قد يبدو إنفاق آلاف أو ملايين الدولارات لشراء أرض أو منزل وهمي في عالم افتراضي، فكرة سخيفة أو غير معقولة، ولكن خلال الأشهر الأخيرة، تدفقت استثمارات ضخمة من شركات وأفراد لشراء عقارات في الأراضي والمساكن الافتراضية في عالم "ميتافيرس" بلغت قيمتها 501 مليون دولار خلال العام الماضي وسجلت في يناير (كانون الثاني) الماضي 85 مليوناً، بينما يتوقع أن تتجاوز المليار دولار مع نهاية العام، فما سبب هذا الإقبال وهل يمكن أن يستمر أم أن شراء عقارات افتراضية قد يثبت في النهاية ألا قيمة لها؟
عالم الغد
قد يكون العالم الافتراضي والمعزز المعروف باسم "ميتافيرس" هو عالم الغد، لكن أهم ما يجعله يخلق فرصاً للمستثمرين اليوم، هو ذلك الشغف باستكشاف عوالم بعيدة كجزء من تجربتنا الإنسانية الممتدة عبر التاريخ من الإبحار حول العالم إلى زيارة كواكب أخرى، إذ تظل الرحلات إلى عوالم مجهولة تشعل الخيال وتدفع بالابتكار والاستثمار.
وعندما ينظر الناس إلى "ميتافيرس"، فإنهم يفكرون فيه باعتباره عالماً رقمياً للمستقبل، فهو مثل التطور التالي في عالم الإنترنت، فإذا كان الجيل الأول من الشبكة العنكبوتية لم يسمح سوى بتلقي المعلومات من صفحات "الويب" في اتجاه واحد، بينما سمح الثاني الذي نعيشه الآن بالتفاعل والتواصل بين البشر بالصوت والصورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات المختلفة، فإن الجيل الثالث الذي بدأت بوادره في الظهور، يتوقع أن يسمح يوماً ما للأشخاص بالتفاعل والعمل والتعلم والتدريب واللعب والترفيه في مساحات افتراضية واسعة ومتعددة قد تفوق خيالنا الآن.
وبينما تتبنى شركات التكنولوجيا الكبرى فكرة "ميتافيرس"، وتربط مستقبل أعمالها ومشروعاتها بها، فإنها أيضاً تخلق فرصاً للمستثمرين، وبالتحديد في الواقع الافتراضي والواقع المعزز، ومع تطور هذه التقنيات التي تستهدف إنشاء خبرات وتجارب رقمية متصلة ببعضها، من المتوقع زيادة إجمالي الإنفاق على الواقع الافتراضي والواقع المعزز لـ"ميتافيرس" في جميع أنحاء العالم ليصل إلى 72.8 مليار دولار في عام 2024، مقارنة بنحو 12 مليار دولار فقط تم إنفاقها على هذه التقنيات خلال عام 2020، ولكن للتذكير، ينبغي توضيح مفاهيم مثل "ميتافيرس" والفارق بين الواقع الافتراضي والواقع المعزز.
"ميتافيرس" والواقع المعزز والافتراضي
الواقع المعزز هو نسخة محسنة من العالم المادي الواقعي يتم تحقيقه من خلال استخدام العناصر المرئية الرقمية أو الصوت أو المحفزات الحسية الأخرى التي توفرها التكنولوجيا، وهذا يعني أنه يجمع بين العالم المادي والعالم الافتراضي من خلال تراكب الصور أو الرسوم المتحركة التي تنشئها برامج الكمبيوتر، فعندما تنظر من خلال كاميرا الهاتف أو الجهاز اللوحي، سيظهر نموذج ثلاثي الأبعاد كما لو كان في العالم الحقيقي، وذلك على عكس الواقع الافتراضي الذي ينغمس في بيئة مصطنعة تخيلية تماماً مثل المحاكاة من خلال برامج كومبيوتر، وتعتمد على اثنين من الحواس الخمس، هما البصر والصوت، حيث يمكن للشخص الذهاب داخل تلك البيئة والقيام بأمور وأشياء هناك، مثل التحدث إلى أشخاص آخرين أو ممارسة الألعاب أو المشاركة في اجتماع أو مجرد التجول في نزهة على الأقدام والاستمتاع بالمناظر.
