ذات يوم رد الروائي التشيكي ميلان كونديرا على أسئلة أحد الصحافيين قائلاً: "تريد أن تعرفني، اقرأني". بمثل هذه العبارة حاول صاحب "غراميات مرحة" أن يطابق سيرته مع نصوصه التي قامت على توثيق مخيف لطبيعة النظام السياسي الذي عاش في ظلاله، قبل أن يتمكن من السفر إلى فرنسا حيث يعيش الآن، متجاوزاً عامه التسعين.
يكشف الكتاب الذي أصدرته دار ترياق (الرياض) تحت عنوان "السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا" كثيراً من المسكوت عنه في حياة الكاتب الإشكالي الأشهر عالمياً. وضم الكتاب سلسلة من التحقيقات الاستقصائية كتبتها آريان شومان محرر صحيفة "لوموند" الفرنسية "حول حياة كونديرا في تشيكيا، وترجمتها الشاعرة التونسية وئام غداس. وأول ما تلاحظه المقدمة التي حملت توقيع إقبال عبيد وعلي زين، أن الكاتب الذي قاوم الخلط بين الأدب والسياسة، معتبراً أن "الروايات يجب أن تكون مستقلة"، هو ذاته الذي ألهمته خبرة العيش في نظام شمولي، كثيراً من موضوعات رواياته، وظلت خبراته ضرورية بالنسبة إلى بعض قصصه كما يقول.
تؤكد المقدمة بوضوح أن كتابات صاحب "لمزحة" أنتجت ما يمكن تسميته بـ"الخيال التاريخي"، وظلت تقرأ كمادة خصبة وفاعلة حول تجربته، وفي الوقت نفسه أضاءت المشهد الروحي المعقد الذي تسكنه شخصياته. حدث هذا، على الرغم من أنه قاوم طويلاً نظرات القراء إليه دوماً كـ "كاتب منشق"، وزاد اختفاؤه وإصراره على تفادي الظهور الإعلامي من شعور القراء بـ "الشغف" تجاه إنتاجه.
في مقابل القراءات "الاستعمالية" لأدبه، طور كونديرا أساليب سردية مبتكرة، سمحت له بكتابة فقرات قصيرة، تفيض بكثافة شعرية استثنائية، واستطاع دمج تعليقات وتأملات فلسفية داخلها كشفت عن ثقافة رفيعة، منحت كتاباته سمة تأملية، يفتقر إليها كثير من النصوص المعاصرة.
بين الفلسفة والخيال
تلح مقدمة الكتاب على تأكيد قدرات الكاتب التشيكي، في دمج الفلسفة والأحلام والتاريخ والموسيقى والرومانسية في سبيكة سردية استثنائية، قابلة لأن تقرأ بمرونة. فبفضل قدراته الخلاقة على إثارة اهتمام القراء، ونجاحه في استعمال الإروتيكية الصريحة، كحالة تعبيرية إنسانية، حققت أعماله شعبية واسعة وترجمت إلى أغلب لغات العالم. وتفيض مواقع التواصل الإجتماعي بـ"اقتباسات" كثيرة من رواياته، و يأمل عشاق أدبه في كل عام أن يحظى بجائزة نوبل للآداب قبل أن يغادرنا إلى العالم الآخر.
يُظهر الكتاب، اعتماداً على أرشيفات متعددة، المسار الذي اختاره صاحب "الكائن الذي لا تحتمل خفته" لحياته الأولى، التي تغيرت تماماً منذ عام 1984، عقب ظهوره في التلفزيون الفرنسي مع برنار بيفو ضمن برنامج "فواصل"، بحيث أصبح شهيراً في طريقة جعلت الجميع يسعون خلفه.
وانسجاماً مع مزاجه الفلسفي، غرق كونديرا في الصمت بعدها بعام واحد، وابتعد عن الأضواء، وقال كلمته المأثورة: "منذ ذلك التاريخ كل شيء متعلق بي يتم التصريح به، زائف ولا علاقة لي به". وطوال أربعين عاماً ظل يردد عبارة لفلوبير:"يجب على الفنان أن يجعل الأجيال القادمة تعتقد أنه لم يعش أبداً"، كما قال: "في البلدان الشمولية تدمر الشرطة الحياة الشخصية للأفراد وفي البلاد الديمقراطية يتكفل الصحافيون بذلك".
نجح كونديرا وزوجته في البقاء بعيداً من الضوء، ولم يتركا خلفهما أي أثر وتمتعا بحياة هادئة. وتولى كونديرا مخاطبة المقربين عبر إرسال رسومات بدلاً من توجيه الرسائل وظل يرسم أبطاله بأشكال مترهلة وأجساد ممتلئة بدت مثل رموز أو كودات، امتلك وحده القدرة على فك طلاسمها. وحين انتقلت إدارة أعماله إلى الوكيل الأدبي الأميركي أندرو ويلي المعروف باسم ابن آوى قالت زوجته: "أظن أننا حرقنا كل شيء، حتى المراسلات الشخصية".
بعيدا عن الميلودراما
وعلى الرغم من ذلك فقد أكد كونديرا في حوارات كثيرة أنه لا يريد تحويل حياته إلى ميلودراما. وبينما ظل النقاد ينظرون إلى حياته كتلخيص مثالي لتراجيديا أوروبا في عصره، رفض هو الاستجابة لعروض كثيرة لكتابة سيرة ذاتية ونجح في أن يسربها في كتبه التي كانت تسخر من كتّاب السير. ومن المعروف أن والده كان عازفاً للبيانو وأستاذاً في الكونسرفتوار، لكن كونديرا لم ينطق يوماً كلمة عن أمه (ميلادا)، وظل جمالها مصوناً في كتابه "الضحك والنسيان"، الذي يعده أكثر الكتب قرباً من حياته وشخصيته.
