تدأب الروائية البيلاروسية، الأوكرانية المولد والنشأة، سفيتلانا أليكسيفيتش، التي حازت جائزة نوبل 2015 على هجاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى نقده، واصفة اياه بـ"الشخص الذي يجسد المجد الروسي الغائب". بل هي تسخر منه لا سيما في إطلالاته "الكاريكاتورية "عاري الصدر مثلاً، أو حاملاً بيده بندقية، كما تقول. فهذا الرئيس الذي "ينسى دوماً وعوده بالإصلاح أو يتناساها"، كما تشير، تأخذ عليه تعنته ومحاربته المثليين، ولا تنسى حملته الشعواء على فرقة "بوسي رايوت" الموسيقية وزجه مغنيتين في السجن عقاباً على نقدهما سياسته القيصرية. وعندما فازت سفيتلانا بجائزة نوبل لم يرض بوتين بفوزها مثله مثل الرئيس البيلاروسي حليفه الدائم أو قرينه، على رغم تجذر أعمالها في الأرض الروسية والتاريخ وفي ذاكرة "شعب مشبع بالحنين والنكبة".
ولم تتوان سفيتلانا عن توجيه سهام النقد إلى بوتين، فاضحة الألاعيب التي يمارسها، ومتحدثة دوماً عن نهب الثروات وعدم احترام القيم الإنسانية. ومعروف أن هذه الكاتبة هي من ضحايا الستالينية والحرب العالمية الثانية والحرب في أفغانستان وتشيرنوبل، وقد فتحت عينيها باكراً على مآسي الحرب الثانية التي حصدت جدها وجدتها اللذين قتلا على أيدي النازيين. تقول سفيتلانا على لسان بطلة روايتها "نهاية الرجل الأحمر"، معبرة عن الحال الراهنة: "لم يبق شيء، علينا أن نتحايل حيثما كنا، أن نصارع. هذا العالم لم يعد عالمي. أنا لست في وطني".
بطل الحرب المقدسة
إلا أن سفيتلانا ليست وحدها من ينتقد بوتين و"يسخر" منه، بل ثمة كتّاب روس أيضاً ينتقدونه بشدة، جهاراً حيناً، وباطناً حيناً، تحاشياً لدخول السجون التي لا تخلو بتاتاً من المعارضين السياسيين، لا سيما بعدما باركت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية العظيمة بوتين في سبتمبر (أيلول) 2015 عشية خوضه ما سمي حينذاك "الحرب المقدسة" في سوريا والمنطقة، ضد "داعش" والجماعات الظلامية، دفاعاً عن مسيحيي الشرق الذين يتعرضون مع كهنتهم، للخطف والقتل وتدمر كنائسهم وأديارهم. ولم يكن واضحاً وصف الكنيسة هذه الحرب التي قادها بوتين بـ "المقدسة"، وهي صفة ترجع عالمياً إلى القرون الوسطى وتعيد إلى الذاكرة حرب الصليبيين وسائر الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا. ولكن لم تعلن الكنيسة الأرثوذكسية اليوم على ما بدا، موقفاً من حرب بوتين ضد أوكرانيا التي تنتمي إلى التراث الأرثوذكسي العريق. هل تندرج في سياق "الحرب المقدسة" التي باركتها المراجع الدينية العليا؟
ليست سفيتلانا اذاً وحدها من يقاوم على الجبهة الأدبية والإعلامية ضد نظام بوتين، الذي لا ينسى شعبه والعالم، انخراطه طوال أعوام في وكالة الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) وأداءه المهمات الصعبة والمعقدة. الأسماء غير قليلة بتاتاً ويحل في مقدمها الروائي الشهير والمعارض الشجاع بوريس أكونين الذي طالما دعا إلى التظاهرات الألفية ضد النظام الحاكم، وكتب بيانات الاستنكار والشجب، وإلى جانبه كتّاب شديدو الجرأة مثل لودميلا أوليتسكايا وأندري كاكارافيتش والشاعر ديمتري بيكوف "زارع القلاقل" كما يوصف، وأركادي بابتشينكو الذي وصف روسيا تحت القبضة البوتينية بـ"البلد الذي يكره الأجانب ويتآكله الفساد وتتهدده الفاشية الأرثوذكسية".
فرار كاتب روسي
وقبل شهر، اضطر الكاتب المعارض الساخر فيكتور شيندروفيتش الذي يسمى "ناقد بوتين" و"النمام الذائع الصيت" إلى هجر البلاد بالسر هرباً من التهديد الدائم الذي ينهال عليه من جماعة الكرملين، وخوفاً من القتل الذكي، لا سيما بعد اتهامه بالعمالة للخارج. ولا تُنسى الكاتبة ناريناري أبغاريان التي تشارك دوماً في التظاهرات المعارضة، وصرحت مرة للصحافة الفرنسية قائلة: "ليس في روسيا اليوم تعاقب سياسي، ولا عدالة امام القانون، ولا نظام قضائي مستقل". وأضافت: "نحن في مأزق". ومن أطرف المعارضين الكاتب ألياس ليمونوف المتعدد الوجوه والصفات، فهو "محتال في أوكرانيا، زير نساء في موسكو، شاعر، خادم فندق في مانهاتن، روائي في باريس، بولشيفي سابق، سجين سياسي، يتعرض للتوقيف والتحقيق دوماً". وأطرف ما قام به هذا الكاتب المضطهد الذي يعيش في حي فقير في موسكو، هو ترشحه إلى الرئاسة عام 2014، في مبادرة شبه هزلية وساخرة.
