أذاعت وكالة نوفوستي شبه الرسمية، صباح الجمعة، خبراً عاجلاً عن "مكتب الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي" جاء فيه، "إنه على استعداد لقبول إجراء مفاوضات مع روسيا حول الوضعية المحايدة لبلاده". ونقلت الوكالة الروسية عن مصادر أوكرانية ما قالته نقلاً عن ميخائيل بودولياك مستشار الرئيس الأوكراني، في بيان، "إن ذلك أمر يمكن تحقيقه شريطة أن تتلقى كييف ضمانات أمنية"، حسبما أشارت وكالة الأنباء الأوكرانية الرسمية "UNIAN" في قناتها على "Telegram".
دعوة للحوار
وكان فلاديمير زيلينسكي أشار في وقت سابق، إلى أن الحوار سيبدأ عاجلاً أم آجلاً بين روسيا وأوكرانيا من أجل وقف ما وصفه بـ "الأعمال العدائية". كما ذكر "أنه لا يخشى مناقشة أي قضايا مع موسكو، بما في ذلك الوضع غير التحالفي"، أي البعيد عن الانضمام إلى أي أحلاف عسكرية.
ومن هذا المنظور أعلن زيلينسكي دعوة بوتين إلى حوار لبحث الأوضاع في الدونباس، وسبق ورفضها الكرملين أكثر من مرة، مؤكداً "أن حوار الرئيس الأوكراني، يجب أن يكون مع ممثلي الجمهوريتين اللتين أعلنتا انفصالهما عن أوكرانيا من جانب واحد، وبموجب (اتفاقيات مينسك)، وما تعهد به وسلفه بيتر بوروشينكو من التزامات بموجب هذه الاتفاقيات"، لذا لم يكن غريباً أن يعلن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية "أن الوقت قد مضى، وأن موسكو لا تنوي الحديث مع حكومة جاءت على أنقاض انقلاب في عام 2014، ومع سلطة لم تكف منذ تشكيلها عن انتهاك أبسط حقوق مواطنيها واحترام مقدساتهم الدينية وإرثهم الثقافي"، في إشارة إلى ما أقره زيلينسكي من قوانين تحظر استخدام اللغة الروسية وتغلق المدارس الروسية.
الباب المفتوح
ومع ذلك فقد أبقي لافروف في مؤتمره الصحافي الذي عقده اليوم، الباب مفتوحاً أمام احتمالات هذه المفاوضات، لكن بعد الانتهاء من تنفيذ المهام التي أعلنها بوتين في خطابه هدفاً للعملية العسكرية الروسية الأخيرة. وذلك ما سبق وأكده دميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين في اليوم السابق، في معرض تعليقه حول آفاق ومدى احتمالات ذلك، "ولم لا، إذا كانت أوكرانيا مستعدة للحديث عن هواجس موسكو الأمنية".
وأضاف بيسكوف "أن روسيا تتطلع عبر عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا إلى تحرير أوكرانيا وتطهيرها من النازيين، والمناصرين للنازية وفكرها"، مؤكداً عدم صحة كلمة "الاحتلال" التي لا تنطبق على العملية العسكرية الخاصة لتجريد أوكرانيا من السلاح. أما عن مستقبل أوكرانيا فقد اكتفى بيسكوف بالقول "إن ذلك أمر يعود إلى اختيار شعبها".
اتصال هاتفي
ومن اللافت أن هذه الأخبار جاءت في وقت تال لما أعلنته موسكو عن اتصال هاتفي للرئيس الفرنسي مع نظيره الروسي جرى خلاله بحث مستفيض للأوضاع الراهنة، فيما أشارت إلى أن الأول كشف عن أنه اتصل بالأخير بناء على طلب الرئيس الأوكراني زيلينسكي.
الجدير بالذكر أيضاً أن كل هذه الأخبار جاءت في وقت مواكب لما تحققه القوات الروسية على الأرض الأوكرانية من تقدم، بما في ذلك ما جرى الإعلان عنه بشأن سيطرتها على محطة "تشيرنوبيل" النووية، الواقعة على مسافة تقرب من 100 كيلومتر عن العاصمة الأوكرانية، التي ثمة أنباء تقول بدخولها في وقت مبكر من صباح الجمعة، بعد تعرض ضواحيها لقصف مركّز طال كثيراً من مؤسساتها الحكومية، إلى جانب تحقيق السيطرة الكاملة على منطقة ميناء خيرسون جنوب غربي أوكرانيا، بما يحقق السيطرة على القناة التي كانت تمد شبه جزيرة القرم بالمياه العذبة وجرى إغلاقها بعد انضمامها إلى روسيا في مارس (آذار) 2014.
