على الرّغم من مضيّ أكثر من عقد على تحرّك الزلزال السوري في العام 2011، لا تزال تردّداته تتوالى، على غير صعيد. ولعلّ رواية "اسمي زيزفون" الصادرة حديثاً عن "منشورات الربيع" للكاتبة السورية سوسن جميل حسن هي أحد أواخر تردّدات هذا الزلزال، على الصعيد الأدبي. وحسن كاتبة وطبيبة وروائية سورية من مواليد مدينة اللاذقية، تكتب المقالة والقصّة القصيرة والرواية، وقد بلغت حصيلتها في هذا الحقل المعرفي الأخير ست روايات، خلال ثلاثة عشر عاماً، أولاها "حرير الظلام" الصادرة في العام 2009.
تصدّعات خطيرة
في روايتها السادسة، ترصد سوسن حسن التصدّعات الخطيرة التي أحدثها الزلزال في البشر والحجر، الأفراد والجماعات، الأسرة والمجتمع، السلطة والمعارضة، القرية والمدينة، العادات والتقاليد، وأنماط العيش... فلم يبقَ أيٌّ من هذه المكوّنات على حاله، ولم يبلغ ما يصبو إليه، وإذا هي تتردّى في الفجوة الفاصلة بين الموت والحياة، الاستبداد والحرية، القمع والديمقراطية، الواقع والحلم، الماضي والمستقبل، الرجعية والتقدّمية، النظام والثورة، القرية والمدينة، جهيدة وزيزفون، وسواها من الثنائيات. ولعلّ ثنائية جهيدة / زيزفون تختزل هذه الثنائيات مجتمعة، فبطلة الرواية وراويتها لم تبقَ جهيدة ولم تُصبح زيزفون، وبقيت معلّقة في منزلة بين المنزلتين.
تتحرّك أحداث الرواية بين وقائع تجري خلال العامين 2018 و2019، في قرية المقص ومدينة اللاذقية، من أعمال الساحل السوري الشمالي، وبين ذكريات، تمتدّ على مدى ستين عاماً. أي أنّ الأحداث، بوقائعها والذكريات، تتموضع زمنياًّ ضمن حقبة حكم البعث في سوريا، وتدور في فضاء روائي ينتمي معظم شخوصه إلى عالم الحاكم البعثي، بنسختيه القديمة والجديدة. وعليه. ترصد الكاتبة انعكاسات الزلزال، بمقدّماته ومخرجاته، على أسرة علوية، وتقول إن انتماء المحكوم إلى طائفة الحاكم لا يجعله بمنأى عن تبعات الحكم، فتقع عليه هذه التبعات كما تقع على سواه من مكوّنات الشعب السوري. وتطرح أسئلة الاستبداد والإرهاب والفساد وبطريركية المجتمع وذكورية العقل وغيرها من الأعطاب التي يعاني منها العالم المرجعي الذي تُحيل إليه الرواية.
هذه الأسئلة وغيرها تطرحها حسن على هامش سؤال المرأة الخاضعة لأحكام المجتمع البطريركي وذكوريته، من جهة، وممارسات السلطة المستبدّة، من جهة ثانية، حتى إذا ما تمرّدت على تلك الأحكام والممارسات يكون عليها أن تدفع غالي الأثمان. فبطلة الرواية التي تسند إليها حسن مهمّة الروي تتعرّض، منذ الولادة حتى الكهولة، لسلسلة من الانتهاكات لحقوقها في الحياة والحب والحرية والاختيار، مما يضعها بين الخضوع لها أو الخروج عليها. وإذ تجنح للخيار الأخير، تترتّب على ذلك الخروج، نتائج وخيمة. وهكذا، تضعها الأقدار بين سندان مجتمع بطريركي ومطرقة سلطة مستبدة، ويكون عليها أن تتحمّل تبعات هذه الوضعية.
