مر السودان منذ استقلاله عن بريطانيا بمحاولات انقلابية عدة على نظام الحكم، وتقسيم الدولة بفصل الشمال عن الجنوب لتكوين دولة جنوب السودان في عام 2011. وقبل ذلك بثماني سنوات، اشتعلت الحرب الأهلية في دارفور عام 2003. ولعب النظام الحاكم السابق والحركات المتمردة المسلحة دوراً في تصعيد الوضع، ما قاد إلى التدخل الدولي بقيادة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، بينما لم ينجح أي من هذه التدخلات في حل الأزمة. ولعبت الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) دوراً أساسياً في محاولة إيجاد مخرج نهائي لها جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأفريقي، الذي اكتفى أخيراً بدوره مع الأمم المتحدة ولم يستطع تحقيق تكامل مع المنظمة الإقليمية.
كان تدخل الاتحاد الأفريقي وفقاً للقانون التأسيسي للاتحاد ومواد البروتوكول المنشئ لمجلس السلم والأمن الأفريقي التي تمنح للمنظمة حق التدخل في أي دولة عضو في حالات ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة، إضافة إلى حق أي دولة عضو في طلب التدخل. وانطلاقاً من هذه الأسس، واجه الاتحاد الأفريقي النزاع المسلح في دارفور من خلال مجلسه للسلم والأمن الأفريقي.
أما "إيقاد" فمنذ تأسيسها عام 1996 وهي تخرج من أزمة لتدخل أخرى في دولها المكونة من جيبوتي والسودان وجنوب السودان والصومال وكينيا وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا. وقد كان هدفها الأساسي عندما حلت محل "السلطة الحكومية الدولية للإنماء والتصحر" التي أنشئت عام 1986، هو مقاومة الجفاف والتصحر الذي كانت تعانيه بعض الدول الأفريقية. ووضعت هدفاً إضافياً هو تعزيز استراتيجيات التنمية المشتركة وتنسيق عدد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعلمية بين دولها، إلى الاهتمام بسياسات ونزاعات هذه الدول، ولكنها حادت قليلاً عن هدفها الأساسي.
أهداف سياسية
زارت بعثة "إيقاد" الخرطوم في الفترة من 29 يناير (كانون الثاني) إلى 2 فبراير (شباط) الحالي، والتقت أعضاء المكونين المدني والعسكري ضمن طرح مبادرة أطلقتها بعد أن شهد السودان تطورات سياسية خطيرة صاحبت الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. ما حدا بها إلى ضرورة اتخاذ استراتيجية تجاهه، وذلك وفقاً لمجموعة من الآليات، في ظل بروز قوى أخرى تطمح لبسط نفوذها وتأمين مصالحها في المنطقة، إذ تُعد "إيقاد" من أبرز المنظمات الإقليمية الفرعية في القارة الأفريقية التي أعطت أهمية للجوانب السياسية، على الرغم من أهدافها التنموية في الأساس. وكان التوسع نحو أهداف سياسية شاملة بسبب تكيف المنظمة مع حقائق جيواستراتيجية خاصة بنزاعات دول "إيقاد" وهي أنه لا يمكن الفصل بين الأهداف التنموية والسياسية لأن احتواء النزاعات والحد منها هو ما يمهد للطريق نحو التنمية، وبذا توسعت صلاحياتها لتتناول القضايا السياسية والأمنية التي تسببت في ضعف الأداء الاقتصادي وتفاقم الأزمة المعيشية.
وبالتركيز على استراتيجية فض النزاعات التي تبنتها "إيقاد" من خلال الوساطة بين أطراف النزاع في مناطق أخرى من شرق أفريقيا، والوقوف عند مختلف التحديات التي تعرقل مسارها في تحقيق الأمن هناك، بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي على قيادة مفاوضات مع أطراف الصراع للخروج من الأزمات وحالات الاحتقان السياسي.
