ربما بسبب الأخبار السلبية المتعلقة بموجة التضخم التي تُنهك الاقتصادات في الوقت الحالي، وعلى الرغم من قوة الاقتصاد الأميركي، فإن التشاؤم يسيطر على الأميركيين، بخاصة أن هناك تناقضاً في اقتصاد كورونا، إذ إن الإنهاك الصعب الذي خلّفته تداعيات الجائحة، وارتفاع الأسعار يُلقيان بظلالهما على الاقتصاد الأميركي المُزدهر.
البيانات المتاحة تشير إلى أن اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية سجل نمواً قوياً خلال عام 2021، وهي أسرع وتيرة منذ أن كان رونالد ريغان في البيت الأبيض. فقد انخفض معدل البطالة خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي إلى مستوى 3.9 في المئة، وهو مستوى يعتبر تاريخياً يقترب من التوظيف الكامل. أيضاً، فقد نمت الأجور بشكل أسرع مقارنة بمعدل نموها خلال السنوات الماضية، وبخاصة بالنسبة للعمال ذوي الأجور المنخفضة.
وفي تصريحات حديثة، وصف رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، سوق العمل بأنها "قوية للغاية"، وقال إنه يتوقع أن تظل على هذا النحو، ولأول مرة في التاريخ الأميركي، يكون للعمال اليد العليا في سوق العمل. وتشير البيانات الرسمية، إلى أن نحو 4.5 مليون عامل آخر استقالوا من وظائفهم خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، سعياً وراء الحصول على وظائف أفضل وأجور أفضل في ظل سوق عمل متعطشة لمزيد من العمال والموظفين.
أسعار المنازل ترتفع والأسهم تقفز
في الوقت نفسه، وصلت أسعار المساكن إلى مستويات قياسية، ما أعطى العديد من مالكي المنازل حقوق ملكية قياسية في منازلهم، وتشير البيانات المتاحة، إلى أن سوق الإسكان في الولايات المتحدة الأميركية شهدت أقوى عرض منذ 15 عاماً في عام 2021، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المنازل، وارتفعت الأسعار بنسبة 20 في المئة تقريباً خلال الربع الثالث مقارنة بالعام السابق، وفقاً لوكالة تمويل الإسكان الفيدرالية، وقد تسببت المنافسة المحمومة وعلامات الأسعار الفلكية في توقف العديد من المشترين وانصرافهم عن الشراء خلال العام الماضي.
ومع بداية العام الجديد، ووفق مؤشر "فاني مايز هوم بيرشيز إندكس"، فقد رجح 26 في المئة من المستهلكين أن العام الحالي هو الوقت المناسب لشراء المنازل، لكن أحد الأسباب الرئيسة وراء ارتفاع الأسعار، يتمثل في أن هناك عدداً قليلاً جداً من المنازل في السوق، وسجل مخزون المساكن أدنى مستوى له على الإطلاق في ديسمبر الماضي، وطالما أن عدد المشترين أكثر من البائعين، فستظل المنافسة شرسة وسترتفع الأسعار، وفي سوق الأسهم، ارتفع مؤشر "ستاندارد آند بورز 500" بمتوسط 24 في المئة سنوياً على مدى السنوات الثلاث الماضية، مسجلاً رقماً قياسياً من أصحاب الملايين.
تداعيات كورونا ما زالت قائمة
وعلى الرغم من هذه البيانات الإيجابية، لماذا تظهر استطلاعات الرأي أن الأميركيين متشائمون للغاية بشأن الاقتصاد؟ وفق شبكة "سي أن أن"، فقد أظهر استطلاع جديد أجرته مؤسسة "بيو ريسيرش"، أن 28 في المئة فقط من معدل الاقتصاد ممتاز، أو جيد، وحتى بين الديمقراطيين، قال 36 في المئة فقط الشيء نفسه، لكن حتى تتضح الصورة بشكل أكبر، فإنه لا يمكن التداعيات التي خلّفتها جائحة كورونا على كل الاقتصادات، سواء المتقدمة أو النامية، وربما تضيف كل متحورة جديدة للفيروس، أنواعاً جديدة من الأزمات التي تصاحبها بالفعل تحركات تثقل من قدرة صناع السياسة المالية والنقدية على اتخاذ قرارات أكثر سلامة.
