تُولي "مؤسّسة الفكر العربي" منذ تأسيسها في العام 2000، المسألة العلمية اهتماماً ملحوظاً في سُلّم اهتماماتها المتنوّعة، لما للعلم من دور مهم في تقدّم الشعوب وتحقيق التنمية البشرية المستدامة، وهو دور تزداد أهميته في العالم العربي الذي تَمَسّ فيه الحاجة إلى التقدم والتنمية. وقد تمظهر هذا الاهتمام أوّلاً في تضمين المؤسّسة تقاريرها السنوية، (الثالث 2010 والخامس 2012 والسادس 2013)، "تشخيصاً لأحوال منظومات البحث والتطوّر والابتكار العربية، وعرضاً للمعوقات التي تُبطئ أو تُعطّل تفعيلها" (ص 17). وتمظهر ثانياً في تخصيص تقريرها العاشر 2018 بكامله لهذه المسألة. ويتمظهر ثالثاً في إصدارها كتاباً مرجعياًّ نوعياًّ، بالتزامن مع الذكرى العشرين لتأسيسها، هو "العرب وتحدّيات التحوّل نحو المعرفة والابتكار" لمؤلّفَيْن يُشهَد لهما بالمعرفة والخبرة والمنهجية، هما الأكاديمي اللبناني معين حمزة، الخبير والمستشار في السياسات العلمية والتنموية وبرامج البحوث والابتكار والموارد البشرية، والأكاديمي السوري عمر بزري، مستشار سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار والتنمية المستدامة.
استرتيجية الموضوع وعلميّة المقاربة
يقع الكتاب في: تمهيد، ملخّص تنفيذي، مقدّمة، أربعة أبواب، خمسة عشر فصلاً، خاتمة، ملحق، وقائمة بالمراجع. ويُقارب الواقع العلمي العربي في مواجهة التحوّلات الناجمة عن الثورة الصناعية الرابعة المتمثّلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وما تطرحه من تحدّيات على هذا الواقع، وآليات مواجهتها والتعامل معها. وهو حلقة أولى في سلسلة تنوي المؤسّسة رفد المكتبة العربية بها. وهي حاجة ماسّة لهذه المكتبة، في اللحظة العلمية الراهنة، وفاتحة مهمّة في مقاربة موضوع استراتيجي يتوقّف عليه مستقبل العرب العلمي، واستطراداً الحضاري، في العالم. وتكمن أهمّيته في مرجعيّته وشموليته وعلميّته وموثوقيته، ناهيك باستراتيجية الموضوع الذي يقاربه. ولعلّ اعتماد مؤلّفَيْه منهجية مركّبة، تجمع بين التوصيف والتحليل والاستشراف، ممّا يزيد من تلك الأهمية، كما يُستفاد من تمهيد مدير عام مؤسّسة الفكر العربي الدكتور هنري العويط الذي يشير فيه إلى ما يتمتّع به الكتاب من "دقّة التوصيف وإحاطته الواسعة ووضوحه الجلي، ونباهة التحليل وعمقه ونفاذه، وارتكاز الرؤى الاستشرافية إلى معرفة وافية بأوضاع العلوم والتكنولوجيا في العالم عامّة وفي الدول العربية خصوصاً، ووعيٍ تامٍّ لتحدّيات المستقبل على هذا الصعيد، ورهان حذر ومتفائل على إمكانية مواجهتها" (ص 20). وبذلك، يجمع بين استراتيجية الموضوع وعِلميّة المقاربة.
