في ظل الصعوبات المعيشية والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، يبتعد الشباب اللبناني أكثر فأكثر عن أحلامهم التي ترضخ للظروف الصعبة التي يعيشونها، بالنسبة إلى كثيرين، تبدو الهجرة الحل الأول والأخير حتى لا يقتلوا طموحاتهم، وإن كانت هذه الخطوة تحمل معها كثيراً من المرارة أيضاً. أما الذين يمكثون في البلد الذي ترعرعوا فيه، فيعيشون في خوف دائم من المستقبل نظراً للواقع المتأزم. من أولئك الشباب من يختارون اختصاصاً سرعان ما يتبين أن ظروف البلاد لا تسمح بالاستمرار فيه. فيضطرون، مرغمين، إلى تغيير مسار حياتهم، ومنهم من يرغمون على التخلي تماماً عن التعلم بسبب ظروف الحياة القاسية، لإعالة أهلهم وتقديم الدعم لهم، وكم منهم يضطرون إلى العمل في وظائف غير ملائمة لمساعدة الأهل في مواجهة ضغوط الحياة؟ نسمع يومياً عن قصص من هذا النوع تظهر نظرة اللبنانيين القاتمة نحو المستقبل، وإن كان قسم منهم ينجح في التأقلم مع الظروف، أياً كانت، فيجد سعادته والرضى الذي يبحث عنه، بشكل أو بآخر.
تدني في نسبة التعليم
بحسب تقويم صادر عن مكتب "يونيسف" في لبنان حمل عنوان "البحث عن الأمل"، دفعت الأزمة أربعة من كل 10 شباب وشابات في لبنان إلى خفض الإنفاق على التعليم في سبيل شراء المستلزمات الأساسية من غذاء ودواء وغيرها، كما انقطع ثلاثة من 10 عن التعليم نهائياً، ونسبة 31 في المئة من الشباب خارج دائرة العمل أو التعليم أو التدريب، وانخفضت نسبة الالتحاق في المؤسسات التعليمية من نسبة 60 في المئة في العام الدراسي 2020-2021 إلى 43 في المئة في العام الدراسي الحالي، وتؤكد هذه الأرقام الوضع المقلق للشباب اللبناني.
بالنسبة إلى سارة، تبدّل مسار حياتها مراراً بسبب ظروف الحياة في لبنان. فكانت اختياراتها على أساس ما يسمح به الوضع الحالي لا على أساس طموحاتها وتطلعاتها، دخلت أولاً إلى الجامعة اللبنانية في كلية العلوم حيث يُفترض بها أن تدرس علم الأحياء خلال عام حتى تخضع في نهايته إلى امتحان قبول لم يتم انتقاؤها فيه، اضطرت عندها إلى الانتقال إلى جامعة خاصة لتتخصص في مجال الصيدلة الذي تحب، إنما مع بداية الأزمة وتفاقمها، أُرغمت سارة مجدداً على التخلي عن حلمها هذا لعدم قدرة أهلها على تغطية تكاليف دراستها، تعرضت خلال العام الدراسي إلى كثير من الضغوط حتى شعرت باليأس، فعادت عندها إلى الجامعة اللبنانية مجدداً لتتمكن من متابعة تعليمها، إنما هذه المرة انتقلت إلى مجال الكيمياء الحيوية إذ لا امتحان دخول، فلا تضيّع عاماً جديداً كما حصل سابقاً، فقد بدا لها هذا المجال الأقرب إلى ما أرادت أن تتخصص فيه أولاً، وكان لا بدّ لها من التأقلم مع الوضع.
صحيح أن الهجرة تراود ذهن سارة، كما بالنسبة لأي شاب أو شابة في مثل سنّها، إلا أن تعلّقها الشديد بأهلها يمنعها عن مغادرة البلاد ويلزمها بتقبل الواقع سواء تمكنت من تلبية طموحاتها أو لا.