بعد اجتماعها الأخير في الخرطوم، أصدرت "إيقاد" نتائج هذه الزيارة، وهي أن المأزق السياسي الحالي في السودان أكثر تعقيداً مما هو معروف على نطاق واسع، وله تداعيات بعيدة المدى على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني للبلاد ومنطقة الإيقاد بشكل عام. وأكدت عدم الثقة بين المكونين المدني والعسكري في التدخلات الخارجية لحل الأزمة. مع ذلك، أكدت "إيقاد" ضرورة تسهيل إعداد وتنسيق إطار شامل بالتعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية مثل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، بأن تجمع الجهات الفاعلة في مجال السلام للعمل بشكل منسق والتحدث بصوت واحد لدعم السودان في إيجاد حل سلمي للأزمة السياسية.
ضعف الفعالية
جاء تدخل "إيقاد" بعد فشل دول الجوار وبعض الهيئات الأخرى في حل المشكلة السودانية المتمثلة في أزمة دارفور، إذ ثبت أنه كلما اعتمدت هذه المنظمات على تدعيمها من خارج القارة الأفريقية، ضعفت فعالية دورها. لذا، توزعت المهمة بين الاتحاد الأفريقي والمنظمات الأخرى ورافقها عدم ثقة الأطراف في الاتحاد الأفريقي وهيئاته في التعامل مع الأزمة السودانية الحالية بسبب فشله في منع تدويل القضية، ما أدى إلى إقرار إنهاء البعثة المختلطة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لعمليات السلام في دارفور (يوناميد)، ولكن أنشئت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة الانتقال في السودان (يونيتامس) بدلاً منها وتحويلها للخرطوم.
وإذا كان الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة قد كرس الإطار القانوني لعلاقة التعاون بين منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية ومن ضمنها "إيقاد"، من خلال التسوية السلمية للنزاعات والأزمات السياسية، ورقابة مجلس الأمن على ممارسة هذه المنظمات اختصاصه في مجال السلم والأمن الدوليين، فإن المتوقع أن يؤدي التعاون بين الأمم المتحدة و"إيقاد" إلى حل الأزمة السودانية.
ربما سيكون على "إيقاد" تدارك الخطأ الذي وقع فيه الاتحاد الأفريقي إبان أزمة دارفور، باعتماده كلياً على الأمم المتحدة. ففي البداية، وفقاً لمشروع قرار بريطاني - فرنسي طرح أمام مجلس الأمن في عام 2007، وجد المجلس نفسه مخولاً بتفويض نشر القوات تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مع تفويض قوات دولية وقوات الاتحاد الأفريقي في دارفور وتمويلها.
وقد رأى البعض، بما أنه يتعين على الاتحاد الأفريقي توفير الإمكانات والقوات المطلوبة من أجل تسوية النزاع، وأن مجلس الأمن يفوضه للتدخل وتسوية المنازعات تحت إشرافه المباشر طبقاً للمادة الثانية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة، فلماذا لا يكون في إمكان "إيقاد" والاتحاد الأفريقي العمل كعضوين إقليميين وفقاً لوحدة المقومات التاريخية والسياسية والاقتصادية، ما يجعل دورهما هو الأقرب لحل الأزمة السودانية.
الخطر الكامن
بعد أن خرج الاتحاد الأفريقي من الصورة جزئياً بتعليقه عضوية السودان وجميع الأنشطة الخاصة به، بعد الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وحازت "إيقاد" الثقة الأولية على رأس المؤسسات الإقليمية، كان عليها مواجهة التحديات بأن تخطو نحو حل الأزمة السودانية لحفظ مكانتها المميزة في معادلة الأزمة السودانية المتشعبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤيد كثيرون مبادرة حل الأزمة السودانية المقدمة من "إيقاد" نسبة إلى بعض المستجدات التي أنتجت بيئة تفاعل مضطربة تحمل أشكالاً جديدة من المخاطر الحقيقية على الأمن والاستقرار في منطقة دول "إيقاد". وتحمل عوامل أشد خطورة على الداخل السوداني، وهي التحذيرات التي نشأت بعد استقالة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، بشأن ما سماه مجلس السيادة الانتقالي "انتهاك بعثات دبلوماسية سيادة البلاد"، وانطلاق مظاهرات مؤيدة للجيش أمام مقر بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان "يونيتامس"، ثم المطالبة بطرد البعثة من البلاد.
سيتعين على "إيقاد" العمل أيضاً في ظل ظروف وتحديات داخلية فسرت بأنها تراجع للقوات المسلحة عن تعهداتها للمجتمع الدولي، وتبني شعارات مناوئة للغرب. وربما تؤدي هذه الخلفية إلى نتائج عدة.
