منذ بداية الأزمة الأوكرانية التي فجرها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، عندما علق خطط شراكة أوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي، برز إقليم دونباس على الساحة السياسية والإعلامية "كمنطقة نزاعٍ حصد أكثر من 14 ألف قتيل.
وخلال الأعوام الثمانية المنصرمة وصفت هذه النزاعات بـ "الحرب المنسية" في أوروبا، وكاد الحديث عنها يندثر، إلى أن عاد لـ "دونباس" صداه الإعلامي في أواخر العام الماضي مع تسارع وتيرة الأحداث حول أوكرانيا وما اصطحبها من مطالب وتهديدات روسية.
لكن هذا الإقليم بجغرافيته وتاريخه المعقدين، استطاع خطف الأنظار بلا منازع، بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره بالاعتراف بجمهوريتي "دونيتسك" و"لوغانسك" الانفصاليتين يوم 21 من فبراير (شباط) من العام الحالي.
"دونباس"... إقليم الحديد والنار
تقع منطقة "دونباس" في جنوب شرقي أوكرانيا، على المناطق المتاخمة للحدود مع روسيا. تبلغ مساحتها حوالى 52.3 كلم2 ويسكنها أكثر من 4.5 مليون نسمة، 56.8 في المئة منهم أوكرانيون و38.2 في المئة مواطنون روس.
وعلى الرغم من أن مصطلح "إقليم دونباس" يطلق على مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك في الشرق الأوكراني إلا أنه في الحقيقة لا يضمّ كل أراضيهما، ويتشكل فقط، من الجمهوريتين الانفصاليتين اللتين لهما نفس الاسم.
يعود تاريخه إلى قرون بعيدة، ولا يقترن في مراحل عدة بتاريخ روسيا وأوكرانيا. سكنته قديماً القبائل التركية البدوية والمغول والتتار وغيرهم من الشعوب القادمة من وسط آسيا. وبقي بسبب الحروب المتتالية التي شهدها، فقيراً بأعداد السكان حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، حين أسست مجموعات سلافية مستوطناتها الدائمة فيه.
بدأت الملامح الاجتماعية والاقتصادية لهذه البقعة الجغرافية، بالبروز خلال القرن الثامن عشر، ففي عام 1721 اكتشفت موارد الفحم الهائلة فيه وراح الروس والأوكرانيون والصرب واليونانيون يتوافدون إليه بدافع العمل. وشهد في أواخر القرن التاسع عشر أوج مرحلة ازدهاره واستغلاله اقتصادياً وصناعياً في ظل الثورة الصناعية التي عمت جميع أنحاء أوروبا.
اكتسب وقتها اسمDonbas المشتق من "فحم حوض نهر الدون" وأصبح جزءاً من أوكرانيا. وبرزت هويته السوفياتية مع تضاعف هجرات أبناء روسيا إليه حتى صاروا يمثلون غالبية سكان المدن، فيما ظل الأوكرانيون يمثلون غالبية سكان الريف وهذا ما يفسّر أن اللغة الروسية هي لغة التعامل الرسمية فيه اليوم. مع العلم أنه حتى أولئك الأوكرانيين الذين عاشوا في المدن، تأثروا بثقافة روسيا وأخذوا يتحدثون بلغتها فضلاً عن الزيجات التي مزجت أكثر بين الطرفين.
وإقليم "الدونباس" الذي يعد طريقاً سالكاً لبلوغ "بحر أوزوف" الاستراتيجي، يضم جزءاً كبيراً من ثروات أوكرانيا الطبيعية بالإضافة إلى ما يحتويه من محطات لتوليد الطاقة والتدفئة. يزخر بقوى عمالية كثيرة العدد بوصفه أحد أهم مراكز الصناعات الثقيلة منذ سنوات الاتحاد السوفياتي السابق. ويملك 60 مليار طن من احتياطي الفحم الذي يشكل 30 في المئة من إجمالي الصادرات الأوكرانية في هذا المجال.
إقليم "دونيتسك"
تحده روسيا شرقاً ومنطقتا زوبوريجيا ودنيبروبيتروفسكا من الغرب، بينما يشكل بحر آزوف حدوده الجنوبية وتتقاسم لوغانسك وخاركيف حدوده الشمالية.
تبلغ مساحته 26.5 ألف كلم2 بما يعادل 4.4 في المئة من مساحة أوكرانيا، وينقسم إلى 18 منطقة و 49 مدينة و 139 بلدة. وقد اقتطع الانفصاليون جزءاً كبيراً منه وأطلقوا عليه اسم "جمهورية دونيتسك الشعبية" التي يسكنها ما يقارب المليونين ونصف نسمة ويرأسها دينيس بوشيلين.
يعتبر الإقليم ثاني أكبر منتج للفحم في رابطة الدول المستقلة بعد روسيا، إذ تتوزع على أراضيه مناجم فحم عدة. ويشتهر أيضاً، بأنه واحد من المراكز الرئيسية لصناعة آليات ومواد البناء الثقيلة والخرسانة مسبقة الصب كما تم تطوير الصناعات الخفيفة والغذائية فيه. فضلاً عن كونه يضم ميناء ماريوبول أكبر ميناء على بحر آزوف.