تحوّلات وتحدّيات
الواقع العلمي العربي وحؤوله دون تحقيق التنمية الشاملة المستدامة، والتحدّيات التي تطرحها التحوّلات العلمية العالمية على هذا الواقع، وآليات مواجهتها، هو ما يشغل الكتاب بأبوابه الأربعة وفصوله الخمسة عشر؛ فيقارب مؤلّفاه في الباب الأول، على مدى أربعة فصول، وبمنهجية علمية، تحدّيات التنمية العربية، على المستويات البشرية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والبحثية، وهي تحدّيات تتمظهر في: البطالة والفقر، الأمن الغذائي، الأمن المائي، الطاقة، الرعاية الصحية، التنمية البشرية، والسياسات البحثية. ويرصدان في الباب الثاني، على مدى ثلاثة فصول، حركة البحوث العربية ومسيرتها نحو الابتكار، من خلال أنشطة البحث، والبيئات الحاضنة للتكنولوجيا، وآليات تشجيع الابتكار. ويتناولان في الباب الثالث، على مدى فصلين اثنين، التحدّيات التي تطرحها التحوّلات المعرفية على البلدان العربية، من حقول معرفية مستجدة تتعلق بالتكنولوجيا الرقمية والنظم الإنسالية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية وغيرها، بشكل عام، والتحدّيات التي تطرحها هذه التحولات على التعليم العالي، من زيادة المؤسّسات وتنوّع الاختصاصات وتوليد فرص العمل وتتجير التعليم العالي والحريات الأكاديمية وأنظمة الجودة وغيرها، بشكل خاص.
ويُخصّصان الباب الرابع الأكبر، على مدى خمسة فصول، لتمكين المجتمع من مواجهة التحدّيات العلمية المستجدّة والتعامل معها، من خلال تعريب المصطلحات والمفاهيم العلمية، وتمكين المرأة من الاضطلاع بدورها العلمي، وتأصيل الثقافة العلمية، وتفعيل الإعلام العلمي، ونشر الأخلاقيات البحثية، واحترام أنظمة الملكية الفكرية، وتعزيز التعاون العلمي العربي – العربي والعربي – الأوروبي، وغيرها.
صورة قاتمة
انطلاقاً من هذه المقاربة، يرسم حمزة وبزري صورة قاتمة للواقع العلمي العربي، في هذه المرحلة، سواءٌ على مستوى السياسات أو المؤسّسات أو المنظومات، مقارنة بالواقعين الإقليمي والدولي. وهذه الصورة لم تكن وردية في الأساس، وجاءت التحوّلات المستجدّة لتزيد الطين بلّات. غير أنّهما، على قتامة الصورة، يتلمّسان نقاط ضوء في نهاية النفق، تتمثّل في الرهان على تطلّعات الشباب ومسؤولية العاملين في حقول المعارف العلمية والتكنولوجية للخروج من النفق ومحاولة ردم الفجوة العلمية التي تفصل العرب عن الغرب، وهي فجوة كبيرة يقدّرها المؤلّفان بنصف قرن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن المنهجية المركّبة التي يستخدمها المؤلّفان، والقائمة على التوصيف والتحليل والاستشراف، تتمخّض عن توصيف دقيق للواقع القائم، وتحليل الأسباب الكامنة وراء قتامة الصورة والنتائج المترتبة عليها، واستخراج التوصيات الكفيلة برسم صورة مغايرة، واستشراف الرؤى المستقبلية. وحسبنا أن نضرب بعض الأمثلة على كلٍّ من عناصر هذه المنهجية؛ ففي التوصيف، يُسهب المؤلّفان، بالاستناد إلى الأطر والجداول والأشكال العلمية، في ذكر الكثير من الوقائع الدالة التي تحول دون تحقيق التنمية الشاملة المستدامة والارتقاء بالمجتمع إلى مصاف مجتمع المعرفة. ومن هذه الوقائع: فشل السياسات الحكومية، عدم بنائها على دراسات معمّقة للواقع، قصور المؤسّسات التنفيذية، ضبابية الرؤية العلمية، انتهاج سياسات قاصرة في المنظومات البحثية، غياب المبادرات لتكوين الكتلة العلمية الحرجة، عدم توافر البيئة الحاضنة، عجز الهياكل المؤسّسية، محدودية الخدمات الاجتماعية، سوء توزيع الثروة، استشراء الفساد، وغيرها. وهذه الوقائع تتكرّر في فصول الكتاب، بشكل أو بآخر، وتنطبق على معظم التحدّيات المطروحة.