النتيجة الأولى التحام الأزمة السودانية مع الخطر الكامن الذي تمثله وضعية عدم الاستقرار الشاملة في منطقة القرن الأفريقي، وهو ما جعل عمل "إيقاد" يتجزأ في ظل واقع قاتم ومستقبل مفتوح على كل الاحتمالات. فـ"إيقاد" تعمل في منطقة قد يؤدي انهيارها إلى التأثير المباشر في السودان والقارة بأكملها.
والنتيجة الثانية هي حالة انعدام الأمن الناتجة من الفراغ الذي تركه انسحاب أو تخفيف حجم وجود المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والمسؤولة عن حماية المدنيين، ليس في السودان وحده وإنما في مناطق أخرى مثل الصومال وغيرها.
أما النتيجة الثالثة فهي تصاعد ظاهرة المد القومي والعداوات الإثنية من مناطق الحروب في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. وهو ما يمكن أن يولد أزمات أخرى تكون لها تأثيرات خطيرة في الاستقرار الداخلي، فبالإضافة إلى النزاعات على الحدود السياسية، هناك تقسيمات إثنية جديدة تتشكل في أماكن كثيرة.
الضامن الأكيد
ثمة أبعاد استراتيجية ومصالح حيوية وراء إصرار المنظمات الدولية على الإبقاء على ديمومة التزامها تجاه الأزمة السودانية، من خلال الحفاظ على السياسة الأمنية التي يؤطرها الاتحاد الأفريقي و"إيقاد". ويتضح أن التحدي الحقيقي الذي يواجه المنظمات الأممية في فترة الحرب في دارفور لم يكن في تصاعد التهديد وحده، ولكن في القدرة على تكيف هذه المنظمات. لذا، تمت الاستعانة بقوات الاتحاد الأفريقي لمواجهة تحديات البيئة الجيواستراتيجية الجديدة في السودان. وها هي ذي بعثة "يونيتامس" بعد أن قضت نحو العام وفق مهمة مدنية سياسية، لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، تعلن عن حاجتها إلى مبادرة الاتحاد الأفريقي و"إيقاد" التي حذرت من عرقلة الانتقال إلى الحكم المدني في السودان. وبعد اجتماعها مع المكونين المدني والعسكري، خرجت "إيقاد" باستنتاجات تصف الأزمة وظروف الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، وانشقاقات كل منهما، وتوصي بعقد حوار ومشاورات واسعة مع الجهات الفاعلة وأصحاب المصلحة الرئيسيين.
وعلى الرغم من أهمية المنظمات الإقليمية في حل الأزمة السودانية، فإنها محكومة أيضاً بالمراعاة لمصالح إقليمية في بعض القضايا الخلافية بين السودان وبعض دول الجوار. ومن شأن هذه الخلافات ووجود "إيقاد" في مقدمة الوسطاء، التأثير في الوضع الاقتصادي والتنمية في السودان، مع إمكانية حدوث اختلالات في التوازنات الاقتصادية الإقليمية وهي كلها مؤشرات ستنذر بتفجر الأوضاع.
وهناك أيضاً المخاطر التي يمكن أن تأتي من النزاع في إقليم تيغراي، ومنها مشاكل اللجوء والتهريب، وتجارة البشر وانتقال النشاطات الإرهابية من بعض الجيوب في منطقة القرن الأفريقي، من دون أن تكون لمنظمة "إيقاد" أو الاتحاد الأفريقي أي تدخل لحلها لمصلحة السودان، بالإضافة إلى مشكلة الحدود السودانية مع إثيوبيا وأزمة سد النهضة.
إن اللا وضوح الذي ميز تعاطي المنظمات الإقليمية من جهة والمنظمات الدولية من جهة أخرى، مع الأزمة السودانية، إضافة إلى حجم ونوع المخاطر والتحديات الأمنية الجديدة من دون فاعلية هذه المنظمات، يبقيان التزامها تجاه السودان الضامن الأكيد لتحقيق استقرار حقيقي ودائم. وهو ما كانت ولا تزال هذه المنظمات غير قادرة على الإيفاء به.