أعادت حادثة مقتل "متحول جنسياً" في إقليم كردستان العراق الجدل حول حقوق مجتمع "الميم" إلى الواجهة في ظل "تقصير" حكومي، وانقسام في الرأي العام إزاء التعايش مع هذه الفئة، فيما تواجه جهود الأفراد والجماعات المدافعة عن حقوق المثليين عقبات وسط مجتمع شديد التحفظ، وغياب للتشريعات الكفيلة بتوفير الحماية القانونية.
وأعلنت شرطة محافظة دهوك عن العثور على جثة مواطن "متحول جنسياً" في 31 من يناير (كانون الثاني) الماضي، ويدعى دوسكي آزاد، في إحدى القرى التابعة لناحية "مانكيش". وتوجه أصابع الاتهام، بحسب التحقيقات الأولية، إلى "شقيق الضحية المقيم في خارج البلاد"، وعاد أخيراً إلى الإقليم. أضافت أن "الجاني كان خرج مع شقيقه البالغ 23 عاماً، وأقدم على قتله قبل أن يختفي"، مشيرة إلى أن "الجاني ما زال مختفياً".
وأفادت السلطات المحلية في الناحية بأن "دوافع القتل تتعلق بغسل العار لتحويل الضحية جنسه من ذكر إلى أنثى، وكان ينشر صوره عبر منصات التواصل الاجتماعي". مشيرة إلى أن "عائلة الضحية هي التي أبلغت الشرطة عن مكان الجثة".
وبحسب إفادات مقربين من الضحية فإن "آزاد ترك العائلة منذ 2018، وكان يعمل في مجال صالونات التجميل النسائية".
وغالباً ما يواجه الأفراد ضمن مجتمع "الميم"، أو ما يعرف اختصاراً بمجتمع الـ"أل جي بي تي" في معظم مجتمعات دول الشرق الأوسط، ومنها إقليم كردستان، التي توصف بـ"المتحفظة"، تحديات تتعلق بالتمييز والمضايقات، ولا يحظون بحماية قانونية ضد الاعتداءات التي تطاولهم بدوافع "جرائم الشرف".
أسباب دينية واجتماعية
وترى عضو لجنة "الشؤون الاجتماعية والدفاع عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان" في برلمان الإقليم، شادي نوزاد، أن "هذه الفئة، للأسف تتعرض باستمرار لكل أشكال العنف، وصولاً إلى القتل، في حين أن الجهات المعنية لا تولي الاهتمام اللازم، ومواقفها خجولة إلى حد بعيد".
وتضيف، "لنا تجربة مع العنف المرتكب ضد النساء، واليوم بلغنا مرحلة متقدمة في توعية المجتمع، لتغيير مفاهيمه وأعرافه القديمة، عبر تشجيع اللاتي يتعرضن للعنف إلى الإبلاغ، وهن يتلقين اليوم الدعم والحماية اللازمة".
واستدركت، "لكن، اليوم وتحت تبريرات الشرائع الدينية والأعراف الاجتماعية، فإن فئة الميم قد لا تجد من يدافع عنها، إذ تتعرض لأقصى درجات العنف، وهي القتل، وأنا شخصياً تقدمت بطلب لعدة مرات إلى اللجنة للعمل على هذا الملف".
وللشارع الكردي تجارب مع حالات معلنة من المتحولين جنسياً خلال السنوات الأخيرة، أبرزهم مغن يدعى "وحيد علي نجاد"، الذي حول اسمه لاحقاً إلى "زينة إليسا"، وعرف بدفاعه عن المثليين، على الرغم من أنه كان ينفي أن يكون مثلياً، وكان يحث على عدم "النظر بعين الريبة والتفرقة للمثليين، لأن طباعهم ناجم عن رغبة لا إرادية".
وعلى أثر مواقفه، واجه موجة انتقادات وسخرية لـ"تجاوزه" العرف والعادات والتقاليد الاجتماعية، ما دفعه إلى الهجرة نحو أحد البلدان الأوروبية.
