مع الإعلان للمرة الأولى عن نجاح اختبارات تشغيل طائرة "بلاك هوك" تعمل بالقيادة الذاتية (مؤتمتة بالكامل)، واقتراب تنفيذها على طائرات "أف-16" المقاتلة، يعتقد الخبراء الاستراتيجيون أن هذه التكنولوجيا ستحدث تحولاً نوعياً في ميادين القتال، فكيف سيكون شكل حروب المستقبل؟
الأتمتة الكاملة
خلال السنوات الأخيرة بدأت تجارب تشغيل طائرات الهليكوبتر غير المأهولة التي تعمل بنظام الطيار الآلي المتقدم أو من خلال المراحل الأولى لبرامج القيادة الذاتية، لكنها لم تكن قد وصلت إلى نظام الأتمتة الكاملة، أي القيادة الذاتية الكاملة من دون طيار أو تحكم بشري.
غير أن وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأميركية المعروفة باسم "داربا"، المسؤولة عن تطوير التقنيات الناشئة لاستخدامات القوات المسلحة الأميركية، أعلنت نجاحها في تنفيذ مهمة تحليق كاملة استغرقت نصف ساعة من الإقلاع إلى الهبوط من دون طيار لطائرة الهليكوبتر من طراز "يو إتش 60 إيه بلاك هوك"، التي يبلغ وزنها 14 ألف رطل، بناء على أهداف حددتها القيادة، وهذا من شأنه أن يساعد الجيش الأميركي والخدمات الأخرى في تطوير عمليات دمج الطائرات الثقيلة الذاتية القيادة في خطط المعارك المستقبلية.
واستخدمت "بلاك هوك" نظاماً سيكورسكياً للقيادة الذاتية المصمم في الأصل لمساعدة الطيارين عند التحليق في بيئات سيئة، مثل الرؤية المحدودة أو التي تفتقر إلى اتصالات موثوقة، لكن النظام جرى تطويره ليكون مؤتمتاً بالكامل، إذ تحلق الطائرة من دون تدخل بشري.
ونبعت الحاجة إلى تطوير وإضافة القدرات الآلية المؤتمتة في الطائرات العسكرية من الرغبة في تحسين سلامة المهمات ومعدلات النجاح، إذ كان يتعين على مشغلي أكثر الطائرات المتقدمة التعامل مع واجهات معقدة للغاية داخل الطائرة، والاستعداد للاستجابة بفعالية في حالات الطوارئ وغيرها من المواقف غير المتوقعة التي لا يمكن لأي قدر من التدريب أن يضمن التغلب عليها بشكل كامل.
ولهذا فإن تطوير إلكترونيات الطيران والبرمجيات وزيادة قدرات التشغيل الذاتي بشكل كامل، ظل هدفاً ضرورياً وملحاً على الرغم من الكلفة المرتفعة لمثل هذه التحسينات التي تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات لكل طائرة.
نظام ألياس
وللمساعدة في التغلب على هذه التحديات أنشأت وكالة "داربا" التابعة للـ "بنتاغون" برنامج "نظام أتمتة طاقم العمل في قمرة القيادة" المعروف اختصاراً في اللغة الإنجليزية باسم (ألياس)، وهو نظام كلّف 160 مليون دولار، استفاد من التقدم الكبير الذي جرى إحرازه خلال العقود الـ 50 الماضية في نظم التشغيل الآلي للطائرات عبر إضافة مستويات أكثر تطوراً من الأتمتة إلى الطائرات الحالية، مما يتيح تشغيل الطائرات بطاقم أقل على متن الطائرة، أو من دون طيارين على الإطلاق كما حدث في التجربة الأخيرة لطائرة "بلاك هوك"، وهو ما يساعد في زيادة أداء وكفاءة المهمات وتحسين سلامة الطائرات.
ووفقاً لمدير برنامج ألياس في "داربا" ستيوارت يونج، فإن النظام يدعم تنفيذ مهمة كاملة من الإقلاع إلى الهبوط حتى في مواجهة الأحداث الطارئة مثل فشل نظام الطائرات، كما يعمل على مراقبة البيئة المحيطة بالطائرة بشكل مستمر والتحقق السريع من إجراءات الطيران، كما أنه يجلب المرونة العملياتية للجيش من حيث القدرة على تشغيل الطائرات في جميع أوقات النهار أو الليل، مع أو من دون طيارين، وفي مجموعة منوعة من الظروف الصعبة، فضلاً عن كونه يقلص حوادث الطيران نظراً إلى أن السبب الرئيس للحوادث ينشأ من الخطأ البشري والبيئات المرئية المتدهورة.
