تواصل روسيا بالتزامن مع تهديدها بغزو أوكرانيا، مناوراتها في جنوب شرقي أوروبا حيث تؤدي دوراً أساسياً في زعزعة سلام هشّ أصلاً في الدول التي شكّلت في السابق جمهورية يوغوسلافيا، إذ تُمدّ روسيا صربيا بكمية هائلة من الأسلحة. وتؤجج الأحقاد العرقية في البوسنة والهرسك. وتهدد كوسوفو ومقدونيا الشمالية. وتتدخل في شؤون مونتينيغرو [الجبل الأسود].
لقد أسهم دعم الكرملين للقومية الصربية بإشعال الموجة الأخيرة من النزعة القومية المتنامية التي تهدد بنسف السلام في البوسنة والهرسك، وربما تأجيج النزاع المسلح حول كوسوفو كذلك، فضلاً عن إثارة الاضطرابات السياسية في مقدونيا الشمالية ومونتينيغرو، الدولة العضو في حلف "ناتو".
وكذلك تُقدِم روسيا في كامل منطقة البلقان، بما في ذلك الدول الأعضاء في "ناتو" والاتحاد الأوروبي كبلغاريا وهنغاريا، إما على شراء الأصول الاستراتيجية أو السيطرة عليها، في قطاعات رئيسة كالإعلام والأمن والاتصالات والمالية.
وفي ذلك الصدد، ذكرت إيفانا سترادنر من "معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة"، وهو مركز دراسات موقعه في واشنطن، "إنهم [الروس] يتبنّون تلك العقيدة سيئة السمعة المسماة بـ’التحكم الانعكاسي" من أجل السيطرة على عمليات اتخاذ القرار لدى العدو، وقد نتوقّع من روسيا أن تطلق شرارة واحدة في أوكرانيا، لكن يُحتمل أن تنفجر في مكان آخر".
[ترتكز نظرية "التحكم الانعكاسي" Reflexive Control على تقديم معلومات مدروسة إلى خصم أو شريك، مع معرفة مسبقة بأنها تثير رد فعل معين لديه يستفيد منه الطرف الذي نشر المعلومة أصلاً، فيكون متحكماً مسبقاً بطريقة تصرف العدو/الشريك].
ونشرت السيدة سترادنر مقالة بعنوان "روسيا تلعب بالنار في البلقان" الشهر الماضي في مجلة "فورين أفيرز". وأضافت، "لا أستبعد أن تتحول منطقة البلقان إلى مسرح جديد تتحدّى فيه روسيا الاتحاد الأوروبي وناتو كي تبرهن أنهما ماردان من ورق".
وتشدد، "إنها [روسيا] عازمة على خلق الفوضى".
بصورة عامة، تنظر روسيا إلى البلقان باعتبارها منطقة مهمة تربطها بها صلات قوية وقديمة العهد من الناحيتين الثقافية والتاريخية. واتهمت الغرب مرات عدة بزعزعة استقرار المنطقة والتدخل في سياساتها، بدءاً بمسارعة ألمانيا إلى الاعتراف باستقلال كرواتيا عن يوغوسلافيا، ما أدى بعد ذلك إلى انفراط عقد تلك الدولة وانحلالها.
وفي مقابلة له تعود إلى عام 2019 وتناقلها الإعلام الصربي آنذاك، صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن "سياسة الولايات المتحدة وبعض دول الغرب في البلقان التي سعت من خلالها إلى إحكام هيمنتها على المنطقة، شكّلت عاملاً خطيراً في زعزعة الاستقرار. وسيزيد ذلك قلة الثقة والتوتر في أوروبا في النهاية، بدلاً من أن يعزز الاستقرار".
في المقابل، تُتَّهم موسكو أيضاً بتأجيج التوترات العرقية عن طريق التحريض الذي اتّبعته وسائل الإعلام المدعومة من الدولة في تغطيتها للأحداث، ودسّ الأخبار المضللة على المنصات المتصلة بها.
