أحدث قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق بعدم دستورية "قانون النفط والغاز في إقليم كردستان"، دوياً هائلاً في الإقليم وصل صداه إلى بغداد والبصرة، محافظة إنتاج النفط وتصديره، وانقسم المجتمع العراقي إزاء القرار مركزاً على مسألتين، الأولى توقيته في ظل فراغ دستوري نتيجة عدم التمكن من انتخاب رئيس الجمهورية الذي يأذن دستورياً بتكليف رئيس الحكومة، والثانية قدرة بغداد على تنفيذه بإجراءات ملزمة لحكومة الإقليم، كونه قراراً ملزماً وباتاً من أعلى سلطة قضائية في البلاد.
قرارات المحكمة الاتحادية العليا ملزمة
صدر قرار المحكمة الاتحادية العليا على إثر الدعوى المرقمة (59) المقامة العام 2012 من وزارة النفط العراقية، وخلص إلى عدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان رقم (22) لسنة 2007، لمخالفته أحكام المواد (100و111و112و115و121و130) من الدستور العراقي، كما أعلن ذلك رئيس المحكمة الاتحادية، الثلاثاء الـ 15 من فبراير (شباط)، مؤكداً على الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية وصلاحيات الحكومة، فالمادة (111) من الدستور تتحدث عن النفط والغاز، فهما ملك الشعب كله، وهذا نص دستوري عام يثبت ملكية الثروات الطبيعية للشعب العراقي، في وقت نصت المادة (112) من الدستور على أن "تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من جميع الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدد محددة للإقليم المتضرر، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية للمناطق المختلفة من البلاد وينظم بقانون".
ويرى الكاتب جمال الأسدي أن "الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم تلكأتا في الإدارة المشتركة، ويتحمل مجلس النواب بدوراته المتعاقبة المسؤولية الأكبر، إذ لم يشرع قانون النفط والغاز لتنظيم هذه العلاقة"، ويذكر أن "وزارة النفط العراقية تقدمت بذلك القانون عام 2005، وطرح خلال أكثر من دورة من دورات البرلمان، وأجريت له قراءات متعددة لكنه لم يقر نتيجة اعتراض النواب الكرد على بعض فقراته، ولربطه بتأسيس شركة النفط الوطنية ولتضارب المصالح، وكان ورقة سياسية تلعب بها البرلمانات، كما يؤكد ذلك وزير النفط السابق جبار علي اللعيبي".
تضارب في الصلاحيات والمصالح
ويلفت الأسدي إلى أن المادة (115) من الدستور العراقي نصت على أن "كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الإقليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والإقليم تكون الأولوية فيها لقانون الإقليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم حال الخلاف بينهما".
ويضيف الأسدي، "بما أن هناك خلافات حالياً في الإدارة ومن دون وجود قانون اتحادي للنفط والغاز، فإن التنظيم الدستوري لهذه الحال يرجح القانون في الإقليم".
ردود أفعال كردية غاضبة
وجاء الرد الأول في شأن قرار المحكمة الاتحادية العليا من أربيل، وتحديداً من رئيس الإقليم مسعود بارزاني الذي رفض القرار ووصفه بأنه سياسي بحت ويخالف الدستور العراقي والفيدرالي، والهدف منه معاداة إقليم كردستان والنظام الفيدرالي في العراق، وأمل بأن تتمكن حكومتا العراق وإقليم كردستان من التغلب على العراقيل والاتفاق على ملف النفط والغاز. وقال، "مع هذا نعلن للجميع بأن إقليم كردستان سيدافع بكل ما أوتي من قوة عن حقوقه الدستورية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت حكومة كردستان عدم التزامها بقرار المحكمة الاتحادية العليا، ووصفته بـ "غير العادل وغير الدستوري".
وقالت الحكومة في بيان إنه "على المحكمة الاتحادية أن توسع تحقيقاتها وتأخذ مطالب إقليم كردستان بالاعتبار"، مؤكدة أنها لن تتخلى عن حقوقها المثبتة في الدستور العراقي.
