بات وجود قوات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية سلام جوبا داخل المدن السودانية بالعاصمة والولايات بدلاً من معسكرات التجميع وفق ما نص عليه اتفاق السلام، من الهواجس المؤرقة للأمن والسلامة العامة، إذ شكلت الظاهرة تحدياً أمنياً متعاظماً انعكست مضاعفاته على الأوضاع الأمنية، من خلال مظاهر الوجود المسلح والانفلات الأمني في مدن عدة على رأسها مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور والإقليم، التي شهدت تفلتات متكررة، استدعت التحرك لاتخاذ خطوات إيجابية وحاسمة في تنفيذ الترتيبات الأمنية.
ودفع تكرار التفلتات الأمنية بعدد من ولايات دارفور، وحادثة نهب مقر بعثة الأمم المتحدة "يوناميد" وما تلاها من تداعيات سلبية، نمر محمد عبد الرحمن، والي شمال دارفور، إلى المطالبة بإخراج قوات الحركات المسلحة من المدينة، من دون أي تجاوب يذكر، ما دفع مجلس الأمن الدفاع الوطني إلى اتخاذ قرارته الأخيرة الصارمة، بإخلاء المدن السودانية من جيوش كل الحركات الموقعة على اتفاق السلام.
تداخل وارتباك
وعلى الرغم من النص الصريح في اتفاق السلام بوجوب معالجة أوضاع الحركات المسلحة من خلال تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، كمدخل أساسي لتنفيذ بقية التزامات الاتفاق، فإن بطء وتيرة التنفيذ شكل إحدى العقبات المهددة للاتفاق برمته.
وإلحاقاً لقرارات الفاشر، وجهت اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع، في اجتماع لاحق لها بالخرطوم، أن يتم على نحو فوري، توفير الاحتياجات اللوجيستية للحركات الموقعة على السلام لتنفيذ قرار إخلاء قواتها من المدن وإعادة تمركزها في معسكرات التجميع في إطار تنفيذ بند الترتيبات الأمنية وفق نصوص اتفاقية جوبا للسلام مسار دارفور.
واستمعت اللجنة في اجتماعها بمقر القيادة العامة للجيش السوداني، مطلع الأسبوع الماضي، برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للقوات المسلحة، وحضور كل المكون العسكري بمجلس السيادة الانتقالي ورئيس هيئة الأركان ومديري الأجهزة والوحدات والأفرع النظامية، إلى إفادات أمنية واستخبارية وجنائية موجزة حول الأوضاع الأمنية بالبلاد.
مواقف متأرجحة
اللافت أن رد فعل الحركات المسلحة تجاه تلك القرارات اتسم بعدم الحماس والوضوح، إذ ظلت مواقف معظمها تتأرجح بين الرفض المبطن المبرر، أو التلكؤ متعللة بذريعة شح الموارد والإمكانات، وأحياناً الطعن في ضعف وتيرة تنفيذ بند الترتيبات الأمنية في اتفاقية سلام السودان برمته، فما موقف تلك الحركات من قرار مجلس الأمن والدفاع وحقيقة رفض بعضها خروج قواتها من المدن؟
في هذا الوقت، أكد محمد موسى محمد بادي، المتحدث الرسمي باسم حركة الجبهة الثالثة "تمازج"، الأكثر جدلاً، عدم رفض الحركة قرار خروج قواتها من المدن إلى أماكن التجميع، متمنية أن يتحقق ذلك في أقرب وقت، شرط تهيئة الأجواء وتوفير الدعم اللوجيستي لإتمام العملية، وحول ما أثير عن تهديد الحركة بالعودة إلى مربع الحرب، نفى بادي إطلاقها أي تهديدات مماثلة، إلا أنها تريد أن تكون قرارات مجلس الأمن والدفاع منصفة للجميع، من دون أن يشوب طريقة إجراءات تنفيذ اتفاق السلام أي نهج انتقائي.
