السجال الذي طالما دار حول أفكار الكاتب المصري سيد القمني خلال حياته، رافقه أيضاً في مماته وشمل حتى جنازته التي أقيمت في مسجد المشير طنطاوي، شرقَ القاهرة. وكان المفكر المصري الإشكالي رحل الاثنين الماضي عن عمر ناهز 75 سنة. وقد كذب الإعلان الذي نشرته ابنة الراحل إيزيس القمني، في صفحتها على "فيسبوك"، ما أشيع في الأوساط الرافضة أفكارَ الباحث، بشأن دفنه سراً في مقابر العائلة، ومن دون ليلة عزاء، تحسباً لردود فعل من قبل المعارضين لآرائه، التي عدها البعض "صادمة"، بينما أدرجها محافظون في خانة الأفكار التكفيرية، ومن بين هؤلاء الداعية حاتم الحويني.
وأثار منشور الحويني جدلاً واسعاً، وأكد البعض أنه يشمت في وفاة الباحث المصري، ورأى آخرون أن سلوك الحويني يستكمل سلسلة الخصومة الفكرية والاغتيال المعنوي الذي تعرض له الباحث الراحل.
ولد القمني عام 1947 في إحدى قرى مدينة الواسطى في محافظة بني سويف (شمال صعيد مصر)، ونال شهرة واسعة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة بفضل المعارك الفكرية والمناظرات الإعلامية التي خاضها سواء مع قوى فكرية محافظة أو مع مثقفين من داخل معسكر "التنوير" الذي عد نفسه ممثلاً له. بدأ القمني رحلته مع الكتابة عبر سلسلة من المقالات كتبها في الأنثروبولوجيا التاريخية، وعلوم المصريات ضمن أعداد مجلة "الكرمل" الفلسطينية، التي كانت تصدر برئاسة الشاعر محمود درويش نهاية الثمانينيات. وشكلت تلك المقالات نواة لكتابه الأول "إيزيس وعقيدة الخلود"، ولم يثر الكتاب سجالات واسعة كتلك التي عرفها كتابه "النبي إبراهيم، التاريخ المجهول"، الذي أجرى فيه مقاربات تاريخية حول الديانة الإبراهيمية ومسارها في الجزيرة العربية.
مرحلة الصعود
صعدت أسهم القمني في المجال العام خلال تسعينيات القرن الماضي عقب المواجهات الفكرية والأمنية التي شهدتها مصر مع قوى الإسلام السياسي، مما أدى إلى نمو حركة فكرية استهدفت نقد تلك التيارات على اختلاف مصادرها الفكرية والعقائدية. وشملت تلك الحركة مساهمات مفكرين بارزين من دارسي الفلسفة أبرزهم أستاذ الراحل، الفيلسوف فؤاد زكريا وآخرون من أنصار الفكر الاعتزالي، منهم المفكرون حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وشهدت مصر أيضاً تغييرات في سياساتها الثقافية بحيث تولى مثقفون يمثلون القوى الليبرالية مواقع مؤثرة داخل المؤسسات الثقافية وعلى رأس مطبوعاتها، وكان من أبرزهم الناقدان الراحلان جابر عصفور وغالي شكري. وبينما راج الحديث في الأوساط الثقافية عن "التنوير" الحكومي مع صعود تيار الإصلاح الثقافي من داخل الدولة، انتقد ممثلو الإسلام السياسي هذه الوجوه، بزعم تمثيلها الأفكار اليسارية المناهضة للفكر الإسلامي.
وفي السياق ذاته تولت دار سينا في مصر ودور نشر أخرى مماثلة، نشر مجموعة من المؤلفات لباحثين، أبرزهم المستشار محمد سعيد العشماوي والشيخ خليل عبد الكريم وسيد القمني الذي حقق مؤلفه "الحزب الهاشمي" نجاحاً كبيراً أسهم في تكريس اسمه كصوت نقدي في مجال الدراسات المرتبطة بالتاريخ الإسلامي. وتوالت بعد هذا الكتاب مجموعة من المؤلفات التي كانت تحقق مبيعات كبيرة وتحظى بانتشار في أوساط معارضي الحركات الدينية الراديكالية ومنها "حروب دولة الرسول"، و"قصة الخلق"، و"النسخ في الوحي".
وأظهر القمني في معظم هذه المؤلفات دور العامل السياسي في اتخاذ القرار الديني داخل دولة الخلافة، فضلاً عن مركزية قبيلة قريش في تأسيس الدولة الإسلامية والانتقال من القبيلة إلى الدولة. ودعا إلى التفرقة بين الدين والفكر الديني، فضلاً عن اهتمامه بدراسة القرآن الكريم في سياقه التاريخي وفحص أسباب النزول.