تطور هائل
ومقارنة بمحاولات التشغيل المحدودة السابقة لنظام "ألياس" التي كانت أشبه بنظام الطيار الآلي أو جزء من القيادة الذاتية المستقلة، فإن التجربة الأخيرة التي جرت قبل أيام قليلة فقط في ولاية كنتاكي تعد أتمتة كاملة لنظام الطائرة، بحسب ما يقول مدير شركة "سيكورسكي" للابتكارات التي تمتلكها شركة الصناعات الدفاعية الضخمة "لوكهيد مارتن" إيغور تشيريبينسكي، إذ تشمل هذه الأتمتة تحديد الإجراءات الرئيسة قبل الرحلة، مثل عوامل الطاقة وعناصر التحكم وفحص سرعة الرياح والعناصر التي تشكل بيئة الطيران بشكل عام.
وعلى سبيل المثال، إذا تعطل محرك الطائرة فإن النظام سيتعامل مع هذا التطور المفاجئ، ولو تعطل كلا المحركين فإن النظام مبرمج لاستخدام خاصية "ليدار"، وهو نظام كشف الضوء والمدى من أجل اختيار منطقة مناسبة للهبوط بعد فحص الوضع أسفل الطائرة، وهذا هو الفارق بين الأتمتة الكاملة التي يمكنها في الواقع رؤية الظروف المتغيرة والتكيف والتعامل معها، في مقابل الطيار الآلي الذي لا يمتلك أياً من هاتين الميزتين.
ويتطلب عمل الطائرات بنظام الأتمتة الكاملة تحديد أهداف المهمة والقيود التي يمكن أن تواجهها، وبمعنى آخر يشرح مشغلو الطائرة ما يريدون منها أن تفعله، فالبرنامج الذي يتحكم في الطائرة صمم في الأصل ليقوم بدور الطيار الرقمي، لكن مع وجود مشغل على الأرض يمكن أن يكون الإنسان على الأرض قائداً للمهمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"أف-16"
ولا يقتصر عمل الخبراء والمطورين على أتمتة طائرات الهليكوبتر المقاتلة، إذ توجد طائرات شحن ضخمة تطير حالياً بنظام "ألياس"، بينما يهتم فريق العمل حالياً بتكييف البرنامج لأنواع أخرى من الطائرات، مثل المقاتلة الأميركية "أف-16" بحسب ما يقول مسؤولو البرنامج، إذ ستكون القوات الجوية الأميركية قادرة على استخدام الطائرة من أجل فهم أفضل لما يمكن أن تفعله الطائرات الذاتية القيادة والتشغيل في المستقبل، وهذا لن يزيد المعرفة بالمتطلبات المستقبلية وحسب، بل سيوفر أيضاً معلومات حول تطوير التكتيكات والتقنيات المستقبلية.
وبحسب يونغ توجد رغبة الآن في توفير القدرات الجديدة لقيادات الجيش حتى يتمكنوا من امتلاكها واستخدامها بأنفسهم لتطوير متطلبات طائرات القيادة الذاتية، وبشكل أكثر تحديداً كيف سيستخدمون الطائرات المؤتمتة بالكامل في ساحة المعركة مستقبلاً، وتمكينهم من تطوير الثقة في العمليات ذات الصلة بالبيئة المحيطة.
حروب المستقبل
وفقاً لموقع "فلايت غلوبال" يدرس الجيش الأميركي دمج نظام "ألياس" في أسطول طائراته المكون من 2200 "بلاك هوك"، الذي سيساعد في تحسين أداء الطيارين والخدمات الجوية وعمليات الإمداد والاستطلاع، مع أدوات مهمة يمكن أن تسهم في تغيير مجرى الحرب حتى بالنسبة إلى طائرات الهليكوبتر، فخلال اختبارات الطيران الأخيرة تخيلت وكالة "داربا" سيناريو يجري فيه إسقاط مجموعة من الجنود الأميركيين خلف خطوط العدو، وبعدما تعرضت رحلات إعادة الإمداد للتهديد من قبل أسلحة العدو المضادة للطائرات أصبحت المهمة شديدة الخطورة على طياري الجيش الأميركي، مما استدعى استخدام طائرات "بلاك هوك" مؤتمتة بصحبة طائرتي "درون" يمكن إطلاقهما من سطح مقصورة الطائرة الهليكوبتر، في سابقة من نوعها وفقاً لبرنامج "داربا".