تختلف قصّة عبد الرحمن، إلى حد ما، عن قصة سارة لما أظهره من شغف وإصرار على التقدم أياً كانت التحديات، تعرّض إلى ضغوط أيضاً في بداية المشوار، إنما ظلّ متمسكاً بأحلامه، "تخصّصت أولاً في الكيمياء الحيوية ثم انتقلت إلى الكيمياء الصناعية في الجامعة اللبنانية. اخترت أي مجال يمكن أن أدخل فيه في الجامعة اللبنانية من دون امتحان دخول، وإن كان لا يجذبني بشكل خاص، إنما سرعان ما اكتشفت ميلي إلى مجالات أخرى."
يبدو واضحاً أن غياب التوجيه في لبنان بالنسبة للشباب يلعب دوراً في هذا الضياع الذي يعيشونه في اختيار مجالات تخصصهم، وسرعان ما اكتشف عبد الرحمن استحالة إيجاد عمل في مجال تخصصه، فيقيم في صيدا حيث لا توجد شركات أو معامل يتوظف فيها ليؤمن لقمة العيش، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تراجع واضح في إمكانات هذا القطاع، أما فكرة البحث عن عمل له في العاصمة فكانت صعبة، نظراً لتكاليف المواصلات المرتفعة جداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انطلاقاً من هذا الواقع، قرر عبد الرحمن أن يدرس بنفسه في اختصاص تطوير الأعمال، بما أن الظروف في البلاد عاكسته، قاده شغفه إلى الغوص في هذا المجال الذي وجد نفسه فيه، فطوّر مهاراته فيه وحرص على تثقيف نفسه بنفسه لينجح، تعاون بعدها مع أحد أقاربه للتأسيس لعمل، كما تم اختياره في إحدى الشركات التجارية لتوظيفه.
تحديات تقود إلى اليأس
الطريق لم يكن سهلاً أيضاً لستيفان سمعان، بل واجه تحديات كثيرة ومرّ بمراحل من اليأس والإحباط، إنما بالنسبة له يبقى الإصرار والعمل باجتهاد من أسرار النجاح ليحقق كل شاب أحلامه، "طوال فترة دراستي في الجامعة، واجهت صعوبات كثيرة حتى بلغت مراحل من اليأس الشديد. صودف أن انفصل والديّ عندما دخلت إلى الجامعة وكان عليّ الإقامة في السكن الجامعي وتدبر أموري بنفسي والعمل في الجامعة وخارجها أيضاً لأسدّد قسط الجامعة. في العام الثالث، كنت قد اعتدت على نمط حياتي هذا وعلى الاستقلالية، وبدأت أفكر بأنني سأعمل بعد التخرج وستكون ظروفي أفضل، فتخف الضغوط علي".
حصل ما لم يكن بالحسبان بالنسبة إلى ستيفان، فقد أُقفلت الأبواب كافة في وجهه بسبب الأزمة الاقتصادية، خسر عمله الذي يعتمد عليه لتسديد قسط الجامعة وتراكمت الديون عليه تجاه الجامعة حتى حُرم من الشهادة الجامعية عند التخرّج بسبب مبلغ 17 ألف دولار أميركي المتوجب عليه، عمل في مجالات مختلفة منها إعطاء الدروس الخصوصية وكعامل صندوق في محل تجاري، لكن بسبب كورونا والأزمة وجد نفسه من دون عمل.
بعد التخرج، ازداد الوضع صعوبة وغرق ستيفان في اليأس عاجزاً عن إيجاد مصدر أمل وتوقع أن تستمر حياته بهذا الشكل، هذا، إلى أن اتخذ قراراً بالتغيير أياً كانت الظروف، فكانت بداية مرحلة جديدة في حياته، خصوصاً أنه تلقى من جمعية "أتمنى" مساعدة مادية لتسديد الديون المتوجبة للجامعة. كانت البداية مع العمل التطوعي مع "LiveLoveBeirut" بعد انفجار المرفأ في مجال اختصاصه في قسم الهندسة، وبدأت عندها تفتح الأبواب أمامه، "وجدت في العمل التطوعي متنفساً لي، بمساعدة الآخرين. بدت مشكلاتي من دون أهمية أمام مصائب الآخرين، حتى أن المسألة المادية لم يعد لها أهمية لي".