وكذلك استغلّت العلاقات بين الكنيستين الروسية والصربية الأرثوذكسية في صربيا والبوسنة ومونتينيغرو، من أجل التأثير في الانتخابات والرأي العام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ فترة قصيرة، وقّعت موسكو معاهدة مع بلغراد لمحاربة ما وصفتاه بـ"الثورات الملونة"، ويشير المصطلح إلى الانتفاضات الشعبية على السلطات الاستبدادية التي تعتبرها روسيا، وكذلك صربيا، مخططات غربية. وتمتلك وكالة "سبوتنيك"، أداة الإعلام الدعائية الروسية المنتشرة بشكل واسع، مركزاً في بلغراد.
في ذلك الشأن، أوضح توماس براي، الصحافي المخضرم والباحث الذي غطى قضايا البلقان، أن وكالة "سبوتنيك" الصربية "تزرع روايات في كل وسائل الإعلام الكبرى في المنطقة، أبعد ما تكون عن الواقع، لكنها ترسّخ وجهة النظر الروسية عن بؤر التوتر العالمية".
في سياق متصل، اشترت صربيا من روسيا منظومات دفاعية جوية من نوع "بانتسير إس 1 إم"، ودبابات قتالية وناقلات جند مدرعة ومروحيات وصواريخ "كورنيت" الموجهة المضادة للدبابات. وكذلك أرست نقطة أمر واقع هدفها جمع المعلومات الاستخباراتية قرب معسكر "بوند ستيل"، قاعدة "ناتو" في كوسوفو. وفي الشهر الماضي، حدثت فضيحة بعد الكشف عن تجسس وزير الداخلية الصربي أليكساندر فولين على اجتماع للمعارضين الروس في بلغراد العام الماضي، وأنه سلّم [وزير الداخلية] محاضر اللقاء إلى أحد معاوني السيد بوتين. وألقت السلطات الروسية القبض على أحد هؤلاء المعارضين منذ حدوث الاجتماع. بينما بقي السيد فولين في منصبه.
واستكمالاً، شكّلت البوسنة والهرسك، أخطر البؤر الساخنة المحتملة في جنوب شرقي أوروبا، نقطة تركيز أساسية لروسيا وحليفتها في المنطقة، صربيا، التي تُعدّ الوكيلة الرئيسة للكرملين في البلقان.
وغالباً ما يسافر الزعيم الصربي ميلوراد دوديك المرشّح لإعادة انتخابه في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، إلى موسكو بغية عقد الاجتماعات والتقاط الصور مع السيد بوتين تعزيزاً لشعبيته.
وبعد لقائه السيد بوتين في أوائل ديسمبر (كانون الأول) 2021، أعلن دوديك عن الدعم الروسي لصربيا في خلافاتها مع المجموعات العرقية الأخرى في البوسنة والهرسك. كذلك صرّح أن الرئيس الروسي وعد بتزويد كيان صرب البوسنة [داخل جمهورية البوسنة والهرسك]، أي جمهورية صربسكا، بخط جديد لأنابيب الغاز والوقود ومحطة لتوليد الطاقة الشمسية.
وعلى الرغم من ادعاءات الفساد الموجهة ضده، من المتوقع أن يهزم السيد دوديك منافسيه في الانتخابات المقبلة، ما يطيل أمد القبضة السياسية الممتدة فوق جمهورية صربسكا منذ تسعينيات القرن العشرين.
وفي هذا الإطار، أوضح المحلل السياسي في بانيا لوكا، عاصمة الأمر الواقع لجمهورية صربسكا، سرجان بوهالو، أنه "قبل كل معركة انتخابية، يلتقي دوديك ببوتين بضع دقائق. ويكفي ذلك الناخب الصربي العادي كي يفهم من هو صديقه".
