هذا "شيطان، نوع جديد من الشياطين لا يستخدم قرينه كثيراً". إنه مايك فاوست، أي "غريب الحصو" الشاب السوري الفقير الذي سيعرف في لبنان بمايك الشرقي. ولعله هو من خاطبته رواية يعرب عيسى "المئذنة البيضاء" (دار المتوسط 2021) في عتبتها الأولى، حيث نقرأ: "إذا ما بعت روحك للشيطان فأحسن استثمار الثمن! لربما احتجت أن تشتريها ثانية ذات يوم".
متلبساً بالكاتب يبدأ السارد الرواية بما يشبه المقدمة، وأولها هو تشبيه مايك الشرقي بقديس أو فيلسوف. ويخبرنا أن الخادم الشخصي لمايك، ذلك الثرثار الواهم، هو من روى له قصصاً متداخلة ومضطربة، وهو "مزيج من أحلام اليقظة، ومدائح الطغاة ومقاطع البورنو الدعائية، وحبكات أفلام الأكشن، وبعض الأحداث الحقيقية". وتلك هي إذاً الرواية التي يخبر كاتبها بأنه ممنوع من السفر، وبأنه تتبع المقدمات التي أفضت إلى تأسيس شركة "الصين للاستثمارات الدولية"، كما تتبع دور هذه الشركة في تخطيط "مشروع الشرق الجديد الذي سيحدد مصيرنا لعقود، وربما لقرون". ويختم الكاتب لعبة المقدمة بأنه، تحت وطأة ما حصل عليه، ووطأة أوهامه، مجبر على تسمية هذا "الشيء" رواية، فلولا ما حصل عليه لكان "الشيء" تحقيقاً صحافياً، وهو ما أراده، لكنه لم يفلح. والحق أن "المئذنة البيضاء" يتلاطم فيها "النفس الاستقصائي" بتفاعل الصحافي والسياسي والاجتماعي والفلسفي والتاريخي وكل ما يمور فيه العالم السفلي والقاع الاجتماعي.
رجلان وجسد واحد
في الفقرة الرقم 49 من فقرات الرواية الخمسين، وعنوانها "البحث عن رجلين يرتديان جسداً واحداً" يطلع الصباح على مايك الشرقي وقد آب إلى دمشق بعد ست وثلاثين سنة لبنانية. وهذا الذي بلغ الثامنة والخمسين، بدأ الزمان بالنسبة إليه الآن. وهذا اللاهي الآن بالتصوف في زمن الكورونا، حيث المساجد والمقامات مغلقة بسبب الوباء، يوزع ثروته على الفقراء، فيعزم مجلس الخمسة الذي يدير أعمال مايك على استعادته، حتى لو كان من نفسه. أما الشيطان، فيبتسم فخوراً للصفقة الناجحة التي أنجزها مع غريب الحصو قبل ست وثلاثين سنة. ويشرح السارد أن إبليس – تؤثر الرواية أخيراً أن تقول إبليس – لا يحب الآثمين كما نظن، بل المتأرجحين بين الكفر والإيمان. والخطيئة التي يفضلها إبليس هي الحيرة. وأكثر ما سر إبليس من مآل مايك أن ثروته التي بلغت 148 مليار دولار، ستذهب إلى أفضل استخدام إبليسي، وهو نشر إيمان زائف جديد.
منذ بداية الحرب اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، دأبت الرواية السورية على "كتابة" تلك الحرب. ومنها ما انفردت به الحرب وبيروت مثل "جنون البقر" لمروان طه مدور، و"كوابيس بيروت" لغادة السمان و"راس بيروت" لياسين رفاعية، ومنها ما ظلت سوريا حاضرة فيه، وهي الفئة الأكبر. وربما كانت ذروة هذه المدونة الكبيرة هي رواية أحمد يوسف داوود "فردوس الجنون" ( 1996)، ورواية يعرب عيسى "المئذنة البيضاء". وقد كان لرواية داوود فاوستها المتمثل في بيروت إذ تغدو الشيطان الخفي الذي يركض في دخيلة بليغ حمود الشاب السوري الهارب مثل مايك الشرقي من سوريا إلى لبنان. وبخلاف مايك هو سرحان اللبناني في رواية داوود، والذي يرى الحرب قذارة سياسية، بينما كانت لمايك فرصته الذهبية، وبها ولغ في القذارة السياسية والأخلاقية والروحية.
على أن الحرب في "المئذنة البيضاء" ليست فقط الحرب اللبنانية، بل هي أيضاً الحرب السورية المندلعة عام 2011، وفي غمرتها عاد مايك إلى دمشق. وكانت إحدى أذرع مايك الشيطانية "عبلة نار الدين" قد خرجت بمايك من تصنيف المعارضة والموالاة والذين جمدوا في البرزخ.
