة، من أجل المطالبة بخروج بعثة الأمم المتحدة، عبر استلهام ذكرى تحرير مدينة الخرطوم من الاستعمار التركي على يد محمد أحمد المهدي قائد الثورة المهدية قبل أكثر من 130 عاماً، ذلك التحشيد دلالة واضحة على رهان المكون العسكري طمعاً في الحكم.
في الأسبوع ذاته، رأينا نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" يجمع زعماء القبائل السودانية، في محاولة منه للخوض في لعبة الحشود، مجاراة للشارع الثوري من دون أن يدرك كل من حميدتي والبرهان أن هذه اللعبة المكشوفة والمجربة لا يمكن أن تنطلي على الشعب السوداني، لأن أي مقارنة بين طبيعة الظروف التي تخرج فيها القوى الثورية والمواجهة العنيفة التي تجدها من قبل القوات النظامية عبر القتل بالرصاص الحي، لا يمكن أن تكون أبداً مجالاً للقياس بالظروف التي يخرج فيها مؤيدو قائد الجيش وحميدتي.
وسنجد هنا هذا الطريق الذي سلكه الجنرال المعزول عمر البشير (الذي كان يتوفر على قدرات لحزبه أكبر بكثير من تلك الألعاب البهلوانية للبرهان وحميدتي)، كان أكثر حظاً في النجاح من التخطيط المكشوف للمكون العسكري الذي يمارس اليوم لعبة الحشود بطرق عديمة الجدوى وكفاءة منعدمة تماماً.
يمكن القول، إن الذي قد يساعد المكون العسكري على المضي في لعبة الحشود المكشوفة هذه، رغم رهانها الخاسر في النهاية، أن ما يوحي لهم فيها بإمكانية الاستمرار هو الغرور بالقوة المادية والعسكرية التي في يدهم مقابل شعب أعزل.
كما أن العطب الكياني العام الذي هو عطب ثلاثين سنة من تدمير نظام الإسلام السياسي لجهاز الدولة العام وتفكيك أواصرها وتشويش أفكار عامة الناس بمقولات أيديولوجية صنعها الإعلام خلال تلك السنوات الثلاثين إلى جانب استغلال البسطاء من أبناء الشعب، نظراً إلى الوضع الاقتصادي الوشيك الانهيار، وكذلك استنفار الولاءات القبلية التي أحياها نظام البشير بشبكة من المنظومات عبر تسييس نظام القبائل لأكثر من عقدين، كل ذلك خلق واقعاً مضطرباً وقابلاً للاستثمار في هذا الجو العكر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما يمكننا قراءة هذه الأفعال البهلوانية ضد إرادة الشعب من قبل المكون العسكري كممارسة لكسب الوقت، أو ربما هي تصديق من ذلك المكون بجدوى تلك المجازفة المجربة، لكن في كل الأحوال يمكننا القول، إن ذلك التكتيك الخاسر الذي يخوض فيه المكون العسكري، ويسعى لتدبيره ضد إرادة الشعب لن يستطيع أن يتوفر على أي حظوظ للنجاح، إنما يؤشر إلى اتجاهين اثنين، إما أن يسلم المكون العسكري في النهاية بإرادة الشعب وثورته عبر ضغط الشارع الثوري، إلى جانب تفعيل العقوبات في مشروع القرار الأميركي، ومشروع قانون دعم الانتقال الديمقراطي، والمساءلة والشفافية في السودان، وإما أن تدخل البلاد في فوضى وخراب، بحيث يعجز المكون العسكري عن حكمها!
وفي تقديرنا، ثمة رهان آخر من طرف المكون العسكري الحاكم هو الرهان على انقسام القوى الثورية وتناقضاتها، وهذا ما سيقودنا للحديث عن واجب انتباه قوى الثورة اليوم جميعاً لمسألة الوحدة والقيادة الموحدة لها. وهذا للأسف ما لم يتحقق حتى الآن، رغم أن الظروف كلها تدل على أهميته المطلقة قبل أي شيء آخر.
المفارقة اليوم أن استئناف العمل الثوري عبر قوى ثورية من دون قيادة موحدة يكشف لنا فرقاً واضحاً بين سبب نجاح الثورة في عام 2019، حين انتظمت تلك القوى تحت قائد ميداني واحد هو تجمع المهنيين السودانيين وحلف سياسي واحد هو قوى إعلان الحرية والتغيير.
لكن اليوم، فيما تعتبر المعركة بين قوى الثورة والمكون العسكري الحاكم هي الأشرس، نظراً لانكشاف الأجندات، نجد في الوقت ذاته اختلافات بين قوى الثورة تمنعها حتى الآن من توحيد كتلتها في جبهة واحدة وتوحيد قيادتها كذلك، لأن هذه الخطوة الأساسية هي التي ستسرع بانهيار الانقلاب، ما دامت ظروف المجتمع الدولي اليوم بقيادة الولايات المتحدة مواتيه في اصطفافها مع الشعب السوداني وقواه الثورية الحية.