مجتمع بطريركي
في أحكام المجتمع البطريركي، يطلق الأب على ابنته البكر اسم جهيدة، مؤنّث جهاد، خلافاً لرغبة الأم، فيشكّل الاسم المؤنّث تعويضاً عن مذكّر انتظره ولم يأت. وفي الخامسة عشرة من العمر، تصرّ الأم على إخضاعها لفحص العفّة، في مزار أبو طاقة، رغماً عنها، تنفيذاً لتقليد قديم، وقطعاً لدابر تقوّلات أطلقها حاقد بدافع من غيرة مَرَضية، مما يشكّل انتهاكاً لخصوصيتها، ويؤجّج غضبها على أعراف بالية وحرّاسها، فتقوم بحرق المزار انتقاماً لشرفها، وتقرّر تغيير اسمها إلى زيزفون. وفي الصف العاشر، تنقطع عن متابعة الدراسة كي تنصرف لمساعدة أمّها المريضة في الدكان الذي يشكّل مصدر عيش الأسرة الوحيد. وبعد موت الأم وعجز الأب، يكون عليها أن تعمل وتعيل أسرتها. وإذ يتعرّض الأب لاعتداء جسدي يُقعده عن العمل ويحول دون قيامه بحاجات نفسه، يكون عليها أن تهتم به، طيلة أربعين عاماً، حتى إذا ما رحل عن الدنيا، تُحرَم من الإرث ويستحوذ عليه الأخوان الذكران. وتكون ثالثة الأثافي حين يقدم الأخ الأصغر شعبان، الضابط الكبير في جيش النظام، بإحراق بيتها الصغير الذي بنته بشق النفس ليقيم بناءً سكنياًّ مكانه. وهكذا، تجتمع عليها بطريركية المجتمع وذكورية العقل وسطوة التقاليد وتعنّت الأم وتواكل الأب وظلم الأخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ممارسات السلطة المستبدة وأدواتها، يقوم عبد الجليل مسؤول اتحاد الطلبة بقطع رزقها وصرفها من العمل في مقصف الجامعة في اللاذقية ويتسبّب بإخفاء حبيبها حمادة بدافع من الغيرة. ويقوم مسؤولٌ شبّيح بالاعتداء على أبيها، الحارس في شركة إنشاءات، لقيامه بواجباته، مما يؤدي إلى إصابته بعطب دائم يفقده القدرة على العمل. ويقوم مدير كلية الصيدلة بالتغرير بأختها الصغرى عواطف، ابنة الخمسة عشر عاماً، وتقديمها إلى "الرفيق" المسؤول، مما يؤدي إلى انتحارها. وتضطرّ هي، بعد أن تقطّعت بها السبل، إلى مجاراة المدير الإداري في المؤسسة وتنفيذ رغباته الدنيئة كي تحظى بالوظيفة. وتكون ثالثة الأثافي بقتل حبيبها سعيد في معتزله في ظروف غامضة. وهنا، تجتمع عليها نذالة المسؤول الطلابي وقمع الشبّيح الحزبي وفساد المدير الإداري وإجرام القاتل المأجور.
الواقع والحلم
إزاء هذه الأحكام والممارسات، تلوذ زيزفون بالأحلام المستحيلة، من جهة، وبالواقع الممكن، من جهة ثانية. فتحلم بالسفر إلى مكان يتيح لها التمتّع بأبسط حقوق الإنسان والابتعاد عن كلّ ما ينتهكها. غير أن إيصاد الأبواب في وجه السوريّين يحول دون تحقيق هذا الحلم. فتلجأ إلى حبيبها سعيد تبثّه شؤونها وشجونها، وتستمد منه القوة والقدرة على الاستمرار. غير أن مقتله في ظروف غامضة، وهو في السبعين من العمر، يجرّدها من آخر أسلحتها لمقاومة بطريركية المجتمع واستبداد السلطة. وهكذا، تتموضع البطلة بين جهيدة التي فشلت في التحرّر منها وزيزفون التي لم تتمكن من تقمّصها، بفعل تضافر تخلّف الأحكام واستبداد الحكام وظلم ذوي القربي عليها، وهو ما ينسحب على كثيرات وكثيرين في الشريحة الاجتماعية التي تتناولها الرواية.
من خلال هذه الحكاية المحورية والحكايات الأخرى المتعالقة بها، تكسر سوسن جميل حسن النظرة النمطية التي تماهي بين الحاكم والمحكوم إذا كانا ينتميان إلى الطائفة نفسها، وتقول بالوقائع الروائية ما يقع على بطلة الرواية وسواها من أبناء طائفتها، من ظلم النظام وأدواته إسوة بالمكوّنات الأخرى للشعب السوري. ومن الوقائع الواقعة على البطلة: عطب أبيها، وإخفاء صديقها، وانتحار أختها، وسفر أخيها، وقطع رزقها، وإجهاض حلمها، وقتل حبيبها، وإحراق بيتها. ومن الوقائع الواقعة على أبناء الطائفة: تفريقهم إلى عشائر، وتخويفهم من الآخر المختلف، وتحويل أبنائهم إلى وقود حرب، وإشغالهم بلقمة العيش. ولعل الواقعة الأكثر تعبيراً عن رفض هؤلاء للأمر الواقع امتناعهم عن تقديم التعزية بوالد زيزفزن في قصر أخيها الضابط الكبير، باعتباره أحد المسؤولين عن مصائر أبنائهم الفاجعة وأوضاعهم المتردّية، وإيثارهم تقديمها إلى زيزفزن في بيتها المتواضع اعترافاً منهم بقيامها على خدمة أبيها، وتعبيراً عن مشاركتهم الصادقة وبساطتهم النبيلة.
"اسمي زيزفون" رواية موجعة، جارحة، تقارب الزلزلة السورية من منظور مختلف، بانسيابية سردية تتحرّك بين الوقائع والذكريات بسهولة ويسر، وبرشاقة حوارية تزاوج بين الفصحى البسيطة والمحكية الدارجة وتوهم بواقعية الأحداث، وبنفس ملحمي يتناسب مع هول المأساة.