تناول الجميع من نقاد السينما إلى الأفراد، كل على هواه، فيلم "أصحاب ولا أعز" من كل الجهات الممكنة، إلا في موضوعه الأصلي أي أسرارنا التي نخفيها داخل هاتفنا المحمول عن أقرب المقربين إلينا. وما تناوله الإعلام كان حول رد فعل الجمهور العربي عموماً على مشاهد معينة من الفيلم، تتعلق بثقافة اجتماعية تختلف من بلد ومجتمع محلي إلى بلد ومجتمع محلي آخر. هذه الثقافة ترفض بعض الألفاظ والمشاهد التمثيلية الحميمة تحت شعار "السينما النظيفة"، وهو شعار مصري بدأ تنفيذه منذ بدايات القرن الجديد تحقيقاً لسينما بلا مشاهد جنسية أو ما يتصل بالجنس، ويُقال إن منى زكي الممثلة التي أثارت الضجة العارمة في فيلم "أصحاب ولا أعز"، أحد رواد هذا النوع من الأفلام من بين الأجيال الشابة من ممثلي مصر. إنما ما يثير الاهتمام في هذا الفيلم سواء بنسخته العربية أو بنسخاته الأجنبية الأخرى، هو دور الهاتف المحمول في حماية أو فضح أسرار حامليه أمام الملأ العام أو أمام الأقارب أو أمام أحد المقربين جداً، وقد يكون زوجاً أو حبيباً (مؤنثاً ومذكراً).
أسرار الهواتف وتعقيداتها
اللعبة التي يلعبها الأصدقاء في الفيلم، هي لعبة أرادها كاتبو الفيلم ومنتجوه ومخرجوه بمختلف جنسياتهم، أن تعبر عن مدى تأثير وجود الهاتف المحمول في حياتنا الحميمة والسرية، والتي عادة ما نخفيها عن الآخرين الحشريين والراغبين بمعرفة أي أخبار عن الآخرين، وعادة ما يكون هؤلاء من الأصدقاء والأقارب. وانفضاح هذا النوع من الأسرار المخبأة على الهاتف بتحوّل إلى مشكلة معقدة مع الحبيبين أو الزوجين حين تصنف المعلومات المكتشفة تحت خانة الخيانة. والخيانة والمشاكل التي تؤدي إليها ليست ثيمة اجتماعية عربية أو شرقية فقط كما يعتقد البعض بسبب التمييز بين الذكور والإناث في مجتمعاتنا، أو الفارق الكبير بين الحرية الاجتماعية والمالية التي يملكها الذكر مقابل الأنثى، عدا الفرص التي يتمتع بها الرجال من انحياز العقلية الدينية له، وكذلك حصوله على فرص تعليم وعمل أفضل، بل ووصول الأمر في بعض المجتمعات العربية إلى غض النظر عن خيانات الرجل بينما تكون خيانات المرأة محل تجريم لها حتى الوصول إلى قتلها، تحت راية "حماية الشرف". وقد وقعت جرائم كثيرة بحق نساء في الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق خلال السنوات الماضية تحت شعار "حماية الشرف" أو "رد الاعتبار" بعد أن "لوثته" تلك المرأة المغضوب عليها، بحسب العرف الاجتماعي.
وعلى الرغم من كل هذه التعقيدات الاجتماعية والثقافية في العالم العربي، فإن محاولة الاطلاع على أسرار الآخرين سواء بالعنف أو بالقرصنة أو بالتخفي، هي عمل غير مقبول اجتماعياً في كل الثقافات وفي جميع أنحاء العالم، إذ بات البشر يعرفون تماماً أهمية خصوصياتهم الفردية. أما الخيانة فهي ثيمة سلبية في كل أنواع العلاقات وفي جميع أنحاء العالم، وليس في العالم العربي وحده كما قد يخيل للبعض.
إدمان عرض الحياة الخاصة
يُرجع بعض علماء النفس الإلكتروني وعلماء الاجتماع التواصلي، وهذان علمان جديدان تفرعا عن الأصل بعد ثورة الاتصالات وتأثيراتها الكبرى في حياة البشر وفي نفسيات الأفراد، يُرجعون بعض أسباب مرض العصر أي الاكتئاب، والذي ينتشر بين المراهقين أكثر من غيرهم من الفئات العمرية، إلى الشعور بفقدان الخصوصية، أو بالانكشاف التام أمام الآخرين. وقد لا يعرف المكتئب أن هذا هو سبب شعوره، لكن أبحاثاً كثيرة أجريت على مجموعات كبيرة من طلاب الثانويات والجامعات من فئات عمرية مختلفة، كشفت أن الهاتف المحمول يدفع حامله دفعاً نحو الانكشاف العام أمام كل الآخرين الذين يمكنهم الوصول إلى ما يعرضه عليهم حامل الهاتف. فبمجرد أن يبدأ عضو وسائل التواصل الاجتماعي بعرض صور للأماكن التي يزورها أو يعرض فيديو بشكل يومي للقاءاته أو لزياراته، فإنه من غير إرادته يصبح مواظباً على هذا العمل، وسرعان ما يكتشف أن جل حياته منذ استيقاظه حتى نومه، مع اقتطاع اللحظات الأكثر حميمية التي يمارسها يومياً، باتت على مرأى من كثيرين، كان ليختار في الحياة الواقعية ألا يعرفوا أين هو الآن في هذه اللحظة مثلاً. لكن إدمان الأمر يصبح أقوى من مقاومته.
