عوّدنا مهرجان برلين على الاستعادات السينمائية، أو ما يعرف في أوروبا بالـ"رتروسبكتيف"، أي نظرة إلى الخلف، على غرار مهرجاني "كان" والبندقية المنافسين له. أخذت التظاهرة الألمانية على عاتقها الاهتمام بمسألة الإرث السينمائي، وكيفية صونه وتقديمه إلى العموم من الناس الذين يملأون صالات الـ"برليناله" بأعداد كبيرة، حتى لو كان العمل المعروض يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي. لم يعد تخصيص حيز للأفلام القديمة داخل المهرجانات الكبيرة خياراً، بل بات محطة الزامية تُعنى بالماضي وإعادة اكتشاف كنوز عصور مضت، هذا كله يأتي من الإيمان الراسخ لدى المنظمين بأهمية السينما لذاكرة الشعوب، وأيضاً من قناعة عميقة بأن الماضي هو مدخلنا إلى الحاضر. أفلامنا لم تأتِ من فراغ، بل لديها جذور تضرب في تاريخ السينما.
الإعلام المنشغل عادة بكل ما هو جديد ولافت واستهلاكي لا يعير الكثير من الاهتمام لهذه الأقسام الموازية التي تعج بكلاسيكيات السينما. ومن هنا الظلم الذي يلحق بأفلام تبقى في اطار ضيق وضمن دائرة مغلقة من المهووسين بالسينما الذين لا تفوتهم مناسبة لمشاهدة هذه الروائع على شاشة كبيرة. ومشاهدة أفلام نعرفها جيداً في بعض الأحيان، على شاشة كبيرة ليست تفصيلاً بسيطاً، بل هي القضية الأبرز عند كل الذين يعتبرون أن المكان الحقيقي لكل فيلم هو الصالة التي تتيح مشاركة الفيلم مع الآخرين في العتمة، خصوصاً في زمن باتت فيه المنصات الإلكترونية تهدد هذا النوع من المشاهدة "على الأصول". وهذا ما يلتزم به الـ"برليناله" منذ سنوات من خلال عدد كبير من الأفلام المرممة التي يعرضها، أتذكر منها على سبيل المثال عرضاً أسطورياً بشريط السبعين ملم لـ"حرب وسلم" للمخرج الروسي سيرغي بوندارتشوك الذي تبلغ مدته سبع ساعات.
حضور نسائي
هذا العام في برلين، وبما أن العنصر النسائي باتت له "كوتا" غير معلنة داخل برنامج أي مهرجان، فقررت الإدارة الاحتفاء بثلاث ممثلات أميركيات راحلات من العصر الذهبي لهوليوود ضمن استعادة قيمة لم تخطر سابقاً على بال أي مهرجان. ومن يستطيع أن يقاوم سحر سيدات الشاشة بالأسود والأبيض يوم كان كل شيء أكثر براءة وعفوية؟ هذه الاستعادة تأتي في عنوان "لا ملائكة"، أما الممثلات الثلاث فهن: ماي وست وروزاليند راسل وكارول لومبارد. من خلال عرض 28 فيلماً أنجزت في هوليوود على مدار عشر سنوات، تحديداً بين عامي 1933 و1943، نكتشف كل ما صنع مجد هذه الوجوه الثلاثة. فكل فيلم من هذه الأفلام يقول شيئاً، بل أشياء عن الممثلات ويحمل بصمتهن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقام الاستعادة تحت إشراف الناقد الألماني راينر روثر (المدير الفني للسينماتك الألمانية ومدير قسم الكلاسيكيات والاستعادات في برلين) الذي كان قد أعد كتاباً بعنوان "لا ملائكة" عن الممثلات الثلاث، وأضحى هذا الكتاب مرجعاً مهماً لتنظيم هذه الاستعادة. في الكتاب يقدمهن بشكل منفصل بعضهن عن بعض، كاشفاً إلى أي مدى استخدمت أفلامهن الكليشيهات الكوميدية السائدة وقتها، سواء عبر اللعب بها أو تخربيها. وأيضاً كيف تحولن نماذج للممثلات اللاتي يصلن إلى الجمهور بـ"طريقة فردية" (أي نقيض الوصول عن طريق الترويج والدعاية). نكتشف كم أن لكل واحدة منهن أسلوباً خاصاً في الاشتغال. يرينا روثر إلى أي مدى لعبت ماي وست بالأنماط الأنثوية في سينما هاتيك الفترة، عاكسةً أدوار الجنسين الراسخة بمظهر غامض ولغة موحية. أما في أدوارها كامرأة مهنية واثقة من نفسها، فآسرت روزاليند راسل المشاهدين بسرعة بديهتها، بينما كانت تحرص على مفاجأتهم بروح الدعابة الهزلية. كارول لومبارد في المقابل أغوت الجماهير بأناقتها الخفية، حيناً بصفتها وريثة مدللة ومليونيرة، وحيناً آخر كممثلة طموحة تريد اجتياح المسرح والسينما.
