تشاء المصادفات، والمقادير – وهي للأسف قتّالة في بعضها - أن يصدر كتاب لأحد أدباء الصحافة اللبنانية وفُكاهييها، إسكندر رياشي (1890-1961)، بعنوان "نسوان من لبنان" عن "دار الجديد"، بطبعته الثالثة، بعد طبعته الثانية، الصادرة عن "دار الأندلس" عام 1966، وقد طوى الموت – غيلةً - من قدم للكتاب بطبعته الجديدة، لقمان سليم، وبعبارته الموشاة بكثير من التأنق والجمال والإقرار بمكانة الصحافي الأديب، على اختزال بليغ ودقة في الإحاطة.
وفي هذا الشأن، تستوجب منا الأمانة النقدية إيفاء معد الكتاب وصاحب المقدمة، الراحل لقمان سليم، ومقدمة الكتاب حقهما، أولاً لفضل الأديب سليم، في إعادة نبش تحفة الصحافي التائه من طوايا النسيان، وإن بعد طبعة ثانية عام 1966، وفي إعادته الاعتبار لأحد أسياد القصة الواقعية جداً والمتلونة بين الفكاهة والنقد الاجتماعي والسياسي للمجتمع اللبناني إبان الانتداب الفرنسي. وثانياً لهذه اللغة الأدبية الناصعة التي رصع بها المقدمة، فبدت على يديه خير مرافعة عن "الصحافي التائه"، ليس باعتباره لم يتوانَ عن كشف مواطن الغش والفساد والوهن والارتهان للأجنبي أيام عزه فحسب، بل لأن له حقاً على لبنان في "بكورية لا مراء فيه"، وأن لأمثاله الحق في الاستخفاف بمثالات ملتبسة عند العامة والمظنونة أنها مقدسات، لما علق بها من شوائب ونواقص ومجالب للفساد، و"لأن الإنسان، ذكراً أم أنثى، هو في المحل الأول، حيوان جنسي، المال زينة الحياة الدنيا، واللبنانيون أساتذة في الفساد والإفساد" (ص28-29).
ولا يقف فضل المقدم الراحل لقمان سليم عند استجلاء الغوامض في مقاصد الرياشي، وهي الداعية إلى اختيار الدار إعادة نشر الكتاب بإشراف الكاتبة رشا الأمير، شقيقة لقمان، فحسب، بل يتعداه إلى المراجعة التاريخية واللغوية الدقيقتين، بل الفائقتين الدقة، إذ لم يبقَ تفصيل من حياة الرياشي أو من أعماله إلا أن رصده وبين فيه تحولاً حاسماً لما آل إليه. حتى لكأن هذه الحياة - على ما رسمه لقمان سليم في مقدمته - هي بحرفيتها منزلة من سيرته المنشورة نتفاً، والمتعاقبة زمناً، في أعمال له سابقة أو لاحقة. وليس غريباً أن تبلغ بعض الهوامش في تلك المقدمة صفحة كاملة (ص25)، وأقل من صفحة بقليل (ص24)، حسب الكاتب فيها أن يستوفي كامل المعطيات التاريخية عن الرياشي، مأخوذة من أمهات كتب التأريخ والصحافة العائدة لزمن الرياشي والمواكبة له. وهذا لعمري قل نظيره في أي مقدمة لكتاب أدب أو لغة أو تاريخ أو فن من الفنون.
متعة القراءة
ولو أضفنا إلى ما سبق عناية رشا الأمير بإخراج كتاب "نسوان من لبنان" على نحو بديع، وإنزالها عناوين داخلية، تزيد القارئ تنبيهاً إلى متعة، في مواصلة رحلة القراءة على أيسر سبيل، وأسلوبه الناصع الراقي والموجز والصائب، لحق أن نقول في تلك المقدمة إنها إنجاز أدبي ونقدي للراحل لا يُبارى فيهما، ويوجبان النظر والاعتبار المتأني، طبعاً تضاف إلى كثير من أعماله وترجماته وكتاباته.