وأثناء قيامه بهذا العمل، سنحت له فرصة عمل مع الأمم المتحدة في مجال تخصصه في الهندسة البيئية، وها هو اليوم ينتقل إلى فرصة أفضل في المجال الذي يعشقه، وبعد كل ما مرّ به من تجارب، يؤكد ستيفان أنه لا حدود لطموحاته وعلى كل شاب وشابة لبنانية الإصرار، على الرغم من الظروف، لتحقيق أحلامهم التي يجب ألا يقف شيء عائقاً أمامها، فحتى إذا كان الوضع سيئاً في لبنان، يجب الاجتهاد للتغلب على الظروف والتقدّم في الحياة.
الشباب اللبناني في عتمة قاتلة
قد تكون تجارب البعض إيجابية فعلاً بفضل الإصرار وفرص يمكن أن تفسح المجال للتقدم على الرغم من قساوة الظروف، إلا أن الواقع يؤكد أن الحياة صعبة بالنسبة للشباب اللبنانيين، وما يحصل اليوم يكبّل طموحاتهم وأحلامهم ويغرق كثيرين منهم في يأس قاتل. فليس للكل قدرة متماثلة على التأقلم مع مثل هذه الظروف، وبحسب مسؤولة مشروع الشباب في "يونيسف" عبير أبو زكي، فإن ما تظهره الأرقام من تراجع في معدلات التعليم ومستوياته وتوجه الشباب إلى مجالات عمل غير ملائمة لهم أو دون المستوى، مصدر قلق حقيقي على المستقبل، ما يدعو إلى بذل الجهود لتوفير كل الدعم للشباب، خصوصاً أن معاناتهم مستمرة في السنوات الأخيرة من النواحي كافة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعيشية والتي انعكست على مجالات التوظيف أيضاً، "الأزمة في البلاد دفعت من لديه الفرصة من الشباب إلى الهجرة، ما أدى إلى خسارة كثير من الطاقات، وحاول آخرون التأقلم مع الوضع بما أمكن، ولو كان ذلك على حساب طموحاتهم. لكن الواقع يؤكد أن هؤلاء ليسوا بخير، تسيطر حالة من اليأس بسبب الظروف، وتؤكد الأرقام أن منهم من يتركون التعليم سواء في المدارس أو الجامعات لمساعدة الأهل، دفعنا هذا إلى دعمهم عبر تطوير مهاراتهم خصوصاً تلك الحرفية من خلال تدريبات مكثفة حتى يصلوا إلى سوق العمل، ونعمل أيضاً على تأمين تواصلهم مع أرباب العمل، إضافة إلى تقديم الدعم النفسي لهم".
خلق الوظائف للشباب ودعمهم نفسياً وعملياً من الأساسيات اليوم بهدف تدارك المرحلة الأسوأ التي يمكن بلوغها في السنوات المقبلة، إلا أن هذا الدعم يتطلب تضافر الجهود بين الجهات المعنية بالشباب والسلطات لتوفير الفرص لهم حتى ينتجوا ويلبوا طموحاتهم، خصوصاً أن الإرشاد غير متوافر في لبنان، فإنقاذهم حاجة ماسة اليوم ولا يمكن التهاون في ذلك، في ظل الوضع المعيشي المتردي، وكثيرون من الأهل يعجزون عن توفير التعليم لأطفالهم، وبما أن نصف الشعب اللبناني أصبح تحت خط الفقر، يحتاج المراهقون في كثير من الأحيان إلى التخلي عن التعليم لمساعدتهم. ومن الشباب من تركوا مجالات اختصاصاتهم في الجامعة للانتقال إلى تخصص سريع والتوجه إلى مجال عمل يؤمن مدخولاً سريعاً لهم ولعائلاتهم بدلاً من التعلّم لسنوات طويلة من دون تقديم الدعم لذويهم، فلا يشعروا بأنهم عبء عليهم.