"دونيتسك" العاصمة
في قلب إقليم "دونيتسك" تقع المدينة التي تحمل الاسم ذاته. تمتد على مساحة 360 كيلومتراً مربعاً وترتفع وسطياً عن مستوى سطح البحر حوالى 175 متراً ويسكنها اليوم 975000 نسمة، وكانت خامس أكبر مدينة في أوكرانيا.
حازت في الماضي على أسماء عدة، فمن "يوزيفكا" تيمناً برجل الأعمال الويلزي جون هيوز الذي أنشأ الكثير من مناجم الفحم ومصنعاً للصلب في المنطقة، إلى "ستالين" في عام 1924 ثم "ستالينو" عام 1929، إلى أن استقرت منذ عام 1961 على اسم "دونيتسك".
استقطبت المدينة بدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما بدأت تزدهر كمركز لتعدين الفحم، العمال الروس للعمل في مناجمها ومصانعها، وتضاعفت أعدادهم هناك خلال الحقبة السوفياتية.
يعتبر مستوى البطالة منخفضاً بين سكانها بالمقارنة مع مدن أوكرانية أخرى، نظراً لأنها تقوم بإنتاج الغاز والطاقة الكهربائية بالإضافة إلى قوة القطاع الصناعي فيها. كذلك هي تضم مطاراً دولياً هو الأكبر في أوكرانيا بعد مطاري كييف وسيمفروبل، وشبكة سكك حديدية ضخمة جداً.
ويبرز اسمها أيضاً في عالم الثقافة والتعليم من خلال تسع عشرة جامعة أبرزها الجامعة الوطنية وجامعة العلوم التقنية، وفي الرياضة لطالما تصدر نادي "شاختار دونيتسك" الذي تأسس عام 1936 وفاز بكأس البطولة السوفياتية في 1961 و1962 و1980 و1983.
إقليم لوغانسك
تشكل روسيا لهذا الإقليم الواقع في أقصى الشرق الأوكراني، حدوده الشمالية والشرقية والجنوبية. تبلغ مساحته 26.7 ألف كيلومتر مربع، وتعادل أيضاً 4.4 في المئة من إجمالي المساحة الأوكرانية.
ينقسم إلى 18 منطقة و 34 مدينة و 104 بلدات. وفي عام 2014 تمكن الانفصاليون من السيطرة على مساحات شاسعة منه معلنين تشكيل "جمهورية لوغانسك الشعبية" التي يرأسها ليونيد باشينيك.
يشتهر الإقليم بالصناعات الهندسية والكيميائية وبمناجم الفحم. توجد فيه معامل لتصنيع المعادن والآلات الكهروميكانيكية وأخرى لتطوير الصناعات الكيميائية وفحم الكوك والكيماويات الخفيفة والغذائية.
معظم أراضيه صالحة للزراعة و7 في المئة منها غابات، ويزرع فيه بطرق آلية ومتطورة أنواع عدة من النباتات والمحاصيل لكن الحبوب محصوله الرئيسي. إذ تحتوي هذه المنطقة الشاسعة على مراعٍ وحقول تبن وكروم عنب وبساتين وحدائق، وتلعب تربية الماشية الحلوب دوراً هاماً في حياتها الاجتماعية والاقتصادية. وباعتبارها ذات موقعٍ استراتيجي هام يعتمد جزء من اقتصادها على طرق نقل البضائع من روسيا وإليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"لوغانسك" العاصمة
تأسست عام 1790، في الوقت الذي اكتشفت في حقولها احتياطات كبيرة من الحديد الخام والفحم الحجري. وفي عام 1795 أصدرت الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية قراراً بإنشاء مصنع للحديد في المدينة الجديدة كان السبب في تشكيل أساسها وبروز ملامحها الاقتصادية.
في أوائل القرن العشرين، حازت لوغانسك على مكانها المميز على خريطة العالم الاقتصادية، باعتبارها مركزاً صناعياً ضخماً، إذ ضمت وقتها حوالى 16 مصنعاً مختلفاً أنشئوا إبان حكم الإمبراطورية الروسية وخلال حقبة الاتحاد السوفياتي.
وقد غيرت لوغانسك اسمها مرتين إلى "فوروشيلوفغراد"، ولكن لم يكن هذا الاسم شعبياً بين سكانها الذين وصل عددهم اليوم إلى حوالى 470 ألف نسمة.
موقعها الجغرافي إلى جانب أدائها الاقتصادي البالغ الأهمية، جعلها إحدى أكثر المدن الأوكرانية استقطاباً للمستثمرين. ومن أبرز مجالات العمل فيها الهندسة الميكانيكية وصناعات المعادن والصناعات الغذائية، إضافة إلى استخراج الغاز الطبيعي.
كذلك تعتبر مركزاً تعليمياً يقصده الطلاب الأوكرانيون وغير الأوكرانيين للدراسة في معاهدها وجامعاتها التي تعتبر جامعة "فولوديمير دال" الوطنية، والجامعة الحكومية للطب من أشهرها.