بالعودة إلى الكتاب ذي الصفحات الثلاثمئة وست وستين (366)، يتبين للقارئ أن الكاتب "الصحافي التائه"، على ما لقب نفسه به – وأنشأ جريدة له بهذا الاسم عام 1921 - قصد إلى جمع قصصه مع "النسوان"، الحقيقية منها، والدالة على مغامراته الغرامية الناجحة وتلك الفاشلة، والافتراضية على سواء، وكان فيها جميعها ذلك "الصحافي والكاتب والمترجم والمغامر والسياسي وزير النساء الفاسق والمارق بين العشيقات" (ص11)، على حد تعبير لقمان سليم، في مقدمة الكتاب. إلى ذلك، فإن لكل من هذه القصص "عظات سياسية (واجتماعية)... فيها كثير من تاريخ لبنان الحديث بين طوايا فراش الحب" (ص43).
أولى القصص، وعنوانها "صانعة المستشار" تروي قصة مستمدة وقائعها مما خبره كاتبها في بعض من سيرته، ومن خلال صلاته بسلطة الانتداب الفرنسي – وقد كان ترجماناً لدى مستشار زحلة الفرنسي - وفيها أنه كان للمستشار خادمة صبية على قدر عالٍ من الجمال، ومعزاية شقراء اسمها ماري لويز، فقد عشقها الأول وصارت كلمتها مسموعة لديه، تحمل له طلبات المنتفعين الراشين، فتكسب وتزداد مالاً ويكسبون. وقد انفتح للراوي، مترجم المستشار باب إليها، فصار عشيقها الثاني، تكلفه إرسال المال إلى أهلها الفقراء "الموارنة" في إحدى القرى "ببلاد البترون" (ص57)، وتتابع التوسط ما بين المواطنين المحتاجين إلى خدمة من الحاكم المستشار، وتزداد ثراءً، ويزداد كل من "المتصرف والقائمقام وأمثالهما" خضوعاً للمستشار. وتمر الأيام، وتعود خادمة المستشار، أو "الصانعة" إلى بلدتها سيدة جليلة، مكرمةً من النواب الذين يعود لها الفضل في تزكيتهم لدى المستشار والمفوض السامي نواباً عن الأمة!
مغامرات قروية
في القصة الثانية، بعنوان "بنت الضيعة فوق ظهر المركب"، يحكي الراوي - وغالباً ما يكون الكاتب نفسه - مغامرة عابرة هي كناية عن صدفة جرت وقائعها على متن سفينة كانت تقل الركاب اللبنانيين المهاجرين إلى أميركا، ولا سيما سكان القرى الفقراء الهاربون من المجاعة والحرب، بأن لفته وجود حسناء تكابد مشقة الوقوف بين أهلها وجمهرة من الركاب فقراء الحال، على ظهر السفينة، فتقرب منها، وتقبلت القرب، فأدرك منها رغبتها في السفر هرباً من ضيق معشر القرى، وتبرمها من تزمت القرويين حيالها. وبعد أن أبدت ميلاً جنسياً إليه، ذات ليلة عاصفة وأنواء، متمسكة بيده ولائذة بجسمه وسط تدافع الركاب وهرجهم ومرجهم، سرعان ما توارت القروية الحسناء عن ناظريه، بعد أن بلغت السفينة مرفأ مرسيليا، ونزولها وعائلتها في المدينة.
أما القصة الثالثة، وهي بعنوان "كنت حفيد الكاردينال دو ريشليه" (ريشليو)، ففيها مقدار من الغرابة والفكاهة والطرافة أيضاً، والوصف الواقعي لحال الهجرة وأحوال بعض المهاجرين الأثرياء. ومفاد الحكاية أن الراوي كان ذات يوم راكباً سفينة تدعى "الإمبراطور" تقله إلى نيويورك، وعلى متنها رجال ونساء من صفوة القوم، أمراء أجانب وأميرات، وملوك المال ومحدثو النعمة، وبينهم أيضاً فتيات يسعين للزواج من أمراء المال والسلطان. ولما كان هؤلاء جميعاً قد تواعدوا في باريس "عاصمة الغرام، وملتقى جميع محظيات الأرض يأتينها... تحت حماية نظام تجارة الحب الكبرى" (ص71)، وكان الراوي مدعواً من قبل امرأة تدعى نجلا مطران إلى نيويورك من أجل إنشاء جريدة زحلية فيها، وقد التقى فتاة أميركية تدعى أليس وايلرد، تحيا على هواها وتتبع نهج أمها كثيرة العشق والمعاشرة، وأقنعها بأنه اللورد دو ريشليه حفيد الكاردينال دو ريشليه الفرنسي المشهور. وعندئذٍ اشتد الوصال، وذهب الغرام بأليس كل مذهب، حتى كادت توافق على تحديد موعد الزواج، لولا عارف بالأمور وكاشف للمستور أنبأها بكذب المغامر المدعي، فأبلغته برسالة تلغرافية انكشاف كذبه، ثم واصلت مسعاها إلى أن حظيت بحاكم نيويورك، وتزوجت به، ولكنها، بحسب المؤلف، لم تنل من "البهجة والاعتزاز" ما لو أنها تزوجت "الكونت دو ريشليه المزيف"!