وأشار المتحدث باسم "تمازج" أيضاً إلى أن الحركة تمد يدها للتعاون مع الجميع من أجل المضي قدماً في تنفيذ اتفاق السلام، حتى يتحقق الأمن والاستقرار في كل أرجاء البلاد، لكنها ترى أن الطرف الحكومي أنصف بعض الحركات التي تجلس على مقاعد الحكم والوزارات، بعيداً عن الالتزام بتنفيذ ما تم التوقيع عليه في وثيقة الاتفاق، لأسباب متعددة، لكنه ظل يبرر ويتعلل بقلة الإمكانات وعدم توفر دعم للتنفيذ.
وأكد بيان صادر عن الحركة رفضها لما وصفته بأسلوب الإقصاء الممنهج من قبل بعض حركات الكفاح المسلح، التي تدعي أنها صاحبة الحق في بند الترتيبات الأمنية، على الرغم من أنها، بحسب البيان، لا تمثل 10 في المئة من أصحاب الحق بدارفور، وهددت الحركة في بيانها من كل الخيارات أمامها تبقى مفتوحة في حال عدم الاستجابة لمطالبها، المتمثلة في عدم إقصائها من المجلس الأعلى للترتيبات الأمنية، فضلاً عن تمثيلها سياسياً وتنفيذياً بولاية غرب دارفور، متهمة ما سمته "الأيادي الخبيثة"، بالعمل على تضليل الرأي العام بوصف الحركة كصنيعة حكومية، حتى يتم إبعادها عن المشاركة في المجلس الأعلى للترتيبات الأمنية.
أسباب وحجج
وفي ما خص حركة العدل والمساواة السودانية، كشف أحمد تقد لسان، كبير المفاوضين بالحركة، عن أن عدم وجود الإعانات الكافية لقوات حركات الكفاح المسلح بنقاط التجميع سبب في دفع قوات الحركات إلى الارتكاز داخل المدن، متهماً الحكومة السودانية بالمماطلة في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، كما اتهم لسان، في لقاء نظمته حركة العدل والمساوة السودانية، شمال دارفور، مع مبادرة أهل الفاشر بشأن بسط الأمن بمدينة الفاشر عاصمة الولاية والإقليم، نخباً سياسية لم يسمها بالتخطيط لإبعاد دارفور عن العملية الانتخابية المقبلة بحجة وجود سيولة أمنية بالإقليم.
ووصفت حركة التحالف السوداني الموقعة على اتفاق السلام، قرار مجلس الأمن والدفاع بخروج قوات الحركات المسلحة من المدن، بأنه لم يأت بجديد، لأن ذلك ما نصت عليه اتفاقية السلام بتجميع قوات الحركات في مراكز خارج المدن، وهو ما تم حتى الآن، حيث لا توجد أي قوات للحركات المسلحة داخل الخرطوم ولا حتى في المدن بالولايات المختلفة، وقال حذيفة محيي الدين البلول، المتحدث باسم التحالف السوداني، إن الأمر الأكثر أهمية المفترض أن يأخذ الأولوية في مجلس الأمن والدفاع، هو البحث في أسباب الفشل في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية طوال العامين الماضيين، ما ألقى بظلال سلبية على الوضع الأمني في دارفور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسف البلول لعدم وجود خطوات عملية ملموسة لتنفيذ الترتيبات الأمنية حتى الآن، بخلاف التسويف المتكرر، على حد قوله، مشيراً إلى أن القوة التي تم تكوينها من الأجهزة النظامية والحركات المسلحة، أخيراً، ليست جزءاً من بنود الاتفاق، الذي نص صراحة على تكوين قوة مشتركة لحماية المدنيين قوامها 20 ألف مقاتل مناصفة بين حكومة السودان والحركات المسلحة، التي لم تر النور حتى اليوم، مضيفاً أن استمرار اتفاق جوبا واستدامة السلام، يمر بمنعطف خطير وتحديات كبيرة، لأن هذا الوضع خلق تذمراً كبيراً وسط القادة والضباط، واستمراره قد يقود إلى انتكاسة سيئة العواقب.
