حين رحلت "سندريلا" الغناء العربي ليلى مراد عن عالمنا أواخر عام 1995، عن عمر يقارب الثمانين، كانت تعيش اعتزالاً طال أكثر من أربعين سنة، ومع هذا لم تكن من بين الفنانين الذين نسيهم الجمهور العريض. فليلى مراد، على الرغم من ابتعادها عن الحياة الفنية، تمثيلاً وغناءً، منذ النصف الثاني من سنوات الخمسين، ظلت تُسمع وظلت أفلامها تُكتشف ويعاد اكتشافها بحيث يمكن القول إنها بقيت حية في الأذهان لفترة طويلة جداً أعقبت اعتزالها. بل والأكثر من هذا أنها كانت لا تزال حاضرة من خلال عشرات الهواة في برامج تلفزيونية تقوم على تقليد مغنيات شابات لأغانيها كما لأسلوبها في الغناء. ومن المؤكد أن أحداً من مشاهدي هذه البرامج، أو أشهرها في الأقل، لم ينسَ أبداً أن واحدة من كبيرات الغناء الكلاسيكي العربي في زمننا الراهن، ماجدة الرومي تحديداً، كانت انطلاقتها كهاوية في سبعينيات القرن العشرين من خلال أدائها الرائع لأغنية ليلى مراد "أنا قلبي دليلي" لتصبح غداة المساء التي أنشدتها فيه، على كل شفة ولسان. ويقال حتى إن ليلى مراد نفسها استمعت إليها تلك الليلة قائلة: سيكون لهذه الشابة ذات الصوت الرائع مستقبل كبير. ولا شك أن مراد عاشت لتستمتع هي نفسها بالصعود المدوي الذي كان للمغنية الصبية اللبنانية من أصل فلسطيني منذ الثمانينيات انطلاقاً من ذلك الأداء، مستمتعة كذلك بعودتها من خلالها إلى واجهة الحياة الفنية العربية ولو للسنوات القليلة التي عاشتها بعد ذلك. ومن هنا كان حزن المستمعين والمشاهدين العرب عليها كبيراً يوم انتشر نبأ رحيلها.
ذكرى عصر ذهبي
ربما تذكَّر يومها كثر من الذين كان الزمن قد بعد بهم عن ذلك العصر الذهبي لفني السينما والغناء العربيين، تلك الطرفة التي كانت تأتي دائماً على شكل سؤال قد يُستغرب طرحه أول الأمر: ما القاسم المشترك بين ليلى مراد و... إسماعيل ياسين؟ وطبعاً لم يكن الوصول إلى جواب أمراً يسيراً. ولكن حين يحدث ذلك يقهقه طارح السؤال من الضحك. وذلك لأن الجواب مع ذلك بديهي وطريف. فليلى مراد وإسماعيل ياسين يتشاركان في كون عناوين العديد من أفلام كل منهما تحمل اسمه كجزء من العنوان! فمن "إسماعيل ياسين في البوليس" أو "في الجيش..." إلى آخر هذه السلسلة الظريفة من العناوين، إلى "ليلى بنت الفقراء" و"ليلى بنت الأغنياء" وما إلى ذلك، كان هذا الاستخدام للاسم الحقيقي في العنونة يعبر عما هو أكثر من "البطولة المطلقة"، ويعد بأن الجمهور سيأتي متزاحماً بالنظر إلى أن في العنونة هذه نفسها وعوداً تتجاوز الموضوع والفن والضحك والغناء... وفي اعتقادنا أن هذا النوع من "التكريم" لم يحظَ سوى فنانين قلة في العالم كله بما يشابهه، إذا استثنينا وجود اسم الإيطالي الكبير فلليني في عناوين عدد من أفلامه. لكن فلليني مخرج، وتلك الأفلام جزء من سيرته الذاتية مؤفلمة، في حين أن ليلى وإسماعيل، وكل على طريقته يقوم في أفلامه بأدوار متخيلة لا غير!
الفن منذ الطفولة
ليلى مراد، حين ولدت في 1918، كان ذلك في بيت فني مرتبط ارتباطاً أصيلاً بالحياة الفنية العربية والمصرية لا سيما بالموسيقى الشرقية. فجدها كان يشتهر بعزفه الرائع على آلة العود. أما أبوها زكي مراد فكان من الموسيقيين والمغنين المرموقين في مصر خلال العقدين الأولين من القرن العشرين. ومن هنا كان من الطبيعي لليلى مراد أن تتجه باكراً إلى الفن، وكذلك كان حال العديد من إخوتها، ابتداء بمنير مراد الذي عُرف لاحقاً بألحانه الإيقاعية الجميلة التي ستغني معظمها شادية وليلى مراد نفسها، وسيصل إلى الذروة في عدة ألحان غنتها شادية ومن بينها واحدة من أجمل الأغاني العربية على الإطلاق "إن راح منك يا عين" -التي كان الراحل الكبير محمود درويش يسمعها مرات عديدة في اليوم الواحد متحسراً من خلالها على زمن الغناء الجميل- وصولاً إلى شقيقتها سميحة التي بدأت حياتها مغنية مثل ليلى، لكنها لم تتمكن من أن تحقق من النجاح ما حققته صاحبة "يا طبيب القلب".