هذا الرجل الطريف كان بطل رواية فرنسية كتبها الروائي الفرنسي إيمانويل كاريير حملت اسمه جهاراً "ليمونوف" وعرفت نجاحاً شعبياً كبيراً وفازت بجائزة رونودو". وكان الخوف بعد صدور الرواية ان يتعرض ليمونوف إلى مزيد من الاضطهاد في موسكو، ولكن لم يحصل أمر في هذا القبيل. ومن مقولات هذا المعارض الساخر، صاحب الكتابين المشهورين "القذر الصغير" و"مذكرات رجل فاشل": "ستالين كان يسيطر بالعنف، بوتين بالكذب التام".
رواية ساخرة
لكنّ رواية فرنسية أخرى أشد جرأة من السابقة، تناولت شخصية بوتين مباشرة ومن دون محاباة أو التفاف، بصفته رجل المرحلة والقائد الجديد للأمة الروسية، وعنوانها "فلاديمير فلاديميروفيتش" (دار فلاماريون) وصاحبها كاتب فرنسي معروف هو برنار شامباز. هذا الرئيس بعينيه اللتين تشبهان عيني "الفقمة" والذي يخفي في تقاسيم وجهه حالاً من الوجوم أو الحزن القديم كما يصفه الكاتب، هو بطل هذه الرواية التي يتولى السرد فيها قرين له يحمل الاسم نفسه "فلاديمير فلاديميروفيتش". مواطن عادي كان يعمل أستاذاً للأدب، ساقه حظه العاثر إلى أن يحمل اسم "الزعيم" نفسه الذي تقارنه بعض الصحف الأوروبية بهتلر أو صدام حسين، والذي كان تلقى عام 2014 صفعة "مجازية" من الرئيس الأميركي أوباما عندما أدرج روسيا البوتينية في محور الشر العالمي مع الأصوليين الإسلاميين ومرض إيبولا الخطر.
يسعى الراوي إلى نبش ماضي قرينه بالاسم في شتى مراحله، جاعلاً فصول السرد بمثابة دفاتر: "الدفتر الأحمر" يسرد فيه طفولة بوتين ومراهقته حتى التحاقه بصفوف الاستخبارات السوفياتية وما نفّذ من أعمال تجسس. وهنا يعلم قارئ الرواية أن الأم أصرت على أن يعمد طفلها فلاديمير بالسر في الكنيسة ليكون أرثوذكسياً. "الدفتر الرمادي" يرصد سنواته الخمس كعميل سري في ألمانيا ثم صعوده البطيء ليصبح رجل الظل في السنوات التسعين. "الدفتر الأسود" يلقي الضوء على مسيرته الفريدة ومناوراته التي أوصلته إلى سدة الرئاسة، وما اعتمد من سياسة استراتيجية تخدم مصالحه ومصالح الجماعة التي من حوله وتدعمه في مواجهة المعارضة.
رجل العهدين
تكشف الرواية أن سر بوتين يكمن في كونه رجل "العهدين"، السوفياتي والراهن، وعبقريته تتجلى في قدرته على التكيف والجمع بين المتناقضات. ولكن لا يمكن القول إن الراوي والروائي برنار شامباز قد تمكنا من فضح بوتين فضحاً شاملاً وتشريح شخصيته ذات المعالم الغامضة والملغزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السادس من فبراير (شباط) عام 2014 وجه كتّاب عالميون، بعضهم من حائزي نوبل، نداء قوياً متهمين فيه بوتين بـ"خنق الإبداع وحرية التعبير"، ودافعوا عن الكتّاب الروس الملزمين بالصمت والمضطهدين والمطاردين. وأحدث النداء ضجة عالمية وترك أثراً مهماً في شتى الأوساط الأدبية والسياسية في العالم. لكنّه لم يعكر مزاج بوتين الذي يهوى الأدب والموسيقى، كما يشاع. ووقع النداء حينذاك: سلمان رشدي، غونتر غراس، وولي سوينكا، أورهان باموق، مارغريت أتوود، جوناثان فرانزن وألفريدة يلينيك. والسؤال كيف يتأثر بوتين حيال مثل هذا النداء "المغرض" والمسيس، بينما هو يعد نفسه قارئاً من الدرجة الأولى ونصيراً للأدباء؟ مرة سمّى بوتين للصحافة أسماء الأدباء الذين يهوى قراءتهم ومنهم: دوستويفسكي، فلاديمير نابوكوف الأميركي الروسي الأصل، شاعر الأمة بوشكين، الشاعر سيرغي أيسنين. أما من الأدباء الأجانب فسمى غوته وهاينرش هيني.
ولا يُنسى كيف دعا الكرملين مرة في 20 ديسمبر (كانون الأول) 2013 نحو 500 كاتب وروائي وشاعر وناقد إلى لقاء مع القيصر الروسي، بغية التداول في قضايا الأدب الروسي الراهن وأحوال الأدباء، ولم ينجم عن اللقاء سوى صور وتوصيات ظلت حبراً على ورق. حينذاك كان الروائي المعارض بوريس أكونين بين المقاطعين وأعلن بجرأة رفض المشاركة، احتجاجاً على سجن معارضين شاركوا في تظاهرة 6 مايو (أيار) 2012 الشهيرة. وصرح قائلاً: "ما دام في البلاد سجناء سياسيون، فأنا لا أستطيع أن أجد نفسي جالساً بالقرب من حاكم متسلط، وفي داره".