نتائج وتوصيات
في التحليل، يقوم المؤلّفان بدراسة الوقائع، والأسباب الكامنة وراءها والنتائج المترتّبة عليها، ويخرجان من الدراسة بتوصيات معيّنة لتغيير الواقع، فيوصيان، في إطار معالجة غلبة الريعية في نظم الإدارة وما يترتب عليها من علل تعاني منها التنمية الاجتماعية والاقتصادية، على سبيل المثال لا الحصر، بـ"أن تُسهم الجهود الجادّة في التحوّل نحو تنمية قطاعات إنتاجية وخدمية، تعتمد ضمن حدود مرسومة على الموارد الطبيعية، وتتبنّى مُدخلات علمية وتكنولوجية مستحدثة، بتجاوز الكثير من العقبات. كما لا بد من أن تسعى سياسات التنمية في المستقبل إلى نشر مُدخلات العلوم والتكنولوجيا وترويج الابتكار على صعيد المجتمعات المحلّية، بحيث يتسنّى لها الإسهام في توليد فرص جديدة للعمل ومكافحة الفقر" (ص 51). وهكذا، نرى أنّهما يحشدان مجموعة من التوصيات في فقرة واحدة، الأمر الذي يتواتر في غير فصل من الكتاب. ومن التوصيات الكثيرة التي يزخر بها الكتاب: استخدام اللغة الأم في نقل المعارف المتصلة بأهداف التنمية الشاملة والمستدامة، استخدام اللغة الأم في تدريس المعارف العلمية وفي عمل القوى العاملة، إصدار المجلات العلمية ومشاركة أساتذة الجامعات والباحثين في تحريرها، إعداد كوادر الإعلام العلمي في كليات الإعلام، إصدار الملاحق العلمية الدورية في الصحف الكبرى، الانفتاح على تجارب الآخرين العلمية وتكييفها مع الواقع العربي، وغيرها.
رؤى استشرافية
في الاستشراف، تتناثر الرؤى الاستشرافية الناجمة عن التوصيف والتحليل والاستنتاج في معظم فصول الكتاب، غير أنّها تجتمع في الخاتمة، فيستشرف المؤلّفان، على سبيل المثال، تعميم المعرفة العلمية واتشارها في شتى المجالات بـ"الإسراع في تكوين قواعد المعلومات العربية ووضعها في متناول المواطن العربي" ( 251)، تعزيز دور الشركات العاملة في الخدمات الرقمية والتجارة الإلكترونية وزيادة مكاسبها بعد جائحة كورونا، تشغيل العديد من الوظائف آلياًّ، تغيير طرائق إدارة البحوث العلمية، مواجهة منظومة البحوث العربية تحدّيات بنيوية مختلفة، وغيرها. وتحقيق هذه الرؤى مرهون بتوافر الظروف الموضوعية والموارد البشرية والمادية ذات الصلة. وإذا كان لي، في ختام هذه القراءة، أن ألخّص الكتاب بفقرة واحدة، يمكن القول مع مؤلّفَيْه أنّه "محاولة لتحليل أداء البلدان العربية في سعيها إلى تكوين منظومات وطنية ناشطة من ضمن مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار في ضوء أهداف التنمية المستدامة وأجندة 2030". وهنا، بالتحديد، سرّ فرادته ومكمن نوعيّته.
لعل كتاب "العرب وتحدّيات التحوّل نحو المعرفة والابتكار" لصاحبَيْه الدكتور معين حمزة والدكتور عمر بزري، مأثرة أخرى تُضاف إلى مآثر "مؤسّسة الفكر العربي"، وحلقة أولى في سلسلة طويلة، نأمل أن تتوالى حلقاتها تباعاً، وأن ترفد المكتبة العربية بما يُسهم في نقل المجتمعات العربية من حيّز التلقّي والاستهلاك إلى حيّز المشاركة والابتكار، فتحافظ على وجودها تحت الشمس.