كما قتل شاب اشتهر باسم "ميشو" بعد اختفائه أياماً في يونيو (حزيران) عام 2021، إذ كان يسعى إلى الهجرة هرباً من مضايقات والده وشقيقه ومحيطه الاجتماعي، بحسب ما أفادت حينها والدته في مقابلة تلفزيونية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا حماية قانونية
تقول النائب شادي نوزاد، "المادة المتعلقة بجرائم قتل النساء بدافع غسل العار لحسن الحظ خضعت لتعديلات، وأدرجت ضمن جرائم قتل العمد، وهذا يختلف عن القانون الاتحادي الذي يفرض عقوبات أخف"، داعية إلى "أهمية التعامل مع هذه الجريمة ضمن قضايا الشرف، أو ما يسمى غسل العار، فلا يوجد لا في الإقليم والمنطقة ككل قانون خاص لحماية هذه الفئة من المجتمع"، مشيرة إلى أن "المساعي التي يبذلها النشطاء للدفاع عن هؤلاء لا تخرج عن إطار الجهود الفردية، وفي معظمها تواجه عقبات جمة، وتجري في الخفاء، لأن المجتمع لم يصل بعد إلى مستوى تقبل هذه الحالات أساساً".
وفي عام 2010، واجهت مساعي الحكومة الكردية لتشريع "زواج المثليين" ضمن محاولات لتعزيز المساواة بين الجنسين، اعتراضات شديدة من قبل وزير الأوقاف الأسبق كامل حجي علي، وكذلك القوى السياسية الإسلامية، على الرغم من أن الحكومة والمؤيدين للخطوة أكدوا أن المقترح "لا ينحصر بحقوق المثليين بقدر ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية المتعلقة بالنساء".
تنديد دولي وأممي
وأصدر مكتب منسق "التوصيات الدولية" في حكومة الإقليم، مذكرة قبض بحق قاتل الضحية، وقد "جرى تعميم اسمه على المطارات والمعابر الحدودية بغية اعتقاله"، وأكد أنه "على الرغم من وجود بعض الظواهر المتعارضة مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية، لكن يجب التعامل معها في إطار القوانين والمحاكم"، مؤكداً أن "الإقليم يبقى ملاذاً آمناً لممارسة الحريات الفردية".
وسارعت بعثات أجنبية وأممية إلى إصدار مواقف الشجب، وقالت بعثة الأمم المتحدة إن حادثة قتل دوسكي "مرعبة ونترقب جهود من حكومة الإقليم، والتحقيق والمساءلة أمران أساسيان لمنع مثل هذه الجرائم تحت أي ذريعة كانت". وشددت على أن "الكراهية والتمييز أو ما يسمى جرائم الشرف لا مكان لها في مجتمع ديمقراطي".
كما دانت القنصلية الأميركية في أربيل ما وصفته بـ"العنف والتمييز اللذين يعدان الدافع الرئيس للجريمة بلا شك، فإننا نطالب السلطات بإجراء تحقيق شامل ومحاكمة الجاني لأقصى حد تسمح به القوانين النافدة"، في وقت علقت فيه القنصلية الألمانية عبر حسابها في "تويتر" قائلة إن "كرامة الإنسان يجب أن تكون مصونة، ولا يجوز مساسها".
وكتب القنصل الفرنسي أوليفيير ديكوتيكنيس العبارة ذاتها على حسابه في "تويتر"، وتلقى الأخير إشادة من بعض المعلقين، بينما ندد آخرون بموقفه، مستذكرين "انتهاك فرنسا والدول الغربية حقوق اللاجئين الأكراد، وعدم احتضانهم كلاجئين، وسكوتها عن الانتهاكات ضد المتظاهرين في الإقليم". وكتب أحدهم، "أرجو إبلاغ القنصل بأنه الآن يقيم في الشرق الأوسط، لا في الشانزليزيه"، في إشارة إلى الشارع الشهير في العاصمة الفرنسية باريس.
