مع إعلان ألمانيا الثلاثاء وقف خط الغاز الروسي إلى أوروبا "نورد ستريم 2"، وإعلان بريطانيا عن حزمة أولى من العقوبات على روسيا نتيجة دخول قواتها شرق أوكرانيا، يبدأ مسار العقوبات الغربية التي ستتزايد في الأيام المقبلة. وكان الرئيس الأميركي جو بايدن أعلن ليل الاثنين عن حظر أي تعامل مع المنطقتين الانفصاليتين عن أوكرانيا اللتين اعترفت موسكو بهما وأرسلت جيشها إليهما في مهمة وصفتها بأنها "حفظ سلام". لكن العقوبات البريطانية تتجاوز المنطقتين الأوكرانيتين وتطال المصالح الروسية، إذ تضمنت حظر خمسة بنوك روسية وفرض عقوبات على عدد من الأثرياء الروس. كذلك إعلان ألمانيا وقف مشروع خط الغاز الثاني الذي اكتمل لكنه لم يتم تشغيله بعد يطال المصالح الروسية مباشرة.
وكان المشرعون الأميركيون الرئيس بادينفي الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، ومن الحزبين الديمقراطي الحاكم والجمهوري المعارض، أعلنوا مراراً أنهم يعدون لحزم عقوبات على روسيا لم يسبق لها مثيل، وصفت بأنها ستكون "أم العقوبات" في حال أقدمت على غزو أوكرانيا. وبما أن دخول الجيش الروسي بالفعل إلى الأراضي الأوكرانية يعد من وجهة نظر أميركا والغرب "غزواً"، فسيتوالى تشديد العقوبات وفرض حزم جديدة لا تقتصر فقط على أعمال وشركات وشخصيات روسية بل تستهدف شل الاقتصاد الروسي كله باعتباره "اقتصاداً داعماً للحرب"، كما قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الثلاثاء، بعد اجتماع حكومة الطوارئ التي أقرت الحزمة الأولى من العقوبات على موسكو.
استعداد روسي
لن تكون حزم العقوبات المتتالية مفاجئة للقيادة الروسية، التي تعمل جاهدة منذ عام 2014 على تعزيز ما وصف بأنه "دفاعات موسكو الاقتصادية"، إثر فرض عقوبات غربية ودولية عليها بعد استيلائها على شبه جزيرة القرم. ووصف بعض المعلقين الاستعداد الروسي بأن الرئيس فلاديمير بوتين إنما يبني ما وصفوه "الحصن الروسي". وكانت أولى الخطوات استمرار روسيا في تعزيز احتياطياتها من النقد الأجنبي تحسباً لما يتحدث عنه البريطانيون والأميركيون الآن من حظر تعامل روسيا بالدولار والجنيه الاسترليني. ويمكن للاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي أن يفيد في تخفيف حدة العقوبات وتوفير السيولة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة المتوقعة نتيجة العقوبات.وفي الآونة الأخيرة بلغ احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي الروسي ما يزيد على نصف تريليون دولار (أكثر من 631 مليار دولار)، ليصبح رابع أكبر احتياطي نقدي لدى دولة في العالم. ويمكن ذلك روسيا من امتصاص الصدمة الأولى للعقوبات المشددة.
وفي إطار الاستعداد الروسي، تم تطوير نظام مغلق للرسائل المالية يختلف عن الأنظمة السائدة عالمياً مثل نظام "سويفت" والنظم العربية مثل "فيدواير" و"تشيبس". لكن النظام الروسي يظل محدوداً في معاملاته ولا يعرف بعد إن كان سيمكن روسيا من التعامل مع الخارج في ظل العقوبات إذا قرر الغرب حظر اشتراكها في نظام "سويفت" المهيمن على المعاملات المصرفية والمالية العالمية. كما حرصت روسيا في السنوات الأخيرة على تطوير صناعات محلية تقلل من اعتمادها على استيراد بعض المنتجات الغربية، لكن ذلك بالطبع لا يعني استغناء السوق المحلية عن الاستيراد، وإنما يمكن أن يخفف من حدة أضرار العقوبات القاسية المنتظرة.