بنت غسان
وفي القصة الرابعة بعنوان "آخر أميرات بني غسان" يروي الكاتب تفصيلاً مستمداً من سيرة فتوته، حين كان في سن الرابعة عشرة، وقد شاءت أحوال عائلته أن يتعلم فن العمارة من عمه، فاصطحبه إلى حوران وبلدة ازرع، حيث باشرا ببناء حصن هناك، ولكن الفتى الغريم تعلق قلبه بأجمل فتاة في المكان تدعى مريم، وحسبها آخر أميرات بني غسان، وهي تعلق قلبها به، وكثيراً ما كانا يتلاقيان، إلى أن امتلأت صدور الشبان في البلدة غيرةً وحسداً، فهجموا على الحصن وخربوه من أساسه، ما اضطره وعمه إلى الهروب من البلدة.
ولئن كان من المحال تلخيص حكايات القصص الغريبة واللطيفة التي رواها الكاتب الصحافي التائه على مسامع قرائه، اللبنانيين والعرب، وإن بعد أكثر من ستة وخمسين عاماً من طبعته الثانية، فإنه لمن المفيد تذكيرهم بتلك الصور السلبية التي انتهى إليها مجتمعنا اللبناني، بأمراضه، وأنواع فساده، والتي لا يدع الكاتب مظهراً منها إلا ويرسمه بريشته رسماً يقارب النقش، ويبثه هزءاً وتلويناً كاريكاتورياً ونفاذاً إلى صميم القارئ، فيضحك حتى الثمالة، ويستدرك بعض حاله من الوصف والقص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإن اعتبرت القصص حمّالة وقائع، وشاهدةً على عصر وزمان وإنسان، فما أبلغ ما حملته قصة "الفتاة التي كانت تريد أن تترهب"، والتي جعل الكاتب إطارها المكاني بعض القرى في جبل لبنان، حيث يسهل "عمل الحب"، والتي خالفت زميلاتها وعاندتهن في تهتّكهنّ مع الرجال، إلى أن وجدها الراوي تعرض جسدها العاري في أحد أسواق البغي، لدى "ماريكا إسبيريدون"! وما أوجعها تجربة إنسانية تلك التي يرويها الكاتب، عبر قصة "القروية الحسناء في المطبخ"، التي تحكي حكاية الفتاة اللبنانية المارونية التي نزحت من جبل لبنان، وفي بطنها طفل من زوجها الميت جوعاً في قريته، وقد اضطرها الوضع أن تعمل خادمةً وعاهرة لدى القواد إبراهيم حديد. إلى أن تعرف صديق الراوي بالفتاة، وعزم على تخليصها مما هي فيه، فأمر بأن يوضع في صندوقها قدر من المال المحصل من لعبة البوكر، حتى تجمع لديها أربعمئة ليرة عثمانية خوّلتها العودة إلى عائلتها، ومواصلة حياتها في قرية المزرعة، قرب بيت شباب.
لا يمكن كتاب "نسوان من لبنان" للصحافي التائه إسكندر رياشي، أن يمر مرور الكرام، ولا أن يناله اختصار وابتسار، بل يقرأ بأدب صاحبه، وهزئه، ونقده الجارف حتى نفسه، وقطفه الإنساني اللماح، ومرافعته الكبرى عن النساء، وكشفه عن خباياهن، وافتخاره بحبهن، ولا سيما الجميلات منهن، في مقابل كشفه عن البشاعات التي تحيط بهن ولا يد لهن بها، وإن شاركن فيها مقتديات بالرجال، في بلادنا.
وللكاتب إسكندر رياشي مؤلفات، أهمها: "الأيام اللبنانية"، و"أهل الغرام"، و"قبل وبعد: رؤساء لبنان كما عرفتهم"، و"ملتزم الأميرة البيزنطية بليتزا وسيف الدولة"، و"حب الملوك والسلاطين"، و"بنات من دون رجال"، و"مجانين ومجنونات الحب"، و"نعيش مع الآلهة" (بالفرنسية).