يشبه لبنان في وضعه السياسي الوضع في العراق. في لبنان، تنشط إيران بطاقتها القصوى لوضع يدها على المؤسسات، وفي العراق قامت وتقوم بالأمر ذاته. ويبدو أن تجربتها في لبنان قدمت لها دروساً مفيدة تسعى إلى تطبيقها في هذا البلد الذي تأخرت في التوغل فيه إلى أن غزته الولايات المتحدة الأميركية في 2003، ففتحت لها ولمحازبيها طريق التدخل والتمزيق الطائفي.
في لبنان، يعود التدخل الإيراني إلى عام 1982، وهو لم يكُن ليحصل لولا الغزو الإسرائيلي ورعاية النظام السوري ورئيسه حافظ الأسد. وخلال أعوام طويلة، طوّر الإيرانيون حزبهم، ليشيروا عليه بعد 30 سنة من إنشائه بالدخول في المعترك الانتخابي (1992)، ثم ليجعلوه ركناً حاسماً في السلطة بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري (2005).
ارتبطت مصطلحات مثل "الثلث المعطل" أو "الضامن" في سياق تطور مشروع الهيمنة الإيراني في لبنان. وكانت اختراعاً سياسياً شاع في لبنان على لسان أنصار طهران. وبمقتضاها، جرى تعطيل مجلسي الوزراء والنواب لتنفيذ أهداف التوغل والنفاذ إلى الهيمنة على رئاسة الحكومة والحكومة وعلى موقع رئاسة الجمهورية. وهو ما تحقق في مجمله، ما زاد من تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في لبنان، ودفع البلاد إلى أسوأ مشكلة في علاقاتها مع دول الخليج العربي والعالم.
تلجأ إيران إلى الأسلوب ذاته في العراق.
فبعد فشل التنظيمات الموالية في الانتخابات النيابية ولجوئها إلى الترهيب لإلغاء نتائجها، ثم فشلها في تحقيق ذلك، تدخل الإيرانيون وزار قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بغداد مرتين برفقة محمد كوثراني، موفد "حزب الله" إلى العراق. وفي المرة الثانية، واكبه الممثل الخاص للإمام الخامنئي. لم تنتهِ الزيارتان إلى تغيير في قناعات القوى الفائزة، فكان مخرج الجماعات الموالية لإيران التهديد بـ"الثلث المعطل".
تطوعت الوكالة الإيرانية الرسمية "مهر" لشرح النظرية نقلاً عن الخبير فرهاد علاء الدين، رئيس المجلس الاستشاري العراقي:
"مجلس النواب لن يصوّت على انتخابات رئيس الجمهورية من دون حضور ثلثي عدد الأعضاء... وهذا هو الثلث المعطل". طبقاً لهذا الاجتهاد، فإنه في حال بقاء غالبية الصدر- الحلبوسي- بارزاني خلال جلسة انتخاب المرشح هوشيار زيباري، فإنها ستحتاج ليس إلى ثلثي الأصوات في الجلسة الأولى فحسب، بل إلى حضور ثلثي أعضاء البرلمان في الجلسة".
حرفياً، هذه كانت الاستراتيجية التي لجأ إليها أنصار إيران في لبنان لتعطيل مجلس النواب، حتى فرضوا انتخاب مرشحهم لرئاسة الجمهورية. وبالأسلوب ذاته، خاضوا مماحكات تشكيل الحكومة بدءاً من تكليف رؤسائها مروراً بتشكيلها وصولاً إلى تعطيلها وإقالتها. كانت الضغوط تتمة لمرحلة الاغتيالات والترهيب رديفاً للترغيب حتى تمكّن "الثلث المعطل" من فرض وجهة نظره. وفي العراق، سيتعين على التنظيمات الموالية لإيران "إقناع" 29 نائباً بالتغيب أو بالتغييب كي تعطي نظرية "الثلث المعطل" ثمارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يحصل هذا الحرج لأنصار إيران في العراق لولا الانتخابات وحيوية ناخبي "المكوّن الشيعي"، إذ فاز أصحاب التيار السيادي بالغالبية. وفي لبنان، حصل العكس تماماً، فالتيار الموالي لإيران لم يمسك بالتمثيل الشيعي فحسب، إنما اخترق التيارات الحزبية لطوائف أخرى، ما وفّر له غلبةً على غالبية شعبية تحتاج اليوم وعشية انتخابات نيابية مقبلة إلى تمثيل قادر وصلب.
لقي العراق في ظل حكومة مصطفى الكاظمي تعاطفاً عربياً نتيجة لممارسة الكاظمي سياسة انفتاح وتعاون مع دول الجوار العربي، خصوصاً الدول الخليجية. وانطلاقاً من الواقع العراقي المشرذم سعى، في الوقت ذاته، إلى علاقات طبيعية مع إيران. وكان مؤتمر بغداد لدول الجوار فرصة لتعزيز الدور الإقليمي للعراق، ما سينعكس لاحقاً في انتصار التيار السيادي في البلاد، من دون أن يعني ذلك أن الأمور قد حُسمت. فخسارة التيار الإيراني لم تنتج توتيراً سياسياً فحسب، إنما أعمال إرهابية في العاصمة، وفي صدفة غريبة، استعادة للنشاط الدموي لتنظيم "داعش".
سيحتاج لبنان إلى نتائج انتخابات كتلك التي أسفرت عنها مثيلتها العراقية ليتمكّن من البدء بوضع تشريعات تعزز مكانة الدولة على حساب "حشده الشعبي" الذي يهيمن اليوم على مفاصل السلطة وسياستها، ويتصرف في الإقليم كجناح عسكري إيراني، لبناني الأصل. وهذا سيكون صعباً في ظل أزمة معيشية خانقة توفر أرضاً خصبة للإغراءات وعمليات شراء الأصوات، وفي وقت تعاني منظمات سيادية من مشكلات دفعت بعضها إلى الابتعاد عن العمل السياسي كما حصل مع "تيار المستقبل" وزعيمه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري.
لقد وفرت المبادرة الكويتية - الخليجية فرصة للمسؤولين اللبنانيين للتفكير في جدول أعمال يفرضه الواقع اللبناني نفسه، ووفرت فرصة ثمينة للبحث في دور كل طرف وما يمكن أن يقدمه لإخراج لبنان من مأزقه من دون دفعه إلى حروب أهلية جديدة عاناها سابقاً وعرف أثمانها. وبقدر ما يتحمل المسؤولون اللبنانيون المسؤولية عن تنفيذ بنود تلك المبادرة، وغالبيتها مطالب شعبية لبنانية ملحّة، بقدر ما يحتاج لبنان إلى رعاية عربية في وجه مشروع التوسع المذهبي التخريبي.