ردود متباينة
ردود أفعال الشارع الكردي انقسمت بين مؤيد ورافض ظاهرة "الميم"، والتقت "اندبندنت عربية" بعض المواطنين للتعرف إلى موقفهم من حالات "التحول الجنسي". يقول عمر إبراهيم (38 عاماً)، "لا أستطيع استيعاب ما يحدث من مظاهر دخيلة على مجتمعنا الكردي، أصبحنا نرى المتحولين أو المثليين في الأماكن العامة بصورة لم نعهدها من قبل. تبدو شبه ظاهرة، وهي في الحقيقة مقززة ومشمئزة من شأنها أن تهدم قيمنا المجتمعية والأسرية".
ويعتقد إبراهيم أن "دولاً غربية تدفع بهذا الاتجاه، لتحطيم نسيج وتوازن مجتمعنا الملتزم بعاداته وأخلاقه، ولنتذكر كيف أن القنصلية الأميركية في أربيل رفعت مرة علم المثليين (ألوان قوس قزح) احتفاءً بيوم التضامن العالمي مع هذه الفئة".
وبشأن موقفه من قتل المتحولين قال بانفعال، "لا أستطيع تخيل لو كان أحد هؤلاء من أبنائي، حقيقة لا يمكنني استيعاب موقف المجتمع تجاهي وأسرتي، ربما لا أستطيع أن أقرر حالياً، لكن خيار القتل قد لا يكون مستبعداً".
وكانت سفارات عدد من دول الاتحاد الأوروبي قد رفعت في مايو (أيار) 2020 علم "الألوان" على أسطح مبانيها، احتفاءً بـ"اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية"، سبقتها بذلك القنصلية الأميركية في أربيل عام 2017، ما دفع وزارة الخارجية العراقية إلى شجب الخطوة، واعتبرتها "منافية للقيم والأعراف الاجتماعية، ومستفزة للمشاعر والمعاني الدينية المقدسة"، كما أعلنت جهات دينية وسياسية عن موقف مماثل للحكومة.
من جهته، قال المواطن سيروان صالح (30 عاماً)، "حالات التحول الجنسي في مجتمعنا تبدو مستحيلة على الهضم، وغير قابلة للنقاش إلى حد بعيد". واستدرك، "لكن، من الأفضل أن تبحث الجهات المعنية، من مؤسسات حكومية ومنظمات مختصة، في أسباب هذه الحالات من النواحي الاجتماعية والعلمية، ووضع الحلول الكفيلة لمعالجة المشكلة التي لها دون شك انعكاسات سلبية على المجتمع برمته، ومساعدتهم للعودة إلى حالتهم الطبيعية والانخراط في المجتمع".
خارجون عن الفطرة
لكن من منظور ديني، يرى علماء ومراجع في المذاهب الإسلامية أن المثليين والمتحولين جنسياً "على الرغم من الاختلاف في هرمون الذكورة أو الأنوثة فإنهم يعدون خارجين عن فطرة الإنسان". وتعتبر أفعالهم "خطيئة من الكبائر، وعليهم الرضا بقضاء الله". ويشددون على وجوب "نبذ وتجريم هذه الرذيلة".
وتنسجم هذه الرؤية مع أعراف وتقاليد شعوب المنطقة التي توصف بالذكورية أو "المتحفظة"، لكن قسماً آخر يؤكد عدم وجود نصوص دينية تدعو إلى القتل.
جهود "توعوية"
وتُعد الطبيبة الكردية نيجين جعفر، الأخصائية في الأمراض "النسائية والأطفال" والمقيمة في الدنمارك، من القلائل اللاتي يقمن بجهود "توعوية" على صعيد الثقافة الجنسية، ومنها "التعايش مع مجتمع الميم"، وذلك عبر محاضرات تنشرها عبر صفحتها في موقع "فيسبوك" التي يتابعها أكثر من 525 ألف مشترك.