ويقول المتخصص في الشأن الدستوري الدكتور يحيى الكبيسي إن "القرار كان بناء على دعويين مقامتين بهذا الشأن، الأولى عام 2012 والثانية في 2019، لكن المحكمة الاتحادية الحالية تشكلت عام 2021، وهذا يعني أن الدعويين مقامتان في عهد المحكمة الاتحادية السابقة، والسؤال هو لماذا لم تنظر المحكمة الاتحادية السابقة بهما طوال هذه السنوات، ولماذا نظرت المحكمة الاتحادية بهما الآن؟".
أزمة عدم المصادقة على قانون النفط والغاز
يربط عدد من المتابعين بين الصراع السياسي في العراق، لا سيما بعد إعلان الكتلة الأكبر المتحالفة مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" ومطالبتها بحكومة أغلبية وطنية، وبين تفعيل عمل المحكمة الاتحادية العليا وفتحها مجموعة كبيرة من القضايا والدعاوى التي ظلت لفترات طويلة حبيسة أدراجها نتيجة الضغوط السياسية التي مورست خلال السنوات الـ 19 الماضية، وجاء القرار الحالي للمحكمة على الرغم من تأخره قرابة الـ 10 سنوات، استجابة لدواعي السيطرة على موارد البلاد.
لكن إخفاق البرلمانات العراقية لأربع دورات خلت وعدم تمكنها من إصدار قانون النفط والغاز الذي ظل حبيس الأدراج، تستخدمه القوى ورقة ضغط تساوم عليها، وفي تلك الأثناء بقيت الحكومات المتعاقبة تعتمد على 85 في المئة من النفط المستخرج من البصرة أقصى جنوب العراق، وتوزع عائداته على الإنفاق العام، وللإقليم حصة فيه تبلغ 21 في المئة، منها رواتب البيشمركة الكردية التي تسددها الحكومة المركزية، وقد رافقت ذلك دعوة متكررة من حكومة بغداد إلى الإقليم بسداد ما عليه من مستحقات بلغت عشرات المليارات جراء صادرات النفط من الإقليم، والتي يرى متخصصون نفطيون أنها يجب أن تكون بيد وزارة النفط العراقية مع شراكة إدارية في الإقليم.
آلية متوقعة للتعامل مع نفط الإقليم
وفي هذا الإطار يقول استشاري التنمية أحمد موسى، "ينبغي إلزام حكومة الإقليم بتسليم الحكومة الاتحادية ممثلة بوزارة النفط الاتحادية، وتمكينها مع ديوان الرقابة المالية الاتحادي بمتابعة إبرام العقود لبيع النفط والغاز في الإقليم، وهذا يقتضي تشكيل فريق عمل متخصص لتنفيذ القرار تتضمن مهماته تسلم نسخ العقود التي وقعتها حكومة الإقليم لكل حقل أو رقعة استكشافية، وجميع التعديلات على تلك العقود، وتسلم الوثائق والحسابات وخطط التطوير وبيانات الإنتاج المتعلقة بتطوير الحقول وإنتاجها، مع إعداد بدائل تطرح على الشركات الأجنبية المتعاقدة مع حكومة الإقليم. ويعد وجود كل شركة أجنبية تعمل حالياً وترفض قرار المحكمة الاتحادية العليا غير مشروع وغير دستوري، وبذلك تتحمل تلك الشركة تبعات وجودها غير المشروع في العراق"، لكن ذلك لا ينفذ بسهولة من دون توافق سياسي بين بغداد وأربيل.
أخيراً، هل يمكن اعتبار أن المحكمة منحت حكومة بغداد مستنداً للضغط على الكرد؟
يجيب الكبيسي بأن "المحكمة الاتحادية ستقوض النظام السياسي العراقي إذا لم يتم ضبطها، وتريد أن تقول إن قراراتها فوق الدستور وهي أقرب إلى قرارات مصلحة تشخيص النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا يعني أن هناك جهة فوق القانون وفوق الدستور".