ملخص
قرأ حافظ الأسد عام 1994 المتغيرات العالمية بتمعن أكثر ونظرة مختلفة، لربما لإدراكه أن رياح التغيير التي شهدها العالم في تلك المرحلة قد تلفح بسوريا وقياداتها، وتنفرد "اندبندنت عربية" بنشر وثائق ومراسلات رفع الأرشيف الوطني البريطانية السرية عنها ضمن ملف يحمل التصنيف (FCO 93/8079)، وفيها قراءة بريطانيا لمقاربة الأسد نفسه للمتغيرات العالمية خلال تلك المرحلة.
يتذكر السوريون في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) كل عام الانقلاب الذي شهدته دمشق وأطاح رئيس البلاد نور الدين الأتاسي ليحل مكانه وزير الدفاع حينها حافظ الأسد رئيس الأركان مع قيادات عسكرية كبيرة، وهو الانقلاب الذي عرف حينها بالحركة التصحيحية في حزب البعث السوري، وقد عيّن أحمد الحسن الخطيب رئيساً موقتاً للبلاد قبل أن يصبح حافظ الأسد رئيساً ويبقى في سدة الحكم لنحو 30 عاماً.
وخلال تلك المرحلة شهدت الدولة السورية وكذلك المنطقة والعالم كثيراً من المتغيرات الجوهرية، مع اشتداد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي الذي تفكك في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ومعه كذلك شهدت أوروبا الشرقية أحداثاً كبيرة أدت إلى تفكك دول كانت قائمة ونشوء دول أخرى.
قرأ حافظ الأسد حينها، وتحديداً عام 1994، المتغيرات بتمعن أكثر ونظرة مختلفة، لربما لإدراكه أن رياح التغيير التي شهدها العالم في تلك المرحلة قد تلفح بسوريا وقياداتها، وفي هذا السياق تنفرد "اندبندنت عربية" بنشر وثائق ومراسلات رفع الأرشيف الوطني البريطانية السرية عنها، ضمن ملف يحمل التصنيف FCO 93/8079))، وفيها قراءة بريطانيا لمقاربة الأسد نفسه للمتغيرات العالمية في تلك المرحلة.
خطاب الرئيس حافظ الأسد
في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1994 أرسل المستشار ونائب رئيس البعثة البريطانية في دمشق ب. إي. ستيوارت تقريراً سرياً إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن، ركز فيه على أبرز النقاط الواردة في خطاب الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الذي ألقاه أمام الفائزين بالانتخابات التشريعية في سوريا، والتي أُجريت في الـ 24 والـ 25 من أغسطس (آب) 1994، فيما كانت هذه الانتخابات السادسة التي تُجرى في ظل هيمنة حزب البعث ورئاسة حافظ الأسد المستمرة، وكانت نتيجتها كما سابقاتها بفوز حزب البعث العربي الاشتراكي بغالبية مقاعد البرلمان، ويذكر ستيوارت في تقريره السري كيف أن الأسد أكد في خطابه التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأهمية الإصلاح الاقتصادي والسياسي التدريجي لتجنب انهيار مشابه لما حدث في أوروبا الشرقية.
ومما جاء في نص التقرير "لقد أبلغنا بالفعل (في رسالتنا رقم 219- رسالة سابقة) عن الجزء من خطاب الرئيس الذي تناول عملية السلام، ولكن الجزء الأكبر من الخطاب كان عبارة عن مراجعة لحال الأمة، إذ قدم توجيهات للمجلس وللجمهور العام الأوسع حول الطريق المستقبلي".
ويضيف، "بدأ الرئيس الأسد خطابه بفقرة طويلة تتحدث عن واجبات ومسؤوليات النواب الجدد، وأشاد بالعملية الديمقراطية التي أتت بهم إلى المناصب وأعطتهم حرية مناقشة القضايا الوطنية وانتقادها، وفي ظل هذه المبادئ ستحكم سوريا بشكل فعال من خلال علاقة تعاونية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا أعتقد أن الأسد كان يحاول خداع أو تضليل المستمعين، وأعتقد أنه يؤمن فعلاً بأن هذا النوع من العملية الديمقراطية يحدث بالفعل، ومن المحتمل أن يكون ذلك مجرد تفاؤل أو ربما إشارة إلى أنه قد يفكر في دور أكثر إيجابية لمجلس الشعب".
