لا شك أن في إمكان الباحثين في قضايا التاريخ وعلاقة المبدعين به، أن يتوقفوا طويلاً للتعمق في بحث الأسباب "الغامضة" التي يمكن أن تكون قد حدثت خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر حين تحولت مواقف التأييد وصيحات الإعجاب التي رافقت الصعود المدوي لتحركات نابليون في أوروبا، إلى غضب راح يتصاعد تدريجياً، لا سيما لدى عدد من كبار المفكرين والمبدعين، وبخاصة في ألمانيا حيث كان لافتاً وقوف ثلاثة من كبارها بين آخرين، وهم غوته وهيغل وبيتهوفن ممن عاصروا تلك الأحداث ليهبوا هبة رجل واحد ضد "الإمبراطور" الغازي الفرنسي حين حاول أن يستولي على بلادهم ونجح في غزو بعضها. ولعل الغضب الأكبر كان ذاك الذي اعترى بيتهوفن في وقت كان يستعد فيه لتأليف واحدة من سيمفونياته الكبرى كنوع من التكريم لذاك الذي اعتبره أول الأمر بطلاً مخلصاً لأوروبا وعاملاً على إعادة خلق تاريخها من جديد ففوجئ كما سيفعل بالتزامن معه أو بعده إلى حد ما مبدعون من طينة تولستوي وغيره من الذين رأوا كيف أن بطل التحرير تحول إلى محتل عسكري يحتكم إلى السلاح مدمراً تلك الصورة التي كانت قد رسمت له. من هنا كانت مرارة بيتهوفن المرارة الأشد فأدت به إلى إحداث انتفاضة هائلة ليس في موقفه من نابليون بل كذلك من فنه هو نفسه، انتفاضة طالت على وجه الخصوص ذلك العمل الذي سنرى بعد سطور كم أن الموسيقي عبر فيه عن خيبته وغضبه بشكل ربما ندر أن رأى تاريخ الموسيقى ما يماثله. وحتى لو كان في إمكاننا ألا نعتبر تلك "السيمفونية الثالثة" من أقوى أعمال سيد الموسيقى السيمفونية هذا، يمكننا من دون ريب أن نعتبره العمل الموسيقي الأعظم دلالة على المزاج السياسي لفنان من الفنانين في تلك الأزمنة التي كانت بالغة التقلب والحساسية.
صراع وعزلة
فخلال الأعوام الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، كان ثمة عاملان يتصارعان داخل لودفيغ فون بيتهوفن: من ناحية، إحساسه بالألم والمذلة من جراء الصمم الذي بدأ يتفاقم لديه، ومن ناحية ثانية أمله الكبير في ذلك البطل الجديد الذي أطل على أوروبا، من فرنسا، حاملاً وعود الحرية والتقدم إلى شعوب العالم: نابليون بونابرت. في ذلك الحين كان نابليون بالنسبة إلى كثر، لا سيما أهل الفكر والثقافة، قائداً ثورياً أتى من صفوف الشعب وراح يبشر بفجر جديد للإنسانية. وكان من الطبيعي لأي فنان طليعي مرهف الحس يحمل نفس التطلعات التي من المفترض أن تكون تطلعات الجنرال الكورسيكي، أن يتفاعل مع تلك البشرى. لذلك، فيما ذهب بيتهوفن صيف عام 1802 ليعتزل الناس، بعض الشيء، في مدينة هيليغنشتاد، حيث أقام في بيت ريفي مطل على نهر الدانوب، بدأ يفكر في كتابة سيمفونيته الثالثة، وكانت فكرته الأساسية أن يعبر فيها عن الإنسانية الجديدة وأن يهديها إلى نابليون، مثله الأعلى في الديمقراطية والحرية. ولكن بعد أن خط بيتهوفن أول نوطات الحركة الأولى والثانية فوجئ ببونابرت يتوَّج إمبراطوراً. فشعر من فوره بأن مثله الأعلى يهوي إلى الحضيض، وصرخ غاضباً: "ماذا... أو تراه ليس أكثر من إنسان عادي؟" ثم محى الإهداء وبدل من مسار عمله الإبداعي، لكنه لم يقلل من شأنه، بل راح يكتبه بكل أعصابه وغضبه، وكأنه به يحاول أن يعوض، موسيقياً، على خيبته السياسية. كأنه أراد أن يجعل من السيمفونية نفسها مثلاً أعلى بدلاً من ذلك البطل الذي هوى.