لقد انتبه بعض قادة الأحزاب إلى ضرورة كيان سياسي واحد، تضم داخله كل قوى الثورة، من أجل واجب إسقاط الانقلاب، كما دعا إلى ذلك المهندس عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، ويبدو أن الأيام المقبلة ستشهد حراكاً كبيراً من أجل إيجاد جسم جديد يوحد قوى الثورة تحت قيادة واحدة للمضي قدماً من أجل إسقاط الانقلاب.
إن الاختبار العسير الآن لقوى الثورة السودانية يكمن في أن ضرورة وحدتها اليوم هي الفيصل الحاسم لنجاح جهود إسقاط الانقلاب، كما أنها ستقنع المجتمع الدولي والولايات المتحدة للمضي قدماً في الاصطفاف إلى جانبها.
وإذا كان الزخم الجديد والعظيم للثورة في عام 2019، الذي حملت رياحه العاتية كل القوى السياسية إلى مصاف من التعالي ونكران الذات من أجل تقديم تحالف سياسي يتولى مهام إدارة السلطة ما بعد سقوط البشير، فإن استحقاق وحدة القوى الثورية اليوم لجبهة عريضة بقيادة موحدة هو واجب الوقت، الذي لا يمكن في غيابه تحقيق اختراق للإطاحة بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول).
وعلى صعيد حراك المجتمع الدولي، ستنعقد، خلال هذا الأسبوع، جلسة استماع من طرف لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، لمناقشة الوضع في السودان، وستستمع اللجنة إلى إفادة كل من مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في، إضافة إلى نائبة مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إيزوبيل كولمان، وربما تتكشف عن نتائج جلسة الاستماع قرارات مهمة حيال الوضع الانسدادي في السودان.
الولايات المتحدة حتى الآن ربما تراهن على أمل أن ينصاع المكون العسكري في السلطة لضغط قوى الثورة وحراكها المستمر، قبل أن تقوم بتفعيل العقوبات الذكية على منفذي الانقلاب ومن ساعدوا فيه، لكن الذي ربما لم ينتبه له البعض، هو أن الوضع في السودان ينحدر بسرعة إلى الانهيار، بخاصة الانهيار الاقتصادي الذي قد يؤدي إلى فوضى عظيمة، بسبب الوضع المعيشي الصعب للسودانيين، ولهذا فإن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة لجهة التسريع بالجهود الدولية لتأمين مخرج بالتعاون مع قوى الثورة السودانية، متى ما توحدت هذه القوى في جبهة واحدة وتحت قيادة واحدة.
وعلى الرغم من تلك التعقيدات التي تكتنف الوضع السياسي للسودان، يبدو أن هذا الانقلاب الذي حدث في 25 أكتوبر أصبح اليوم انقلاباً معطلاً، لأن إمكانية تضارب المصالح والتناقضات بين الجيش والدعم السريع، وحلفاء الثورة المضادة من بقايا النظام القديم كل تلك الكيانات تعاني إشكالات تمنعها من الانفراد بالسلطة، في الوقت الذي يحرص فيه كل من تلك الكيانات الثلاثة على الانفراد بالسلطة! الأمر الذي يؤشر أيضاً على أن ثمة صراعات ستطفو على السطح حين تصل تلك التناقضات مرحلة خطيرة. لهذا فإن كل تلك الإشكالات، التي تسبب فيها الانقلاب ستكون في الوقت ذاته سبباً في التعجيل بنهايته.
وحيال وضع معقد كهذا، وحدها وحدة قوى الثورة وانتظامها تحت جبهة وقيادة سياسية واحدة هي التي سترجح كفة الميزان، لهذا فإن على عاتق قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وتجمع المهنيين استحقاق لحظة تاريخية فارقة من أجل توحيد قوى الثورة لصناعة الفرق الذي يمكنه أن يعيد للثورة زخمها بأكثر مما كان عليه الوضع في السابق.
وفيما يمارس المكون العسكري ويعيد إنتاج التخبط في إدارته السياسية للبلاد منذ انقلاب 25 أكتوبر سيدرك كل عاقل أن محاولة الالتفاف على استحقاق الثورة السودانية لن يجدي فتيلاً.
فعلى سبيل المثال، نرى اليوم بأم أعيننا ما يفعله كل من البرهان وحميدتي من رهان خاسر على القبائل مرة، وعلى الطرق الصوفية مرة ثانية من أجل خلق حاضنة سياسية مستحيلة. في مرحلة لم يعد الوضع في السودان يحتمل فيها مزيداً من صناعة الفوضى، لأن أي حلم للعسكر بحكم السودان قياساً على مرحلة البشير التي دامت ثلاثين سنة، سيكون قياساً فاسداً وخطيراً فليس في وسع السودان وأوضاعه المحتقنة اليوم أي احتمال لمسار التدهور المريع، الذي ظل ينحدر إليه بسرعة بسبب انقلاب 25 أكتوبر.
ومن ثم، فإن أي مغامرة بهذا الاتجاه الفوضوي لن تحتاج (حال إصرار المكون العسكري عليها) سوى إلى أسابيع محدودة، ربما ينهار فيها الوضع الاقتصادي والسياسي، ومن ثم ربما يدخل السودان، بسبب ذلك، في فوضى لا يمكن الخروج منها لولا تدارك الأمر قبل حدوثها!