فتح مياه قناة شمال القرم
وفي هذا الصدد أعلن فلاديمير قسطنطينوف، رئيس برلمان جمهورية القرم، "أنه من المقرر بدء عملية ضخ مياه نهر دنيبر إلى شبه جزيرة القرم اليوم، بداية لملء القناة التي اعتراها الجفاف وكانت توفر حوالى 85 في المئة من احتياجات شبه الجزيرة من المياه العذبة بعد توقف دام لما يقرب من الثمانية أعوام منذ توقف انضمام القرم إلى روسيا في عام 2014". ومن جانبه كشف المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع إيغور كوناشينكوف عن أن وصول القوات الروسية إلى خيرسون جعل من الممكن إعادة فتح قناة شمال القرم وإعادة ضخ المياه إلى شبه الجزيرة. بعد أن تكبدت القرم خسائر تقدر بـ1.47 تريليون روبل جراء ما أصابها من أضرار نجمت عن الحصار المائي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحياد الأوكراني
ومن المثير للدهشة في صدد ما تناقلته المصادر الروسية من أخبار حول استعداد الرئيس الأوكراني لبحث الوضعية المحايدة لبلاده، أن تصدر مثل هذه التصريحات بعد أيام قليلة من تصريحاته في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ التي أكد فيها تمسك بلاده بمطلب الانضمام إلى الناتو، إلى جانب تصريحاته الأخرى التي توعد فيها بالخروج من "معاهدة بودابست" التي وقعت عليها أوكرانيا في 1994 تحت رعاية كل من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، وتقضي بتخلي كييف عما تملكه من أسلحة نووية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مقابل ضمان أمنها. وذلك ما كان في صدارة إطلاق الرئيس بوتين لخطته، حول الاعتراف بالجمهوريتين "الانفصاليتين"، وما أعقب ذلك من بدء لعمليته العسكرية التي حدد أهدافها في نقطتين أساسيتين، وهما نزع سلاح الدولة الأوكرانية، وحظر التطرف القومي والتفرقة الدينيةـ وإن أكد في الوقت نفسه "أن خطط موسكو لا تشمل احتلال أوكرانيا". وذلك ما أكدته وزارة الدفاع الروسية في بيان جاء فيه أنها "لا تشن أي ضربات صاروخية أو جوية أو مدفعية على المواقع المدنية في المدن الأوكرانية".
أما عما ظلت تروجه وسائل الإعلام الأوكرانية عن خطط استعادة الوضعية النووية في البلاد، فقد حظيت باهتمام ملموس من جانب القيادة الروسية. وكان بوتين حذراً من مغبة مثل هذا التوجه، مشيراً إلى ضرورة مواجهة هذه المخططات بكل الجدية، نظًرا لأن أوكرانيا لا تزال تملك ما يمكنها من ذلك، ومنه الصواريخ قصيرة المدى القادرة على نقل العبوات النووية، فضلاً عن الكوادر التقنية والعلماء الذين اكتسبوا مختلف الخبرات اللازمة منذ سني الاتحاد السوفياتي السابق. أما عن الوقود النووي فقالت المصادر العلمية الروسية أن أوكرانيا تملك خمس محطات نووية يمكن أن تكفل توفير ما تحتاجه صناعة ما يصفونها "بالقنبلة القذرة".
مستقبل السلطة في أوكرانيا
بيد أن القضية التي تظل تحظى باهتمام يتزايد يوماً بعد يوم، هي مستقبل السلطة في أوكرانيا على ضوء ما يتردد حول أن موسكو ستكون عازفة عن التعامل مع الرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير زيلينسكي للأسباب التي سبق وأشار إليها الرئيس بوتين في خطابه الذي أعلن فيه بدء العملية العسكرية بعد الاعتراف بالجمهوريتين التي صار يشار إليهما اليوم في كل وسائل الإعلام الروسية "بالمعترف بهما".
وكان ماكرون تطرق إلى هذه المسألة لدى إعلانه عن أن مكالمته الأخيرة مع بوتين كانت بطلب من زيلينسكي، الذي قال "إنه لم يستطع الوصول إليه لعرض استعداده لبحث متطلبات الموقف الراهن". وقال ماكرون "إنه في الوقت الذي يدين فيه ما يجري ويؤيد فرض العقوبات ضد روسيا، فإنه يري أنه من المفيد ترك هذا الطريق مفتوحاً، حتى نتمكن في اليوم الذي تتوفر فيه الشروط، من التوصل إلى وقف للأعمال العدائية".