لكن نائب رئيس البعثة البريطانية في دمشق حينها علق في خلفيات الخطاب معتبراً أن خلف كل الخطاب البلاغي حول قدرات الشعب السوري والإنجازات المحققة بفضل حركة التصحيح، والذي كان الموضوع الأبرز، هو الحاجة إلى التغيير الاقتصادي والسياسي في سوريا، وفيما يؤكد الأسد في كلامه أن "جهدنا المستمر هو تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة"، لكنه ليس في عجلة من أمره لإجراء إصلاح جذري سريع، يقول ستيوارت.
ثم يتحدث الأسد بعد ذلك عن الحاجة إلى التغيير الاقتصادي والاجتماعي جنباً إلى جنب، وهو "أمر نادر في كثير من المجتمعات البشرية"، وهنا يعلق معد التقرير البريطاني بالقول "توضح هذه الملاحظات بوضوح كيف شاهد السوريون الأنظمة السابقة في أوروبا الشرقية تتفكك، وكيف أنهم عازمون على عدم حدوث شيء مماثل هنا".
دعوة لتجاوز الأيديولوجيات القديمة
عرض الأسد في خطابه وفي تلك المرحلة عملية الإصلاح كجزء من تطور تدريجي للمجتمع السوري وليس كتحول جذري، متحدثاً عن ضرورة تجاوز الأيديولوجيات القديمة، وتضيف الوثائق البريطانية السرية كيف أن الرئيس السوري دعا إلى تعزيز الإيجابيات والتخلص من السلبيات التي تعيق التقدم، وركز على أهمية المصلحة الوطنية فوق المصالح الشخصية، كما أشار إلى تراجع دور المؤسسات التقليدية للنظام البعثي.
ويقدم الأسد عملية الإصلاح على أنها جزء من تطور مستمر للمجتمع السوري، مشيراً ضمنياً إلى أن النهج الأيديولوجي المرتبط بالماضي لم يعد مناسباً، وأكد أهمية توضيح العلاقة بين القديم والجديد وأهمية توضيح هويتنا، ووفقاً لمعايير السياسة السورية والخطاب العربي فإن هذا يُعد تأكيداً واضحاً للنهج البراغماتي، ولذلك يحث الأسد جمهوره على تعزيز كل ما هو إيجابي والتعرف إلى الجوانب السلبية والتخلي عنها، تلك الجوانب التي تعوق التقدم.
وهنا يقرأ ستيوارت في كلام الأسد قائلاً إن السوريين كانوا يعلمون تماماً ما يقصده، وفي الواقع فبعد أن دعا أعضاء المجلس إلى خدمة الوطن والمواطنين بدلاً من المصالح الفردية والشخصية، أضاف الأسد جملة مرتجلة بابتسامة جادة على نحو ساخر قائلاً "وهذا ينطبق على الوزراء أيضاً"، مما أثار تصفيقاً حاراً من أعضاء المجلس، كما تلقت العبارة نظرات متفاجئة من الوزراء الجالسين في الشرفة"، تكشف الوثائق السرية.
ويتوقف التقرير عند ذكر الأسد في خطابه المؤسسات التقليدية للنظام البعثي مرة واحدة فقط باعتبارها الأدوات التي نُفذ من خلالها العمل السياسي في الماضي، ويضيف "يبدو أن هذا يدل على أن هيكل الحزب وعلى رغم كونه لا يزال واسعاً، لم يعد المحرك الأساس في العملية السياسية".
تطمينات للجيش وتعهد بالإصلاح والسلام
لم يغب الأسد عن ذكر الجيش السوري في هذا الخطاب مما أثار انتباه البريطانيين في تقريرهم السري الذي تنشر تفاصيله "اندبندنت عربية"، وهنا يقول نائب رئيس البعثة البريطانية إن الأسد اختتم خطابه بالتأكيد على دور الجيش المركزي لطمأنة المؤسسة العسكرية حيال التغييرات المتوقعة، وأبرز التزامه بالإصلاح السياسي والاقتصادي وتحقيق السلام، ويضيف معلقاً "كان الخطاب موجهاً إلى كل من الجمهور المحلي والدولي مع التركيز على التوازن بين التغيير والاستقرار".