وفي هذه الأثناء، "حينما يأتي الروس إلى سراييفو، تكون رسالتهم الوحيدة هي ألاّ تنضموا إلى ناتو. ولا تنضموا إلى الاتحاد الأوروبي"، بحسب السيد توكالو، الأستاذ وعميد كلية العلوم السياسية في "جامعة سراييفو".
في ملمح متصل، أعاقت روسيا تمرير قرارات الأمم المتحدة التي اعتُبرت غير مؤاتية لصرب البوسنة. وكذلك عارضت بالاشتراك مع الصين، تعيين شخص في منصب رئيس داخل هيئة تراقب تطبيق "اتفاقات دايتون" التي أنهت الحرب الأهلية في البوسنة في تسعينيات القرن العشرين.
وفي كوسوفو، هددت صربيا بشنّ حرب ضد تقسيم الجمهورية اليوغوسلافية السابقة، إذ أعلنت كوسوفو استقلالها [عن صربيا] على الرغم من اعتراضات بلغراد وموسكو قبل 15 عاماً. خلال لقاء جمعهما في منتجع "سوتشي" السنة الماضية، أكد السيد بوتين للسيد فوتشيتش دعم الكرملين. ولا تزال الوسائل الإعلامية الروسية تصف كوسوفو بأنها "مقاطعة تتمتع باستقلال ذاتي" في صربيا.
أما في مونتينيغرو، وبعد دعمها المزعوم محاولة انقلاب فاشلة عام 2016، أدّت عناصر مؤيدة لروسيا، تدعمهم الكنيسة الصربية الأرثوذكسية، دوراً أساسياً في إطاحة قائد البلاد بعد فترة طويلة من حكمه لها، وتنصيب حكومة أقرب إلى الكرملين مكانه، لكنها انهارت منذ أسابيع عدة، ما أعاد إحياء الهواجس بشأن مزيد من التدخل الروسي.
وفي مقدونيا الشمالية، أحدث أعضاء "ناتو"، تشير التقارير إلى أن روسيا لا تزال تؤثر في السياسات الداخلية. وقد هددت بجعل البلاد "هدفاً مشروعاً" في حال حدوث أي توتر بين موسكو والغرب.
في إطار عام، لا ترغب روسيا في الغالب أن يُعاد إشعال فتيل حروب البلقان المأساوية التي لم تنتهِ سوى بعد تدخل دولي قوي، شمل حملات القصف التي شنّها "ناتو" وانتقدها السيد بوتين بشدة خلال إحاطته الإعلامية المشتركة مع المستشار الألماني أولاف شولتز هذا الأسبوع.
في المقابل، تؤدي زعزعة المنطقة إلى استنزاف الطاقة الدبلوماسية من الغرب، وتفاقم مشكلات الهجرة وعدم الاستقرار.
ووفق السيد توكالو، "يعملون [الروس] على تصعيد حدة التوترات ثم تخفيفها". إذاً، نجحت موسكو في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بفضل التنمّر والتهديد كذلك.
وفي نفس مماثل، أشارت السيدة سترادنر إلى أن "روسيا ترغب بإثارة الفوضى ووضع نفسها في موقع المفاوض في البلقان، ثم استخدام هذا النفوذ كي تعيد التفاوض مع الغرب على فوضاها الخاصة في أوكرانيا".
وأضافت، "تشمل أهداف بوتين إعادة ترسيخ مكانة روسيا باعتبارها قوة عظمى، وإن روسيا الانتقامية مستعدة لاستخدام القوة الأحادية الجانب في القرن الواحد والعشرين، لأن هذا ما فعله الغرب تحديداً في القرن العشرين، برأي بوتين".
ليست روسيا الدولة الوحيدة التي تبني نفوذها السياسي في البلقان. وعلى الرغم من اتهام البعض لهما بعدم التركيز الكافي على المنطقة، أرست الولايات المتحدة وأوروبا وجوداً دبلوماسياً قوياً هناك، وكذلك فهما تسهمان في تطوير البنية التحتية والمشاريع الإنمائية.