ولم يكتف ماكرون بذلك، بل مضى يقول "فضلاً عن حزمة العقوبات الأوروبية، ستفرض فرنسا عقوبات خاصة بها على روسيا"، إضافة إلى ما قاله حول أن بلاده ستعجل من نشر عدد من جنودها في رومانيا في إطار حلف شمال الأطلسي، بموجب ما جرى الإعلان عنه نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي حول أنها تعتزم إرسال مئات عدة من جنودها إلى رومانيا، في إطار انتشار محتمل لحلف الأطلسي. وذلك ما أثار ما قد يسمى بالغضب المكتوم في الأوساط السياسية الروسية.
ولعل ما طالب به ماكرون أيضاً حول "وقف فوري للعمليات العسكرية الروسية"، وإشارته إلى "أن روسيا تخاطر بمواجهة عقوبات شديدة"، هو ما قد يكون وراء الإعلان المقتضب الذي أصدره الكرملين حول فحوى المكالمة الهاتفية بين الرئيسين، واكتفائه بوصف حديث الرئيسين بأنه كان "حديثاً يتسم بالجدية".
خليفة زيلنيسكي
وعلى الرغم من الرئيس بوتين كان اكتفى في خطابه حول بدء العملية العسكرية بتحديد أهدافها في كلمتين حول "نزع السلاح" و"تصفية التطرف القومي"، إلا أن هناك من يقول إن قضية التخلص من الرئيس زيلينسكي ورموز حكومته تظل في صدارة أهداف هذه العملية العسكرية. وتقول الترشيحات في هذا الصدد إن المرشح الذي يظل يحظى باحترام وتقدير الكرملين بين الأوساط السياسية الأوكرانية، هو فيكتور ميدفيدتشوك السكرتير السابق لمجلس الأمن القومي الأوكراني، المعروف بعلاقته القريبة من الرئيس بوتين منذ سنوات عمله كرئيس لديوان الرئيس الأوكراني السابق ليونيد كوتشما، حسب تصريح بوتين في حواره مع المخرج الأميركي أوليفر ستون.
وكانت السلطات الأوكرانية دأبت على مدى سنوات طوال على ملاحقة ميدفيدتشوك الذي فاز بعضوية مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) على رأس حزب معارض يسمى "منصة المعارضة من أجل الحياة"، التي ثمة من يعتبرها "أهم فصائل المعارضة الموالية لروسيا" في الساحة السياسية الأوكرانية، فضلاً عن فوزها بما يقرب من 40 مقعداً من مجلس "الرادا" في دورته الحالية. وذلك ما يظل في صدارة أسباب ملاحقة ميدفيدنتشوك من جانب السلطات الأوكرانية التي اتهمته في العام الماضي بالتعاون مع روسيا، لتقدمه النيابة العامة الأوكرانية إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، على الرغم من أنه كان ممثلاً رسمياً للسلطات الأوكرانية في مباحثاتها مع الجمهوريتين "الانفصاليتين". وقد أصدرت المحكمة الأوكرانية عليه حكماً بوضعه قيد الإقامة الجبرية، إلى حين البت النهائي في ما وجهته إليه من اتهامات أخرى تتعلق بنشاطه التجاري مع شبه جزيرة القرم وروسيا.
ومن المعروف أن ميدفيدتشوك يجري تصنيفه أيضاً كأحد كبار رجال الأعمال في أوكرانيا، وتدرجه مجلة "فوربس" في المرتبة 12 بين كبار أثرياء البلاد، فضلاً عن ملكيته لثلاث قنوات تلفزيونية موالية لروسيا.
وثمة ما يشير إلى أن التطورات المتسارعة التي شهدتها الأيام الأخيرة يمكن أن تكون مقدمة لتطورات تالية تستوجب بدء المشاورات مع الأطراف المعنية الرئيسة، وليس فقط مع أي من ممثلي السلطات الأوكرانية التي تظل موسكو بين الفينة والأخرى تقول باحتمالات عدم رغبتها في التفاوض معها بسبب افتقادها للشرعية، وهي التي جاءت على أنقاض الانقلاب الذي أطاح الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) 2014. غير أن ذلك يظل مرهوناً بمدى ما يمكن أن تجنح إليه الولايات المتحدة من تحركات يمكن أن يتوقف عليها كثير من متغيرات الساحة السياسية العالمية في الفترة القريبة المقبلة، لا سيما بعد أن كشفت عن مواقفها وقراراتها المتشددة تجاه روسيا وكثير من رموز نخبتها السياسية والاقتصادية.