لكن أغلب المحللين لا يتوقعون أن تكون تلك الإجراءات الوقائية الروسية كافية لمنع وقوع أضرار هائلة وفورية على الاقتصاد الروسي، بخاصة أن العقوبات ستشمل حظر استيراد روسيا مكونات مهمة وأساسية لصناعتها المحلية في مقدمتها منتجات التكنولوجيا الغربية.
معضلة الطاقة
كما أن حظر البنوك الروسية من التعامل مع النظام المالي العالمي سيؤدي إلى ضرر هائل على معاملات روسيا التجارية مع الخارج، بخاصة تصديرها النفط والغاز، إذ تشكل عائدات مبيعات الطاقة مصدراً مهماً للدخل القومي الروسي. وحاولت روسيا أخيراً زيادة تعاقداتها على تصدير الطاقة مع حلفاء في آسيا في مقدمتهم الصين. وخلال زيارة بوتين إلى بكين مطلع هذا الشهر للمشاركة في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية وعقد لقاء قمة مع الرئيس الصيني شي جياو بينغ، تم التوقيع على عدة اتفاقات من بينها زيادة صادرات النفط والغاز الروسية للصين على مدى السنوات العشر المقبلة. وذكرت وسائل الإعلام المحلية في روسيا أن الصفقة الأخيرة لتصدير النفط الروسي للصين على مدى عشر سنوات تصل قيمتها إلى 80 مليار دولار. كما تم التوقيع على اتفاق آخر لتوريد عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً للصين ترفع إمدادات روسيا للصين إلى 48 مليار متر مكعب من وضع الإمدادات الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال كبير المستشارين في "بلاتس آناليتيكس" بول شلدون في مدونة على موقع "غلوبال بلاتس" إن "مخاطر فرض عقوبات غربية على قطاع الطاقة الروسي ستزيد من رغبة روسيا في زيادة صادراتها من الطاقة إلى آسيا، كما ستزيد من رغبة الصينيين في الاستثمار أكثر في استكشاف وإنتاج الطاقة". وعلى الرغم من أن تلك الاتفاقات توفر لروسيا بضعة مليارات من الدولارات، فإن موقف الصين من العقوبات الغربية والدولية المتوقعة على روسيا ليس واضحاً حتى الآن.
روسيا والصين
ومهما كانت اتفاقات روسيا مع الصين ودول أخرى لتصدير الطاقة فإنها لن تعوض تعطل الصادرات الروسية لأوروبا، إذ تستورد أوروبا نحو 40 في المئة من صادرات الغاز الطبيعي الروسي، حسب أرقام معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة. وتعد ألمانيا أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي، إذ إن إنتاجها من الغاز لا يسد سوى نحو خمسة في المئة من احتياجاتها وبالتالي تستورد أكثر من نصف استهلاكها من الغاز الطبيعي من روسيا. أما هولندا فتستورد أكثر من ربع احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، تليها فرنسا التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 16.8 في المئة. وتستورد السويد من الغاز الطبيعي الروسي ما يسد 12.8 في المئة من استهلاكها. أما إسبانيا فتستورد 10.4 في المئة من احتياجاتها للغاز الطبيعي من روسيا، وتستورد البرتغال نسبة 9.7 في المئة من استهلاكها عبر شركة غازبروم الروسية. حتى بريطانيا، وعلى الرغم من إنتاجها من الغاز واستيرادها الغاز الطبيعي المسال من مصادر أخرى فإنها تلبي 6.7 من احتياجاتها باستيراد الغاز الطبيعي الروسي، بينما تستورد بلجيكا 6.5 في المئة من احتياجاتها للغاز الطبيعي من روسيا. وعلى الرغم من أن توقف صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا مع تشديد العقوبات سيزيدان من أزمة الطاقة في أوروبا، فإنهما سيحرمان الشركات الروسية المملوكة للدولة من عائدات بمليارات الدولارات، ما يشكل ضغطاً اقتصادياً إضافياً على موسكو.