أما "ميتافيرس" فهي نسخة مفصلة من منصات الواقع الافتراضي يتفاعل الناس فيه مع بعضهم البعض من خلال صورهم الرمزية الرقمية، فبدلاً من الجلوس على وحدة التحكم ومشاهدة لعبة ما على الشاشة سيكون بوسعك المشاركة كلاعب داخل اللعبة، ويمكنك لقاء الأصدقاء وزملاء العمل والجلوس معهم في المكان الذي تفضلون بأي مدينة في العالم، أو الذهاب للتسوق وحضور الاجتماعات والمشاركة في احتفالات، ويتم كل ذلك من خلال سماعات الواقع الافتراضي ونظارات الواقع المعزز ووحدات التحكم في الألعاب أو عبر الهواتف الذكية أو الكمبيوتر.
استخدامات الحاضر والمستقبل
بالنسبة للأفراد، تعد الألعاب والترفيه أكثر الاستخدامات الحالية وضوحاً لتطبيقات الواقعين الافتراضي والمعزز، لكننا نشهد أيضاً عدداً ممن يقومون بتنظيم حفلات أو جولات افتراضية بعد أن استضاف البعض عروضاً موسيقية افتراضية على الهواء، كما قدمت متاحف جولات افتراضية داخلها، وهناك مزيد من الأمثلة التي تمزج العالمين الافتراضي والواقعي.
ولكن خارج مجال الترفيه، يتم استخدام الواقع الافتراضي والمعزز بنشاط في التجارة، ومن بين بعض الاستخدامات، أنه أصبح بمقدور العملاء تجربة الملابس فعلياً أو التحقق من السيارة قبل الشراء، وبالنسبة للشركات بدأ استخدام "ميتافيرس" في الصناعات ذات الآلات الثقيلة وبيئات العمل الخطرة، حيث يجري استخدام الواقع الافتراضي والمعزز لتدريب العمال على تشغيل الماكينات وبروتوكولات السلامة، وفي مجال الرعاية الصحية، تم استخدام هذه التقنيات بالفعل في وحدات العناية المركزة أثناء الجائحة لجلب خبرة إضافية من دون المخاطرة بالتعرض لفيروس "كوفيد-19".
وفي غضون السنوات القليلة المقبلة، سيعمل كثير من الناس ويمارسون الألعاب والترفيه ويتواصلون مع بعضهم البعض ويستثمرون أموالهم في هذا النظام الشامل، سواء أكان ذلك يعني حضور مؤتمر مهني في أحد الفنادق الافتراضية، أو التسوق لشراء حقيبة يد جديدة من أجل الصورة الرمزية الرقمية أو التأرجح بين ناطحات السحاب في مدينة نيويورك مع الرجل العنكبوت "سبايدرمان".
غير أنه في نهاية المطاف، سيعتمد نجاح تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، على التقدم التكنولوجي وقبول المستخدم لهذه التقنية، فمن الناحية التكنولوجية، هناك عديد من التحديات، إذ تتطلب "ميتافيرس" أجهزة باهظة الثمن، سواء أكان ذلك جهازاً مخصصاً لاستخدامها، مثل سماعة الرأس الحالية، أو حتى الملابس أو الكاميرات التي يمكنها التقاط الحركة، مع إمكانات معالجة معقدة وقوة كافية لدعم بيئة افتراضية، كما سيحتاج المستخدمون أن يكونوا قادرين على الاتصال من أي مكان، لذا فإن توسيع تغطية الإنترنت فائق السرعة سيكون شرطاً أساسياً لنجاحها وقبولها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قيمة الاستثمار في "ميتافيرس"
ومع كل هذه التوقعات، لم يكن من المستغرب أن يتدافع عديد من الشركات والمستثمرين للحصول على موطئ قدم في هذا النظام البيئي الرقمي الناشئ الذي يعتبر "ميتافيرس"، فرصة لتحقيق عائد بمقدار تريليون دولار على الأقل خلال سنوات قليلة، إذ تعتقد مجموعة "جيفريز" المصرفية الاستثمارية الأميركية "أن الاستثمار في (ميتافيرس) سيكون مثل الاستثمار في الأيام الأولى للإنترنت، والتي أثبتت مع السنين عن تشكيل شركات التكنولوجيا العملاقة التي غيرت مجرى التاريخ، وأصبح اعتماد العالم عليها حتمياً في نواحٍ عديدة من الحياة".