ولكن ما يعرضه فيلم "أصحاب ولا أعز" بشكل سينمائي، أي أن الأصدقاء قرروا أن يكشفوا لبعضهم البعض عن أسرار هواتفهم في لحظة سهرتهم، أنهى الفيلم سينمائياً على ما شاهدناه، إلا أن هذا المثال على أرض الواقع يكون ذا تأثيرات كبرى في أنواع مختلفة من العلاقات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إما أنها خيانة وإما هي خيانة
وفي بحث أميركي حديث، جاء ما يُشبه الجزم بأن استخدام الشريك لهاتفه مدة طويلة في يومه، يؤدي إلى فقدان الثقة المتبادلة مباشرة لسببين، الأول أن الشريك سيطلب منه مشاركته "كلمة سر" هاتفه تحت حجة الثقة المتبادلة، فيكون على الشريك الآخر أن يقوم بأحد ردي الفعل: إما الموافقة، وهذا بالتالي سيؤدي إلى نشوء "شخصية" جديدة عنه، ذات قناع، وهي شخصية المُداري والمنتبِه والمُتيقظ في حال كان صاحب أسرار يعمل على إخفائها طوال الوقت، وليس بالضرورة أن تكون هذه الأسرار خيانة ما، بل مجرد أعمال خاصة أو علاقات صداقة غير مرتبطة بعلاقته بشريكه، وهي ستؤخذ في كل الأحوال على أنها إخفاء معلومات عن الشريك. وإما أن يرفض هذا الطلب تحت حجة الحرية الشخصية والمساحة الخاصة التي يحق لكل طرف أن يحتفظ بها، وهذا الرد هو بالتأكيد مكرّس لعدم الثقة، التي من أجلها كان الطلب في أساسه. وعدم الثقة في هذا النوع تتحول إلى شعور بالخيانة.
الهاتف المحمول، في كل حالاته قنبلة موقوتة، وفي حالات كثيرة انكشف فيها أحد الشريكين أمام الآخر بسبب اتصال مفاجئ مثلاً من امرأة غير متوقعة، أو وصول رسالة حميمة قرأها الشريك بطريقة أو بأخرى، تحولت هذه العلاقات إلى جحيم، في بعض العلاقات أدت إلى جرائم قتل، وفي أخرى أدت إلى الطلاق أو الانفصال أو إلى فتح قضايا قديمة كانت مخفية أو عالقة، فقلبت استقرار عائلات بأكملها رأساً على عقب. ويمكن للباحث عبر شبكة الإنترنت عن "جرائم المعلوماتية" أن يقرأ مئات الأمثلة عن مثل هذه القضايا في المحاكم أو في الإعلام.
واللافت للنظر، على الرغم من أن فيلم "أصحاب ولا أعزّ" حاول الإضاءة على هذا النمط المستجد من العلاقات القائمة على أسرار وخبايا وطرق التنصل لإخفاء المعلومات، عبر فتحها على الطاولة أمام الجميع، لم يتناول أي من النقاد العرب هذه الثيمة المهمة فيه إلا لماما. فقد وجهت الضجة الكبيرة التي أثارتها وسائل التواصل الاجتماعي النقاش كله من محتوى الفيلم الأساسي والذي تدور حولها كل أحداثه، إلى مشهد أو مشهدين بلا قيمة ولو فنية حتى. لكن النظرة الشرقية العامة، أي التي يقدمها العموم، تتناول كما جرت العادة، ما يطال التابوهات الجنسية من دون غيرها من التابوهات. وكأن الأسرار أو الخيانة المخبأة في الهاتف الخلوي لا تعتبر كذلك إلا إذا كانت جنسية، أما الخيانات الأخرى من نوع النميمة أو نصب الأفخاخ أو تعكير صفو عمل ما أو بث إشاعة كاذبة عن شخص أو عن شريكه، هذه كلها يمكن تمريرها على أنها نوع من أنواع العلاقات الاجتماعية بين الناس، لا على أنها أيضاً بدورها خيانات.