ويضيف، "كما تعلمون من تقاريرنا الأخيرة فهناك شعور بالقلق داخل الجيش السوري، وكان على الأسد أن يأخذ هذا بعين الاعتبار، لذا وبعد الإشارة إلى العواقب المؤلمة للتغيير والحاجة إلى التكيف، وهو أمر سيؤثر بشكل كبير في القوات المسلحة، كان على الأسد أن يقدم تأكيدات بأن الجيش سيحتفظ بدور مركزي".
وفي خلاصة قراءة خطاب الأسد يقول ستيوارت إنه "يمكن مقارنة خطاب الأسد بتلك الكتب التي تعتمد على الأوهام البصرية وتتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في لندن، فكلما نظرت إليها أكثر كلما بدت أكثر تعقيداً، وهناك رسالتان أساسيتان: أن سوريا ملتزمة بالإصلاح السياسي والاقتصادي مع تحقيق سلام حقيقي، وأعتقد أن هذه الرسائل كانت موجهة بقدر كبير إلى جمهور إقليمي ودولي كما كانت موجهة إلى الجمهور المحلي".
هذا التحليل البريطاني عن تحقيق سوريا للسلام الحقيقي لم يأت من عبث، إذ قال الأسد في خطابه عن عملية السلام "نحن نريد السلام حقاً، والجميع مهتمون بالسلام، ولكننا نقاوم أيضاً كل من يجعل السلام حكراً عليه، فسوريا ولبنان عازمتان على التنسيق ونموذج العلاقات الذي يجب اتباعه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل من يذكر ما حصل في تلك الفترة يفهم كلام الأسد بعمق أكثر، فهذا الخطاب أتى بعد أشهر قليلة من محاولة أميركية جديدة لإحياء مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا، وتحديداً في يوليو (تموز) عام 1994، وحينها شهدت واشنطن جولة جديدة من المفاوضات بين البلدين تناولت الترتيبات الأمنية في الجولان بعد الانسحاب الاسرائيلي، لكن هذه المفاوضات التي استمرت لأشهر قادمة لم تصل إلى النهاية المرجوة.
خطوط الترسيم في الجولان
يكشف الملف البريطاني السري في سياق آخر كيف أن نائب رئيس البعثة البريطانية في دمشق ب. ستيوارت أرسل في مرحلة أخرى تقريراً إلى وزارة الخارجية البريطانية في سبتمبر (أيلول) 1994 يتناول المناقشات حول الحدود الإسرائيلية - السورية في سياق عملية السلام، ويشير التقرير إلى وجود خطوط حدودية مختلفة في مرتفعات الجولان التي قد تنسحب منها إسرائيل في حال التوصل إلى اتفاق سلام، ويستفسر ستيوارت في رسالته عن توافر ملخص شامل من وزارة الدفاع البريطانية يوضح جميع خطوط الترسيم السابقة، بما في ذلك حدود وقف إطلاق النار والحدود الانتدابية وحتى الحدود العثمانية، نظراً إلى تعقيد مسألة الحدود في المنطقة.
ومما أتى في رسالته أنه "في المناقشات التي أجريت مع الزملاء هنا (سوريا) خلال الأشهر الأخيرة وفي بعض التقارير عن عملية السلام، وردت إشارات إلى خطوط حدودية مختلفة على الجولان أو أسفله قد تنسحب إليها إسرائيل في سياق اتفاق سلام محتمل، ولدينا بعض الخرائط التي تظهر خطوط وقف إطلاق النار المختلفة، وأعتقد أنني حددت منطقة حماة التي يبدو أن الإسرائيليين غير راغبين في التخلي عنها، ولكن كل هذا يدفعني إلى التساؤل عما إذا كان أي شخص في قسم التخطيط الإقليمي أو في أقسام رسم الخرائط في وزارة الدفاع قد جمع ملخصاً شاملاً مصوراً مع خرائط توضح كل خطوط الترسيم وتشرح وضعها".