ومن خلال توفير مراقبة للأهداف الأرضية من خلال طائرات الـ "درون" لاستطلاع الطريق أو إعادة إرسال المعلومات والصور أو دعم الحرب الإلكترونية أو قصف أهداف محددة، يمكن تبادل المعلومات مع مركز القيادة ثم مع طائرة الـ "بلاك هوك" حتى يمكن تجنب الطرق المهددة عبر مسار جديد بعيداً من وسائل الدفاع الجوي للعدو، وبالتالي تحقيق الهدف بإمداد الجنود خلف خطوط العدو بحاجاتهم.
مهمات مميزة
وقد تساعد المستشعرات المتقدمة وخرائط الارتفاع الرقمية في أتمتة رحلات التحليق على مسافة قريبة من سطح الأرض، وهو تكتيك لتجنب اكتشاف الرادار من خلال الطيران على ارتفاع منخفض، والاختباء بعيداً من ترددات الرادار في الوديان والتلال، فمن الناحية النظرية يمكن لنظام "ألياس" تمكين طائرة الهليكوبتر من الطيران بشكل مستقل في مسارات قريبة من الأرض أفضل من البشر، وبدرجة أمان أعلى بكثير.
وفيما يدرس الجيش الأميركي التأثيرات المتوقعة لهذه التكنولوجيا، يبدو أنه يفكر في تعديل وتحديث طائرات "يو إتش 60 بلاك هوك"، وهي الطراز الأقدم من هذه الطائرات بتكنولوجيا القيادة الذاتية، تحقيقاً لما يسمى المفهوم المرن الذي ابتكره سلاح الجو الأميركي، ويهدف إلى تزويد الطائرات القديمة بالتكنولوجيا المؤتمتة، فإذا سقطت في المعركة لن تكون قيمتها كبيرة ولن توقع خسائر بشرية.
العنصر البشري
ربما في يوم من الأيام في المستقبل البعيد ستكون جميع طائرات الجيش الأميركي من دون طيار، لكن ليس في أي وقت قريب، إذ إن الجيش الأميركي ليس حريصاً على إزالة البشر من المعادلة، وبدلاً من ذلك فمن المرجح أن تساعد تكنولوجيا القيادة الذاتية الطيارين في تجنب الحوادث واكتشاف العوائق وتزويد الطيارين ببيانات ارتفاع التضاريس الرقمية وأنواع أخرى من الخرائط المسبقة التحميل، واستخدام مستشعرات وكاميرات لمسح المناطق المحيطة.
ويشير المدير التنفيذي لمعهد "ميتشل" لدراسات الطيران والفضاء دوغلاس بيركي إلى أن هناك درجات من القيادة الذاتية بالفعل في مقاتلات مثل "أف-22" و"أف-35" لمساعدة الطيار في مجموعة من الوظائف على متن الطائرة، وقد تنضم الطائرات الذاتية القيادة المؤتمتة بالكامل في النهاية إلى الطائرات المقاتلة المأهولة بالطيارين كشركاء في المهمة، بخاصة أن الاختبارات التي أجريت على مدى السنوات القليلة الماضية لتطوير جوانب رئيسة لهذه التكنولوجيا الواعدة لم تبلور فكرة التنفيذ الذاتي لقتال جماعي، لأن مستويات الثقة في نظام مستقل لتحديد الصديق من العدو ونشر القوة المميتة من دون موافقة بشرية ما زالت ضعيفة وتواجه مشكلات أخلاقية وقانونية حال أدت إلى أخطاء قاتلة جماعية.
ويطالب بيركي بضرورة إدراك أن التفوق الجوي، وهي المهمة التي تنفذها الطائرات المقاتلة، واحدة من أهم القدرات القتالية التي يمكن لأي دولة امتلاكها، فقد أنقذ الطيارون المقاتلون في سلاح الجو الملكي البريطاني أمتهم خلال معركة بريطانيا عام 1940، بينما لا يمكن لدولة لا تستطيع الدفاع عن أجوائها ضد هجوم العدو أن تبقى صامدة مثلما هو الحال في ألمانيا عام 1945 أو العراق عام 1991.
وفي حين أن القيادة الذاتية للطائرات أمر حيوي مهم، إلا أنه لا يزال أمامها كثير لتقطعه قبل أن تتمكن من محاربة خصم ماهر.