في الوقت نفسه، فإن الحديث عن قوة الاقتصاد لم يمنع الحديث عن التضخم المرتفع، وهذه البيانات الخاصة بالتضخم هي التي دفعت البنك المركزي الأميركي إلى مراجعة سياساته النقدية ووقف برامج التيسير والاتجاه إلى رفع أسعار الفائدة خلال العام الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أيضاً، فقد أدّى الإغلاق الذي تزامن مع انتشار الجائحة إلى تشويه سلاسل التوريد العالمية، ما أدّى إلى فترات انتظار طويلة لقطع الغيار ونقص في بعض السلع، كما أدّى تعطل العرض والطلب الاستهلاكي المتزايد إلى صدمة لاصقة في محل البقالة ومحطة الوقود وتجار السيارات.
أعلى معدل تضخم في 40 عاماً
لكن، كل عنوان إيجابي له جانب سلبي يتناسب معه، فعلى الرغم من الاعتراف بأن الاقتصاد الأميركي هو الأقوى منذ 40 عاماً، فإنه في الوقت نفسه، تعد موجة التضخم هي الأعنف خلال 40 عاماً، وتشير البيانات إلى أن سوق الإسكان شهدت زيادة بأكثر من 20 في المئة خلال العام الماضي، وهي زيادة أسرع بخمس مرات من العام السابق. كما ارتفعت الأجور، لكن في المقابل شهدت فواتير الخدمات زيادات كبيرة، وتقدر "موديز أناليتكس"، أن الأسرة العادية تدفع 200 دولار إضافية شهرياً لشراء السلع نفسها.
أيضاً، فقد انتهت صلاحية الائتمان الضريبي للأطفال الموسع الذي خفف من حدة أزمة التضخم العام الماضي، في طي النسيان مع حزمة الإعفاء التي قدمها الرئيس لإعادة البناء بشكل أفضل.
الغريب أن الأميركيين يشتكون من التضخم، لكن الأسعار المرتفعة لم تضرّ بإنفاقهم حتى الآن، وقد أبلغ عديد من الرؤساء التنفيذيين عند إعلانهم عن نتائج أعمال 2021، عن طلب قوي من العملاء، حتى بعد ارتفاع الأسعار. كما سجل الاقتصاد نمواً بنسبة 6.9 في المئة في الربع الرابع.
حصة كبيرة للتسوق في الناتج الأميركي
وحتى مع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ ما يقرب من أربعة عقود واستمرار دعم سلاسل التوريد من الإغلاق الوبائي، فإن الأميركيين سيعاملون دائماً التسوق في عيد الميلاد، مثل الرياضة الاحترافية، ويشكل الإنفاق الاستهلاكي أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاد الولايات المتحدة الأميركية.
ومع ذلك، فإن التضخم المرتفع يجعل الاحتياطي الفيدرالي الآن في وضع غير مستقر ومستعد لاتخاذ أي إجراءات للقضاء عليه. وبالفعل، سيبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة خلال شهر مارس (آذار) المقبل. وتعني هذه المعدلات المرتفعة تكاليف أعلى لقروض السيارات الجديدة والرهون العقارية وبطاقات الائتمان وديون الشركات، لذلك، فحتى علاج ما يعانيه الجمهور المنهك، سيأتي بتكلفة أكبر بالمعنى الحرفي للكلمة.
أيضاً، هناك عامل آخر في هذا التناقض يصعب تحديده كمياً، ويتمثل في التشجيع الرئاسي، فقد حصل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على ائتمان شخصي مقابل كل عنوان اقتصادي جيد، وسُجِّل ارتفاع قياسي في سوق الأسهم، حتى إنه أعلن أن سوق الأسهم يمكن أن تنهار إذا فاز جو بايدن بالبيت الأبيض، ولم يحدث ذلك بالطبع.
ولكن حتى بين الديمقراطيين، لا يبدو أن الرئيس الحالي جو بايدن يحصل على الفضل في الانتصارات التي منحها الجمهوريون للرئيس ترمب بحرية، ووفق استطلاع مركز "بيو ريسيرش"، فقد صنف 36 في المئة فقط من الديمقراطيين الاقتصاد على أنه ممتاز أو جيد.