ماي وست
انطلقت وست في الـ39، أي في عمر متأخر نسبياً، لكنها لم تأتِ من الصفر، إذ كان لها تاريخ في المسرح، حيث حققت نجاحات لافتة قبل التوجة إلى الفن السابع. أول ظهور لها على الشاشة كان في "ليلة بعد ليلة" لأرشي مايو (1932)، وسرعان ما صعدت سلم الشهرة لتصبح الممثلة الأعلى أجراً في الثلاثينيات. بدت على نقيض معايير الجمال السائدة في تلك الحقبة، لكنها عوضت عن اختلافها هذا بفرض أسلوب خاص بها، أسلوب أصبح مع الوقت علامتها التجارية. المخرج الكبير راوول ولش استعان بها في "كلونديك آني" (1936)، وأعطاها أكثر دور مثير للجدل في سيرتها: شخصية فريسكو السيئة السمعة التي تفر إلى ألاسكا بعد أن تتنكر بزي راهبة تبشيرية متزمتة. ماي وست وضعت سيناريوهات وقصص معظم أفلامها، وكانت رائدة في هذا المجال وامرأة إستثنائية على طول الخط. زجّها استخدامها العدواني لجاذبيتها الجنسية في معارك مع الرقابة، هذا كله في زمن "الكود هايز" الذي وضع للفن ضوابط صارمة، وقبل عقد من صعود الماكارثية و"مطاردة الساحرات". كانت ساحرة على طريقتها، وحسناً فعل برلين في انتشالها من النسيان وعرض 12 فيلماً تشكل معظم ثروتها السينمائية.
روزاليند راسل
روزاليند راسل في المقابل، كانت تألقت في "المرأة" للكبير جورج كوكور (1939)، الفيلم الذي شهد بداياتها. في مسيرتها الطويلة لم تكتفِ بنوع واحد من الأدوار، بل عرفت كيف تجمع بين الدراما والكوميديا، وكانت دائماً تبرع في النوعين. في الكوميديا، غالباً ما جسدت دور سيدة أعمال ناجحة تجد نفسها للأسف مرغمة على الاختيار بين الحب والعمل، أو تمتلك مكانتها الخاصة في عالم يسيطر عليه الذكور كصحافية ذكية في "فورز إيه كراود" لمايكل كرتيز، أو قاضية تمتاز بالحكمة كما في "مصمم للفضيحة" لنورمان توروغ. امتلكت راسل حس التوقيت الدقيق، الميزة الضرورية لكل ممثل. برعت كذلك في إدارتها المطلقة لحركات الجسد، الأداة الأخرى الأساسية لتفوق الممثل الكوميدي. أفلامها المعروضة في برلين تشرع نافذة على موهبتها الفريدة التي على الأجيال الجديدة من "السينيفيليين" اكتشافها.
كارول لومبارد
تجسد كارول لومبارد قصة مأساوية أخرى من قصص هوليوود. فهي على غرار جيمس دين رحلت باكراً وهي في ذروة عطائها وتقدمها. في الرابعة والثلاثين قضت في حادثة طائرة كانت تقلها من لاس فيغاس إلى لوس أنجليس. طوال السنوات التي مثلت فيها، تركت أثراً طيباً عند الجمهور، وبعض الأفلام التي أطلت فيها كـ"أن نكون أو لا نكون" لإرنست لوبيتش (1942) يعد اليوم من الكلاسيكيات التي تدرس في معاهد السينما. وهي كانت بدأت كممثلة في أفلام صامتة تماماً كزميلتها ماي وست، قبل أن تتقدم لتصبح نجمة في أفلام استوديوهات "باراماونت" في الثلاثينيات. تركت خلفها أكثر من 40 فيلماً، معظمها ينتمي إلى نوع الكوميديا. حمل نوع الأداء الذي قدمته إحساساً بالأنثوية، وتأرجح بين الفتاة الساذجة والمرأة الأنيقة التي تنتمي إلى العالم. لا مجال لعدم ذكر دورها في "رجلي غودفري" لغريغوري لا كافا (1936)، حيث لعبت شخصية اجتماعية ثرية. كان تمثيلها مزيجاً من الخفة والسحر والذكاء، وحرصت دائماً على عرضه بأشكال وتنويعات مختلفة.