طاقة خلاقة
ومن هنا جاءت السيمفونية الثالثة شيئاً غريباً في عالم الموسيقى، أشبه، كما يقول الناقد بيار هايجل بـ"عمل لا يمكننا أن ننظر إليه مواجهة، لأنه يبهر العينين كالشمس المشعة. إنه عمل لا يأتي إلينا، بل يتوجب علينا، نحن، أن نقوم بالخطوات الأولى حتى نقترب منه، تاركين أنفسنا نسبح في نوره المشع". تنتمي "السيمفونية الثالثة" إلى ما يمكننا أن نسميه "الموسيقى النقية" التي، بعد أن زال وهم مؤلفها في مثله الأعلى السياسي، ما عادت في حاجة إلى أي موضوع من خارج لغتها الفنية الصافية. ومن هنا ما يقوله الباحثون من أن بيتهوفن تعمد في هذا العمل، المغرق في نوع جديد من الذاتية، أن يواصل تعامله مع العمل السيمفوني كتعامله مع "السوناتا"، وهو أسلوب سوف يرافقه حتى السيمفونية الخامسة التي سيؤلفها بعد أربعة أعوام. وهذا الأسلوب، الذي كان بيتهوفن شرع فيه منذ السيمفونية الثانية، يقوم على استخدام مجموعتين تعبيريتين، يتشكل كل منهما من أفكار موسيقية عدة، في شكل يجعل البعد الدرامي يتفجر في داخل كل موضوع على حدة. وهكذا منذ "التيمة الأولى" بنوتاتها الثلاث السائرة على هدي حركة "أليغرو كون بريو"، يفرض بيتهوفن على مستمعه نوعاً من طاقة خلاقة تؤكد الملمح العام للعمل، مشرعة الباب أمام بعد درامي يتصاعد، ولا يتوقف إلا عندما يأتي التعبير المفاجئ عن "انتصار الإرادة البطولية". وهكذا ينتقل العمل إلى الحركة الثانية (آندانتي كون موتو) تمهيداً للحركتين الثالثة والرابعة (والاثنتان حركتا آليغرو).
قطيعة مع التقاليد
عبر هذه الحركات الأربع، لم يحقق بيتهوفن عملاً أخاذاً وحسب، لكنه أيضاً أحدث تلك القطيعة التي كان يتمناها منذ زمن بعيد، مع تقاليد موتسارت وهايدن، وصولاً إلى تثوير مفاجئ لفن السيمفونية، هو على أي حال، تثوير سوف يقول الدارسون لاحقاً، إنه شمل وطغى على كل إنتاج بيتهوفن من السيمفونيات، أي سيمفونياته التسع التي لم يتمكن من إبداع عاشرة لها ما عزز أسطورة الرقم 9 التي "من المستحيل أن يتجاوزه أي فنان"، ولكن هذه حكاية أخرى بالطبع. ويتجلى هذا خاصة في الحركة الثانية التي هي عبارة عن "مسيرة جنائزية"، شاء منها بيتهوفن أن تبدو متعارضة بعض الشيء مع "مسيرة جنائزية" أخرى كان دمجها في عمله السابق "سوناتا للبيانو" (العمل رقم 26). ففي المسيرة الجديدة يبدو الشكل هنا شديد التعقيد، والغاية منه الوصول إلى تصوير تعبيري للبطل. كل هذا استخدمه بيتهوفن لرغبة منه في تحرير نفسه والموسيقى بالتالي، من أسر تقاليد كانت تكبله، حتى وإن كان من المعروف أن "تيمات" الحركة التالية أتت أشبه بما كان كتبه بيتهوفن لباليه "بروميشيوس". ولكن هل ثمة صدفة في أن يستخدم بيتهوفن في عمله البطولي الجديد تيمات كان استخدمها للتعبير عن مسيرة "سارق النار"؟ ترى أفلا يمكننا أن نستند إلى هذا لكي نقول كم أن بيتهوفن عبّر هنا عن ظمئه إلى الحرية؟ وقدم عملاً يقيناً أن في "وسعنا أن نخرج منه، بعد سماعه، ونحن نشعر بأننا "كبشر، أقوى، وأكثر استعداداً لرؤية الحياة بعيون جديدة" كما يقول الناقد هايجل؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الخيبة إلى الصمم والتشاؤم
عندما كتب بيتهوفن "السيمفونية الثالثة" كان في الثانية والثلاثين من عمره، هو المولود في عام 1770 في بون بألمانيا. ولودفيغ فان بيتهوفن هو سليل عائلة موسيقية تعود جذورها إلى جنوب هولندا. وكان في الحادية عشرة من عمره حين أصبح موسيقياً محترفاً، وبعد ذلك تلقى دراسته الموسيقية التالية على يدي هايدن وموتسارت في فيينا (التي سيموت فيها في عام 1827). وطوال حياته العملية، التي أمضى معظم سنواتها في العاصمة النمساوية. كتب بيتهوفن تسع سيمفونيات، كما كتب كثيراً من السوناتات والكونشيرتات والقداديس وأعمال الباليه، وأوبرا واحدة هي "فيديليو"، كتبها في الوقت نفسه، تقريباً، الذي كتب فيه "السيمفونية الثالثة"، وذلك في وقت كان صممه قد استفحل فيه، وبدأ ينفره من الناس ويجعله شديد التشاؤم ما جعله يفرغ كل طاقاته في أعمال موسيقية خالدة لا تزال حية وفاعلة حتى يومنا. وجعلت بيتهوفن يعتبر في مجال الإبداع السيمفوني، ليس فقط واحداً من المؤسسين ولكن أيضاً صاحب الأعمال الأعظم في هذا النوع الفني الصعب.