في ذلك الصدد، خصّص الاتحاد الأوروبي و"بنك الاستثمار الأوروبي" 3 مليارات دولار لدعم منطقة البلقان الغربية. كذلك أنفقت "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID) ملايين الدولارات في سبيل دعم الصحافيين في المنطقة. وعيّنت المملكة المتحدة العام الماضي السير ستيوارت بيتش، مبعوثاً خاصاً إلى البلقان.
وضمن ملمح متصل، في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، وسّعت تركيا استثماراتها التجارية وبذلت جهوداً دبلوماسية كبيرة في محاولة كسب ودّ مختلف الأطراف. كذلك فتحت المصارف التركية الكبرى، لا سيما "بنك زراعات" المملوك للدولة، وكبرى شركات البيع بالتجزئة ومقدمو الخدمات الطبية، فروعاً في المدن الرئيسة.
وفي ذلك الصدد، توازن تركيا دعمها لعملائها البوسنيين المسلمين مع الاستثمارات الكبيرة التي لا تضعها في جمهورية صربسكا وحدها، بل في صربيا نفسها. وكوّن السيد أردوغان علاقات ودّية مع الحكومة في سراييفو، فيما يعتبره بعض البوسنيين المسلمين بطلاً. وفي المقابل، تملك أنقرة علاقات قوية كذلك مع ألكساندر فوتشيتش والسيد دوديك الذي يبدو أنه ينظر إليه على أنه معلّمه.
وعلّق على ذلك ميلوش سولاجا، أستاذ العلوم السياسية في "جامعة بانيا لوكا"، مشيراً إلى أن "تركيا تتصرف بحذر شديد".
وفي الحقيقة، أنهت "اتفاقات دايتون" الحرب في البلقان، لكنها مملوءة بالعيوب، وربما عيوب قاتلة حتى، إذ لم يقبل الصرب يوماً بانشقاق جمهورية كوسوفو، بل يشعرون منذ وقت بعيد بالقلق بشأن وضع بني جلدتهم الذين يعيشون كأقليات في منطقة كانوا يسيطرون عليها خلال معظم القرن العشرين.
وفي مسار متصل، فبعد سؤالهم عن سبب غليان الأوضاع في هذا الوقت بالتحديد، ألقى عدد من المحللين باللوم على الكرملين، إذ ذكر السيد توكالو أن "روسيا لم تكُن منذ عشرة أعوام، تفرض نفسها إلى هذا الحد".
كذلك استغلّت روسيا الفشل في استقطاب الدول اليوغوسلافية السابقة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، خلافاً لما حدث مع كرواتيا وسلوفينيا، مع أن الغرب يملك مصالح كبيرة في تلك المنطقة.
وذكر السيد توكالو أن استطلاعات آراء كشفت عن اعتقاد البوسنيين بأن الأتراك يشكّلون المستثمرين الأساسيين في البوسنة والهرسك، فيما يعتقد الصرب بأن روسيا هي المستثمر الرئيس. وفي الحقيقة، إن أوروبا هي التي توفّر القسم الأكبر من الاستثمارات، وتشكل أيضاً المصدر الرئيس للتحويلات المالية من المقيمين في الخارج.
إضافة إلى ما تقدّم، كشفت دراسة أجريت أخيراً أن غالبية الصرب يعتبرون روسيا والصين أهم المستثمرين في البلاد، بينما أكبر الاستثمارات تأتي في الواقع من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي ذلك الصدد، لاحظ المؤرّخ نهاد كريسفياكوفيتش في سراييفو، "نرغب أن نكون في أوروبا وليس في روسيا. لا نزال نؤمن بأوروبا، حتى لو لم يكُن لدينا سبب يدفعنا إلى ذلك، بل حتى لو أن هذا أكثر مما يستحقونه".
© The Independent