تحديات كبيرة
وفي سياق متصل، قال فتحي عثمان، المتحدث باسم حركة تجمع قوى تحرير السودان، إن قرار خروج قوات حركات الكفاح المسلح يواجه تحديات كبيرة أولها ضرورة توفر الإرادة الحقيقية من كل الأطراف، بخاصة وزارة الدفاع التي عليها اتخاذ القرارات بإنشاء آليات تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية، وتقديم الدعم اللوجيستي وتهيئة البيئة المناسبة بتجهيز المعسكرات الملائمة الخدمات، وفي حال تمت كل هذه المسائل، فسيكون من السهولة خروج قوات حركات الكفاح المسلحة من المدن، والبدء الفوري في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية.
وأكد عثمان وجود قوات للحركات في المدن ينحصر في أعداد قليلة، وأن بعض القوات الموجودة في الخرطوم جاءت بغرض التدريب وحراسة الشخصيات المهمة في الدولة، وهي موجودة في معسكرات التدريب، وتابع عثمان، "أما في بقية الولايات وبخاصة شمال دارفور، فلدينا مجموعة قليلة جداً من القوات داخل المدينة، ومعسكراتنا خارج الولاية معروفة، وذلك لأنه من ضمن بنود الترتيبات الأمنية هناك مراكز تجميع لقوات كل حركة على حدة".
تنصل المانحين
وسط هذه الأجواء، أرجع رئيس اللجنة العسكرية العليا المشتركة للترتيبات الأمنية، اللواء ركن علاء الدين عثمان ميرغني، تأخير تنفيذ بند الترتيبات الأمنية إلى عدم التزام الدول الصديقة بدعم وتمويل عملية السلام، وقال إن تحديات تنفيذ الترتيبات الأمنية تتمثل في كيفية بناء الثقة بين الأطراف والرغبة في تجسيدها على أرض الواقع، مشيراً إلى أن كلاً من الحكومة وأطراف السلام تعمل بانسجام وتناغم من أجل رفعة البلاد وضمان استقرارها.
من جهته، قال نائب رئيس اللجنة العسكرية العليا المشتركة للترتيبات الأمنية، الفريق سليمان صندل، إن اللجنة هي الجسم التنفيذي المباشر والمشرف على توفير الدعم المادي واللوجيستي لتنفيذها، والذي من دونه لا تصلح عملية السلام، مشيداً بتفهم حركات الكفاح المسلح أوضاع البلاد، وأوضح صندل أن قرار تجميع قوات حركات الكفاح المسلح، قرار سليم صدر بإجماع كل الأطراف ويفسح المجال للبدء الفعلي لبروتوكول الترتيبات الأمنية، مشيراً في مؤتمر صحافي بالخرطوم، إلى أن تفاق السلام لم يشهد حتى الآن أي خروقات من أي من الجانبين بدليل عدم حدوث أي اشتباكات بينهما، وقال إن حالات الانفلات التي تقع في بعض الأماكن فردية ومعزولة.
وكان المجلس الأعلى المشترك قد أصدر خلال اجتماعه الثالث بمدينة الفاشر قرارات عدة أهمها، إعادة تسمية قوة المهام الخاصة بقوات حفظ الأمن وحماية المدنيين، وإعادة تجميع حركات الكفاح خارج المدن، وخروج حركة "تمازج" من المدن الرئيسة، وتنظيم حملات لمحاربة المظاهر المسلحة بالإقليم، وأرجع رئيس مجلس السيادة، التعثر في تنفيذ الترتيبات الأمنية إلى بعض التحديات اللوجيستية، ما أضر بالعملية السلمية ومواطني دارفور والسودان ككل.