وقد نشرت أواخر العام الماضي شريطاً مصوراً لمجموعة من الشباب الأكراد يحتفلون في إحدى الدول الأوروبية، بمناسبة رأس السنة رافعين علم "القوس قزح" إلى جانب العلم الكردي، وكتبت، "هذا المشهد بالنسبة لي أكبر هدية أتلقاها في رأس السنة"، معربة عن سعادتها "في أن يشارك الرجال والنساء الأكراد في احتفال يمكنهم فيه رفع علم الألوان، ويقولون نحن جزء من هذا الكوكب".
ودعت جعفر الشعب الكردي إلى "التعايش المشترك وإيلاء الأهمية للقيم الإنسانية بعيداً من اعتبارات الانتماء الديني والسياسي والفوارق الطبقية، أو أن هذا مثلي، أو ذاك متحول، لأن الجنس مسألة خاصة تتعلق بخصوصية الفرد".
وأضافت، "هؤلاء ليسوا مرضى لكي ينقلوا مرضهم إلى الآخرين، اتركوا المفاهيم القديمة، نحن في عصر العلم، اركبوا قطار العلم قبل أن يفوتكم، فليس من حق أحد أن يتحكم بحياة الآخرين".
سجال محتدم
كما أثارت حادثة قتل دوسكي سجالاً حامياً بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أبدى قسم تعاطفاً مع الضحية، وعلق سيروان حمة قائلاً، إن "تعرض هرمونات أي شخص إلى خلل ما، فمن المؤكد سيتجه نحو تحويل جنسه باندفاع لا إرادي، لذا يجب احترام كل إنسان، خصوصاً عندما تكون إرادة الله". وتساءل: "ما مشكلة الناس مع شخص يريد تغيير جنسه؟".
لكن قسماً آخر اعتبر المتحولين "عاراً يشوه سمعة أسرهم". وقال أحدهم مستخدماً اسماً وهمياً، "إذا ما وضع أحدنا نفسه مكان ذلك الأب أو الأخ وهما يريان إقدام أحد أفراد أسرتهما على تحويل جنسه إلى أنثى ليمرغ سمعتهما في الأرض، وسيلامان من الناس لعدم قيامهما برد فعل، وعندما يقتلانه فإن نفس هؤلاء الناس سيلومونهما بداعي الرحمة".
فيما أكد آخر أنه يعارض الانتقام بقتل الآخر "باستثناء حالات من يرتكب جريمة القتل العمد، وكل مرتكب لجرائم الاغتصاب وتجار المخدرات والخونة". أضاف، "أما مثل حالة التحول الجنسي فيجب أن تكتفي العائلة بالتبرؤ منه، وطرده لعله يتوب، وما حدث يعتبر جريمة قتل".
ووجه السياسي العراقي البارز غيث التميمي انتقادات لاذعة لمبرري دوافع القتل. وقال، "كائن بشري يعتقد أنه أنثى متصالح مع شعوره الأنثوي أكثر من الذكوري، لا يكتفي المجتمع بقتله، بل لعنه وشتمه، فقط لأنه يعتقد أنه أنثى، وكل جريمته أنه يمارس سلطته على جسمه ومشاعره، مثل هكذا مجتمع يحتاج إلى يقظة معرفية وحقوقية ليفيق من ضلاله".
وعلقت صفحة في "فيسبوك" تحمل اسم "منظمة إنسان بلا حقوق لمجتمع الميم العراقي" على حادثة مقتل المتحول الكردي قائلة، إن "وسائل الإعلام والشرطة غالباً ما تتكتم على الإعلان عن حوادث العنف التي تطاول أفراد مجتمع الميم في باقي مختلف مناطق العراق، في حين يجري ذكرها في إقليم كردستان".
وأضافت، "لقد ازدادت حوادث القتل التي تستهدف العابرات جنسياً في إقليم كردستان خلال الفترة الماضية، مما يشعرنا بالقلق من زيادة هذه الحوادث باستمرار على أفراد مجتمعنا، ونوصيهم بتوخي الحذر".