الميل إلى السجال
وبسبب ميله نحو السجال وخوض مناقشات فكرية ومناظرات استنزفت قدراته في معارك كلامية، اتهم القمني بأنه لم ينجح في تطوير أدواته النقدية، وبالتالي فإن الكثير من النقد الموجه إلى مؤلفاته لم ينطلق من القوى الفكرية التي ناهضت أفكاره، وإنما جاء أيضاً من المعسكر الذي انتمى إلى آرائه في شأن المطالبة بدعم القوى المدنية، لإفساح المجال أمام وجودها في الفضاء العام، حتى إنه اتهم بتزييف وثيقة حصوله على درجة الدكتوراه.
ويعد كتاب «رب هذا الزمان» (1997) أحد أشهر مؤلفاته وأكثرها مبيعاً، نتيجة مطالبة مجمع البحوث الإسلامية بمصادرته وإخضاع مؤلفه للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا، بتهمة «الارتداد» عن الإسلام. وخاض القمني كذلك معركة للمطالبة بتغيير المناهج الدراسية التي يتم اعتمادها في المعاهد الأزهرية بزعم ما تتضمنه من نصوص تحرض على الكراهية.
وبسبب هذه النوعية من الآراء تعرض الراحل لحملات إعلامية كثيرة استهدفت أفكاره، بعد أن انتقد بصورة مباشرة الكثير من رموز الحركات الجهادية وممثلي قوى الإسلام السياسي.
الاعتزال القسري
وفي الكثير من لقاءاته التلفزيونية كان يشير إلى أنه تلقى تهديدات كثيرة بالقتل، جاء بعضها من تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين الذي كان يتزعمه أبو مصعب الزرقاوي عبر شبكة الإنترنت، بعد مقال كتبه بعنوان "إنها مصرنا يا كلاب جهنم". واضطر القمني إلى ملازمة بيته والإعلان عن اعتزاله العمل العام في عام 2005، كما تعرض منزله للسرقة واتهم مناهضي أفكاره بتدبير الحادثة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسهم فوزه بجائزة الدولة التقديرية في مجال العلوم الاجتماعية في عام 2009 في استئناف السجال مجدداً حول أفكاره، بعد أن قام الشيخ الراحل يوسف البدري برفع دعوى قضائية، ضد وزارة الثقافة وشيخ الأزهر، معتبراً فوز القمني ومعه حسن حنفي إهداراً للمال العام، لأنهما كانا من وجهة نظره، يسيئان إلى الذات الإلهية وإلى الإسلام.
ومن اللافت أن تلك المعركة شهدت كذلك تعالي أصوات بعض المثقفين الذين انتقدوا أحقيته في الحصول على الجائزة بسبب انتقادات منهجية وجهت لمؤلفاته، فيما تحدث آخرون عن فصام تعانيه الدولة التي تمنحه الجائزة الرفيعة بينما تفسح قنواتها التلفزيونية للأصوات التي تتهمه بـ"الكفر".
جاء موت القمني ليعيد إنتاج تلك المعركة من جديد، فالحويني وغيره من بعض المحسوبين على التيار الجهادي، اتهم القمني بالكفر، فيما دعا مثقفون آخرون، أبرزهم فنان الخط العربي منير الشعراني الذي صمم أغلفة المؤلفات الأولى للقمني، إلى وضع إنتاجه في سياقه. وفي منشور عبر "فيسبوك"، قال الشعراني إن "مؤلفات القمني الأولى هي أفضل ما نشر، لأنه جمع مادتها من بطون الكتب القديمة ومن كتابات أخرى تجاهلها عند ذكر مراجعه". وانتهى إلى القول إن دور القمني يقتصر على مشاركته في تحريك المياه الراكدة مع عدد من الكتاب، في ظل تصاعد شرس لدور الإسلام السياسي. وأضاف "لكني لا أتفق مع من أطلقوا عليه لقب المفكر، إلى جانب ألقاب أخرى أراها واسعة على قامته، ووضعوه في مصاف مفكرين يليق بقاماتهم هذا اللقب، أما مناوشاته مع الإسلاميين فلم تكن متماسكة وغلبت عليها أمور لا علاقة جوهرية لها بالفكر". وفي مقابل رأي الشعراني أكد الصحافي خليل أبو شادي أن مؤلفات الراحل التي ولدت في سياق سياسي "مفخخ"، ساعدته على تفنيد أفكار الإسلاميين ونقدها، ببساطة أسلوبه ووضوح أفكاره.