توضح أبو زكي أن العمل التطوعي لهؤلاء الشباب متنفساً يساعدهم في كثير من الأحيان ليجدوا أنفسهم فيه، وأيضاً لتطوير مهارات عدة يحتاجونها في سوق العمل حتى يكتشفوا ما يرغبونه في حياتهم ويكتسبوا خبرة في مجال اختصاصهم، لكن ثمة حاجة ماسة إلى التغيير في السياسة الشبابية والتربية والتعليم وإلى قوانين، إضافة إلى أهمية سماع صوت الشباب ليشاركوا في الحياة الاجتماعية بما أنهم مستقبل البلاد ويجب عدم التخلّي عنهم أو السماح بأن يصلوا إلى حد اليأس.
مستقبل البلاد في خطر
يمرّ لبنان حالياً بأسوأ أزمة في تاريخه، إنما لا تقتصر تداعيات الأزمة على المنحى الاقتصادي بل على مختلف الجوانب الحياتية، بشكل خاص لدى الشباب، ما يدفعهم إلى التخلي عن التعليم، ويعتبر الاستشاري في التنمية المستدامة كميل حاماتي أن التعليم البوابة التي فتحت المجال لكثيرين من الشباب لمغادرة البلاد كونه أسرع طريق للهجرة، "سنشهد على تداعيات هذا الواقع المأساوي في المدى البعيد حكماً لاعتبار أن الشباب هم حجر الأساس في البلاد. وبقدر ما يقل عدد المتعلمين في البلاد يزيد الإرهاب بالاستناد إلى دراسة كانت قد أجريت على 133 دولة. ومن البديهي أيضاً أنه بقدر ما يزيد التعليم، تخف مستويات الفقر. أما ما يحصل في لبنان، فمعاكس، إذ إن الفقر يزيد ومعدلات التعليم تتراجع ما يقود إلى نتائج مرعبة في المستقبل ومنها تزايد معدلات الفقر والعنف".
يبدو لبنان بحاجة ماسة اليوم، إلى إعادة بناء النظام التعليمي وتطويره ودعمه وتسهيل الوصول إلى المعرفة والثقافة، إضافة إلى القواعد الاجتماعية التي لا بد من العمل على ترسيخها بما يتناسب مع التطورات الحاصلة في العالم، كما أن دعم التعليم الرسمي حاجة ملحة لتسهيل حصول الجميع على العلم، فحتى أنه في التوظيف، تعطى الأولوية أحياناً لخرّيجي الجامعات الخاصة على حساب خرّيجي الجامعات الرسمية، بغض النظر عن الكفاءة ما يدفع خرّيجي الجامعة اللبنانية مثلاً إلى القبول بوظائف قد تكون دون مستواهم التعليمي أحياناً.
يتجه لبنان نحو الأسوأ لما للواقع الحالي للشباب من أثر على النمو في المستقبل، ما لم يتم تدارك الوضع والتدخل سريعاً للتغيير واتخاذ الإجراءات المناسبة للحفاظ على فئة الشباب، فلا بد من توفير الفرص والاستثمارات ومجالات العمل للشباب حتى ينخرطوا في المجتمع ويتغلبوا على حالة اليأس التي يمرون بها، في وقت تقتل الظروف الحالية أحلامهم، والمطلوب ألا يشعروا بأنهم مهمشون، فيتغلبون على الهواجس المرتبطة بالوضع المادي الذي يمنعهم غالباً عن التعلم وعن تطوير مهاراتهم والتوجه إلى الاختصاصات التي تجذبهم لتلبية طموحاتهم وإلى الوظائف اللائقة بهم.