وينصح سايمون باول، رئيس قسم الأبحاث في المجموعة، المستثمرين بالتركيز أولاً على مزودي الأجهزة، ثم مزودي البرمجيات، ثم الشركات التي تعمل ضمن "ميتافيرس"، وكذلك الشركات التي تعمل في إنتاج أشباه الموصلات والمعالجات والخدمات السحابية وما شابه ذلك، لأنه بحلول عام 2025، من المتوقع أن تصل القيمة الإجمالية لمنتجات الواقع المعزز والافتراضي إلى 36 مليار دولار، وفقاً لشركة أبحاث السوق "المؤسسة الدولية للمعلومات"، وهذا يعني تسعة أضعاف القيمة التي أنفقت العام الماضي، وهي 4 مليارات دولار.
وعبر بيل غيتس، الذي استقال من رئاسة مجلس إدارة شركة "مايكروسوفت" العملاقة، عن اعتقاده أنه في العامين أو الثلاثة أعوام المقبلة، ستنتقل معظم الاجتماعات الافتراضية من واجهات ثنائية الأبعاد بأسلوب "زووم" إلى واجهة "ميتافيرس"، مشيراً إلى أن العالم يقترب من الحد الذي تبدأ فيه التكنولوجيا في تكرار الوجود معاً في المكتب بعد الجائحة، ولكن من خلال "ميتافيرس" التي يتوقع أن يكون لشركة "مايكروسوفت" نصيب واسع فيها.
طفرة الاستثمار العقاري
غير أن الأضواء تركزت خلال الأشهر الأخيرة على الاستثمار العقاري بشكل لافت، بخاصة بعد أن قفزت أسعار العقارات الافتراضية في "ميتافيرس" لأرقام قياسية، فعلى سبيل المثال دفع صندوق استثمار عقاري رقمي يسمى "ريببلك ريلم" مبلغاً قياسياً قبل أيام قدره 4.3 مليون دولار مقابل قطعة أرض عرضتها شركة "ساندبوكس" التي تعد أكبر منصة عقارية في "ميتافيرس"، التي عملت على تطوير 100 جزيرة، تسمى جزر الخيال، مع فيلاتها الخاصة وسوق مرتبطة بالقوارب، وتمكنت هذه الشركة من بيع 90 جزيرة في اليوم الأول لطرحها في السوق مقابل 15000 دولار لكل منها، لكنها سرعان ما قفز سعرها وهي مدرجة الآن لإعادة البيع بأكثر من 100000 دولار، وقبل أشهر قليلة اشترى مغني الراب الشهير سنوب دوغ قطعة أرض في عالم "ميتافيرس" بنحو نصف مليون دولار، كما بيعت قطعة أخرى بسعر 2.4 مليون دولار.
ويوجد حالياً أكثر من 12 منصة تبيع العقارات في "ميتافيرس"، مع ظهور أخرى جديدة أسبوعياً، غير أن مبيعات العقارات تركزت على الأربعة الكبار وهي، "ساندبوكس" و"ديسنترالاند" و"كريبتوفوكسيل" و"سومنيوم"، وهناك إجمالي 268645 قطعة أرض على المنصات الأربعة، وجميعها بمساحات مختلفة يتراوح سعر بعضها بين 12700 دولار إلى 14440 دولار للقطعة الواحدة، ويعد الموقع عاملاً حاسماً في تحديد السعر وما إذا كان المكان قريباً من معلم شهير أو مركز تسوق كما هو الحال في العالم الحقيقي.
كيف يجري البيع؟
يتم البيع عبر منصات الإنترنت للشركات المختلفة التي يمتلك كل منها "ميتافيرس" فردية، لكنها تشكل شبكة "ميتافيرس" أكبر متصلة ببعضها البعض مثلما هو الحال في عالم الإنترنت، حيث يجري البيع والشراء من خلال الوحدات غير القابلة للتبديل والمعروفة في عالم "البلوكتشين" باسم "أن أف تي"، وهي شهادات رقمية تثبت ملكية الممتلكات الرقمية، وتتكون من رموز تشفير فريدة يتم تداولها بكفاءة أكبر مع تقليل احتمالية الاحتيال، وتستخدم في بيع الأشياء الفنية الرقمية (ديجيتال) كالرسوم والموسيقى ومقاطع الفيديو وحتى التغريدات والعقارات.