في "الوصايا المغدورة" حكى أن الأب الفنان لم يتحمل ارتجالاته على البيانو، وقال: "رفعني عن المقعد، وحملني إلى غرفة المائدة يضعني تحت الطاولة باشمئزاز"٠ وقد تمنى الأب لو أصبح ابنه موسيقياً، إلا أنه اختار الأدب، ونشر في بداياته دواوين عدة وقت أن كان الشعر في أوروبا جزءاً من صميم الحياة.
وكأي شيوعي مخلص مدح كونديرا في قصائده الأولى الزعيم الروسي ستالين، ورأى نفسه بين صفوف الشبيبة الشيوعية، حتى أنه كتب بعدها بسنوات، "أسرتني الشيوعية بقدر ما أسرني سترافينسكي وبيكاسو والسريالية".
الوصايا المغدورة
بلور كونديرا خياراته الفنية في عام 1960 منحازاً إلى كتابة الرواية بشكل نهائي، لكنه جعل بطل روايته "الحياة هي في مكان آخر" شاعراً شاباً يعيش انقلاب ربيع براغ بحماسة هذيانية، وذلك قبل أن يصبح عميلاً لدى أجهزة الأمن، وعلى مثل هذه المفارقات بنى صرحه الكبير٠ ويؤكد النقاد أن مجموعة "غراميات مرحة" هي التي صنعت اسمه، وصاغت الملامح الأسلوبية لعالمه الذي يتسم بالسخرية والتهكم، فضلاً عن التعبير عن خيبة الأمل. وربما بسبب ذلك نالت اهتماماً كبيراً خارج البلاد ونشر أحد فصولها مترجماً إلى الفرنسية في مجلة "الأزمنة الحديثة" التي كان يديرها جان بول سارتر، بينما نشر الشاعر أراغون فصلاً آخر في مجلته "الآداب الفرنسية".
وعلى الرغم من نبرة التهكم الشائعة في كتاباته الأولى بقي كونديرا قريباً من الحزب الحاكم إلى أن أعلن في محاضرة شهيرة قدمها أمام المؤتمر الرابع للكتاب التشيك "الحاجة إلى إعادة كرامة الأدب وجودته". وفي أعقابها تم طرده من الحزب وتوجيه اللوم إليه في مذكرة رسمية. ثم نجح في الزواج سراً من "فيرا" المذيعة التي كانت تصغره بسنوات وتحظى بشهرة كبيرة.
تحت المراقبة
وحين أنهى كتابة "المزحة" استطاع أحد رفاقه تسليم المسودة للشاعر الفرنسي أراغون الذي نظر إلى كونديرا كأخ يصغره باثنين وثلاثين عاماً ووعد بكتابة مقدمة للترجمة الفرنسية، إلا أن الكتاب ظهر في تشيكوسلوفاكيا من دون أن يثير بلبلة.
بعد ربيع براغ نال جائزة اتحاد الكتاب وبيعت من "المزحة" في بلاده 120 ألف نسخة، لكن الأزمة جاءت حين استغلت الصحافة الفرنسية ما جرى في ربيع براغ للترويج للترجمة الفرنسية التي كانت دار "غاليمار" بصدد إصدارها، وظهر كونديرا أمام العالم في صورة "الكاتب الملتزم". ففي مقابلة أجرتها معه الصحيفة الإيطالية الشهيرة "لاريبوبليكا" قال: "آنذاك، كنت في نظر الجميع جندياً فوق دبابة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يُفاجأ من ثم بطرده من الحزب وإلغاء تعاقده مع كلية السينما في عام 1971، وسحبت كتبه من كافة المكتبات، وعانى ظروفاً قاسية، حتى إنه حاول العمل كسائق تاكسي ليضمن دخلاً مالياً. وراح يكتب بأسماء مستعارة في مجلات صغيرة، ونشر مسرحية ترجمت إلى الفرنسية، وشارك في التمثيل فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو كان في السنة الثانوية، أمام معلمته التي أصبحت زوجته في ما بعد.
تمكن الصحافي في "لوموند" صاحب الكتاب، من الاطلاع على أرشيف كونديرا الذي بلغ حوالى 2374 صفحة مثقوبة ومختومة بطابع "سري للغاية"، وقد تم حفظها في معهد دراسات الأنظمة الشمولية. وضمّن كتابه نصوصاً من التقارير الأمنية التي كتبت حول نشاطه في براغ.
اعتمد الأرشيف على تفريغ كل مكالماته ومكالمات زوجته وشهادات كثيرين من الوشاة، معظمهم كانوا من الأدباء الذين بدوا على استعداد للتعاون مع الشرطة. وظلت حياته تسير في شبكة من التعقيدات إلى أن تمكن ناشر "غاليمار" من الوصول إليه والتعاقد معه على نشر "فالس الوداع ". وبعد نشر الكتاب بقليل، أدركت السلطات أنه عبر متابعة نشاطه، يبحث عن فرصة للعيش في المنفى. فقامت الشرطة في تسهل مهمته التي بدأها في عام 1975، ومنذ ذاك الحين أصبح كونديرا محاطاً بكل أسباب الشهرة والنجاح، و لمع اسمه كما يليق بصانع "موضة" في بلاد تعشق هذا النمط من المتمردين.