من الغناء إلى التمثيل
كانت ليلى مراد في الثانية عشرة من عمرها، في 1930، حين اعتلت خشبة المسرح لتغني للمرة الأولى أمام الجمهور، وكان ذلك في العام الذي انفتحت أمامها أبواب العمل في السينما حين دعيت لتغني في فيلم "الضحايا" من إخراج بهيجة حافظ، غير أنها لم تحصل على أول دور سينمائي حقيقي لها، إلا بعد ذلك بثمانية أعوام، أي في 1938، حين كانت في العشرين من عمرها. وكان من حظها أن تمثل دور البطولة، منذ ذلك الوقت المبكر، إلى جانب محمد عبد الوهاب في فيلم "يحيا الحب" من إخراج محمد كريم. فكان ذلك كافياً لإطلاق ليلى مراد، مصرياً وعربياً، إذ تضافر لديها جمال الصوت، مع شكلها الهادئ ومقدرة تمثيلية جيدة عبرت عنها، ليجعل منها ذلك كله تجربة جديدة بين النجوم الكبار في فضاء الحياة الفنية في مصر. ولقد ساعد انتشار الراديو والأسطوانات، وكذلك انتشار الأفلام المصرية في ذلك الحين، على ترسيخ مكانة ليلى مراد كواحدة من مغنيات الصف الأول، على الرغم من أن المنافسة كانت صعبة جداً في ظل الصعود المدوي لأم كلثوم من جهة، ولأسمهان من جهة ثانية. ومع هذا عرفت ليلى مراد كيف تشق طريقها بكل هدوء وثقة بالنفس، إذ، على الرغم من أن المخرجين كانوا ينظرون إليها أول الأمر على أنها كممثلة، غير مقتدرة كما ينبغي، عرفت بسرعة كيف تسيطر على فنها الأدائي، وكيف تفرض نفسها كممثلة كما فرضت نفسها كمغنية. ولقد ساعدها على ذلك اهتمام المخرج توغو مزراحي بها، وكذلك اهتمام الجمهور بشكل عام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحت إدارة الكبار و... الصغار
وإذا كانت ليلى مراد قد غنت العشرات من الأغنيات التي حققت نجاحاً كبيراً في طول العالم العربي وعرضه، فإنها مثلت نحو ثلاثين دوراً رئيساً في أفلام سرعان ما تحولت إلى أفلام ناجحة تجارياً. ولقد برعت بصورة خاصة في الأدوار الرومانطيقية ذات النزعة الدرامية. وكان العصر الذهبي لليلى مراد كممثلة، بين أوائل سنوات الأربعين، ومنتصف سنوات الخمسين، حين اعتزلت الحياة الفنية إلى حد ما، أو بالأحرى جعلت ظهورها حتى كمغنية نادراً. ومن أشهر الأفلام التي قامت ليلى مراد بدور البطولة النسائية فيها، إلى جانب كبار النجوم الذكور، فيلم "ليلى" (1942) المستوحى من مسرحية "غادة الكاميليا" لألكسندر دوما الابن، وهو الفيلم الذي أدى نجاحه إلى صنع عدة أفلام تالية كانت تحمل اسم ليلى في عناوينها: "ليلى في الظلام" و"ليلى بنت الأغنياء" و"ليلى بنت الفقراء" ثم "عنبر" و"غزل البنات" وهما فيلمان حققهما الممثل أنور وجدي الذي تزوجته في الأربعينيات وعاشت معه قصة ابتدأت غرامية وانتهت بخلافات شغلت الصحف والناس في ذلك الحين، حين وصلت شقة الخلاف بينهما إلى درجة استغل معها أنور وجدي كون ليلى مراد يهودية الديانة -قبل أن تعتنق الإسلام وتظل متمسكة به حتى نهاية حياتها- ليؤلب الرأي العام العربي عليها، يوم ضاعت فلسطين، زاعماً أنها تبرعت للعصابات الصهيونية بألوف الجنيهات. وهي ردت يومها على تلك التهمة الخطيرة، بإعلان تمسكها بمصريتها وعروبتها، مذكرة باعتناقها الإسلام، ما أكسبها معركة الرأي العام ضد أنور وجدي. ومنذ ذلك الحين لم تكف ليلى مراد عن التمثيل في أفلام جيدة حملت تواقيع بعض كبار المخرجين في مصر، من يوسف شاهين ("سيدة القطار" 1952) إلى هنري بركات ("شاطئ الحب" 1950). أما آخر فيلم مثلته فكان "الحبيب المجهول" (1955) من إخراج حسن الصيفي.
أين أنت يا ليلى؟
أفلام ليلى مراد تعرض حالياً على جميع شاشات قنوات التلفزة العربية وتنال نجاحاً كبيراً، يذكر الناس بالعصر الذهبي للسينما المصرية - العصر الذي شكلت ليلى مراد جزءاً أساسياً منه. أما أغانيها فتسمع من قبل الأجيال كافة، بما فيها الأجيال الجديدة التي تعيد، بكل إعجاب، اكتشاف أغانٍ كانت في الأربعينيات والخمسينيات، تحديثية مجددة، مثل "اطلب عينيَّ" و"اسأل عليَّ" و"يا طبيب القلب" و"جواب حبيبي" و"حكايتنا احنا الاتنين" و"أسهر وانشغل أنا" وغيرها من تلك الألحان الجميلة التي يحاول بعض بنات الجيل الجديد أداءها في أيامنا هذه فيصرخ الناس "أين أنت يا زمان ليلى مراد!".