قذائف عشوائية
بالسخرية التي تبدع فيها الرواية وتوجع، تتحدث عن غوطة دمشق في الحرب، فهي تقاوم التوافقات الدولية بإرسال قذائف بدائية بشكل عشوائي، إذ لم يكن مسموحاً لقذائفها الوصول إلى ساحة الأمويين أو القصور الرئاسية في دمشق أو موسكو. وتتمثل ذروة السخرية في تصوير استجابة مايك الشرقي لارتدادات مغامرة صدام حسين في غزو الكويت، حيث نقرأ أن استجابة مايك كانت أسرع من استجابة الأميركيين وأنجح من استجابة الأردنيين وأقل قدرية من استجابة السوفيات... وخرج مايك في المحصلة بأرباح أكبر من أرباح السوريين، وهكذا عادت الحرب على فاوست السوري بمئات الملايين من الدولارات والدنانير. وفي غمرة الحرب السورية يبدأ مايك استعادة روحه من الشيطان، فتميل به الصوفية كما تميل بلغة الرواية، ويتحول إلى أسطورة "الشيخ الغريب" الذي ينسب إليه كل "فعل خير" يقع في أطراف المدينة، حتى إذا حل يوم 1/5/2018، يوم آخر معركة في الغوطة بعد ست سنوات من الحرب، صدح مايك: "رب ارفع عني الوزر... رب جردني مما أملك وانقله إلى حيث يستحق". ويناشد الله أن يلهمه موعد رفع الأعمدة شرق دمشق، أي موعد مشروع عمره المتبئر في المئذنة البيضاء، حيث تشتبك الأسطورة والخيال والمعجزة والإيمان والإلحاد و... بالواقع.
على درب الآلام لمشروع مايك يحشد أذرعه، يربيها ويقصفها ويصعد بها ويسفلها. وقد عقد للخبراء منهم مؤتمراً في بيروت: من تدرس في الجامعة ومن يرأس تحرير صحيفة اقتصادية أو يعد دراسات اجتماعية، وكذلك الروائي عاج الشام وسواهم. وقد عقد مايك لأولاء مؤتمراً في فاريا فاختلفوا على قراءة ما جرى ويجري في سوريا: حجم التنظيمات الإسلامية، ومن دفع بالآخر إلى حمل السلاح أولاً، ومن قتلوا في ساحة الساعة في حمص سنة 2011: شخصان أم ثلاثة آلاف، وهل جبهة النصرة كذبة استخباراتية إعلامية، وكيف يمكن تحصين المجتمع السوري من التشظي؟ ويقدم مايك نفسه إلى المؤتمر وقد بلغ في مشروعه ما بلغ، فيحدثهم عن شركة الشرق الجديد ومساهمته في صناعة الشرق الجديد، وعزمه على أن يكون جزءاً من المستقبل السوري... على أن السارد يتصدى لأذرع مايك في المؤتمر، ويتحدث عن جهلهم بأن البلاد لا تحتاجهم ولا تحتاج أحداً لينقذها، فلطالما كانت تنقذ نفسها، وربما ستكون طريقتها هذه المرة هي التخلص منهم، ومن كل من يظن نفسه أنه منقذها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من أذرع فاوست السوري هذا الروائي عاج الشام الذي ينتقد من يكتبون عن الشام وهم لا يعرفونها، لأنهم قادمون من سوار الشام في حي الميدان أو كفر سوسة أو قرى المزة. ولا تخفى السخرية من هذا الروائي الذي لا يحتمل عقله أن يكتب عن بردى شخص ولد في مصياف أو في الدرباسية، فمن تراه الظل الواقعي لعاج الشام من الروائيين الدمشقيين؟
تتوزع أذرع فاوست السوري على مدى أرخبيلاته في المخدرات والسلاح والعملة والجنس و... وتبني الرواية هنا عشرات الشخصيات بناء محكماً، فيكون لكل منها صوتها وحضورها المميز، مهما يكن دورها عابراً. أما أرخبيلات فاوست التي انتشرت من بيروت إلى قبرص واليونان ودبي والصين ودمشق والكويت والعراق، فمنها الفنادق والأبراج ومواطن القمار وتجارة الجسد وسفينة المتعة وسفينة البوابة الشرقية.
لقد كانت لهذا الفاوست السوري، مشاعره ولحظاته الإنسانية الرهيفة والمتناقضة مع ما تعنيه الشيطنة والأبلسة والفاوستية. ويتجلى ذلك بخاصة في علاقة مايك بالراهبة عايدة وبرفقة التي تبناها ورباها، لكنها تكرهه، وفي شبابها تصدعه بصيحتها: "الشيطان الذي بعته روحك التهمها كلها". وكان مايك قد حكى لعايدة وهي تموت عن كرهه لحياته ونفسه، وعن قلبه الميت وعن اللامعنى الذي يقود كل شيء، كما حكى لها عن ضعفه أمام دمشق: "تافهة ولئيمة وعادية، لكنها الوحيدة التي تعني لي شيئاً".