ويقول أندرو كيغيول، الرئيس التنفيذي لشركة "توكينز" الكندية، إنه خصص 16 مليون دولار أخيراً للاستثمار في عقارات "ميتافيرس"، عبر شراء الأراضي وتوظيف الموظفين بعد أن أنفقت الشركة 2.4 مليون دولار لشراء قطعة أرض في منطقة الأزياء في ديسينترالاند، حيث تخطط الشركة لاستضافة فعاليات الموضة، مؤكداً أنه على وشك الإعلان عن صفقات مع علامتين تجاريتين للملابس في أميركا الشمالية، حيث يستأجر مساحة في ممتلكاته لتطوير واجهات المحال التجارية.
ويتوقع تقرير صادر عن "براند إيسنز لبحوث السوق" أن تنمو سوق العقارات في "ميتافيرس" بمعدل سنوي مركب قدره 31 في المئة سنوياً من 2022 إلى 2028.
شكوك ومخاوف
بينما يبدو أن أسعار الأراضي والمنازل آخذة في الارتفاع، يرى ثيو تزانيديس المتخصص في التسويق الرقمي، "أنه من المهم الاعتراف بأن الاستثمار العقاري في (ميتافيرس) لا يزال تخمينياً للغاية، فلا أحد يستطيع التأكد ما إذا كانت هذه الطفرة هي شيء عظيم سيستمر أم مجرد فقاعة كبيرة ستنفجر في أي وقت".
كما يشير آخرون إلى "أن الأراضي في (ميتافيرس) مجرد نسخة حديثة تشبه العملات المشفرة، التي تجذب المستثمرين إلى مشاريع قد تثبت في النهاية أنها بلا قيمة لها، لأن الأرض الحقيقية بها ندرة طبيعية ترفع من سعرها، بينما يتم إنشاء الأرض الافتراضية بسهولة باستخدام الكود، ولا يوجد حد لعدد منصات (ميتافيرس) الجديدة التي يمكن إطلاقها، بل إن المنصات الكبيرة الموجودة يمكنها إنشاء مزيد من الأراضي، كما فعلت (ساندبوكس) عندما قررت زيادة أحجام مساحات الأراضي المطروحة للبيع".
مستقبل عقارات "ميتافيرس"
غير أن أندرو كيغيول يرى "أن المستثمرين الأكبر سناً قد يسخرون من بيع أراضٍ افتراضية على (ميتافيرس)، لكن المستهلكين والمستثمرين الأصغر سناً يرون على الفور جاذبية هذا الاستثمار، ذلك أن المشكلة التي يعانيها كثير من الناس هي أن هناك أجيالاً تواجه صعوبة في إسناد قيمة إلى الأشياء الرقمية، والتي لا يمكن الاحتفاظ بها، لكن جيل الشباب ليس لديه مشكلة معها، كما هو الحال مع (أن أف تي)، حيث تسمح تقنية البلوكتشين بأن يكون الشيء رقمياً ونادراً ولا يمكن تعويضه، ويمكن الاحتفاظ به وتخزينه وعرضه وبيعه".
وفي حين يتساءل المشككون عما يمكن أن يقدمه امتلاك أرض افتراضية، كونه لا يوفر نتيجة ملموسة من مكان تعيش فيه، أو تفتخر به، أو تستقبل فيه العائلة والأصدقاء، فإن مؤيدي هذا الاستثمار يرون أنه عند التسوق لشراء عقارات افتراضية، يمكنك شراء قطعة أرض للبناء عليها، أو يمكنك اختيار منزل مبني بالفعل، ويمكنك جعله خاصاً بك باستخدام كائنات (رقمية) مختلفة، كما يمكنك دعوة الزوار لزيارة المنازل الافتراضية أيضاً.
وفي كل الأحوال، ينبغي التذكر أنه قبل ربع قرن، كان لدى الناس شكوك حول الأهمية المحتملة للإنترنت، وأخرى مماثلة حول وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يتوقع خبراء التكنولوجيا أن تنضج "ميتافيرس" لتصبح اقتصاداً يعمل بكامل طاقته في السنوات المقبلة، مما يوفر تجربة رقمية متزامنة تتشابك في حياتنا، مثل البريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية الآن.