لئن عرف التونسيون شكري بلعيد الذي اغتالته يد الإرهاب عام 2013 زعيماً سياسياً، وناشطاً حقوقيا، فإنهم جهلوا، على امتداد سنين كثيرة، شغفه بالشعر، يتعاطاه في خلواته. لهذا فاجأ ديوانه "أشعار نقشتها الريح على أبواب تونس السبعة" الصادر عن دار الاتحاد، بتحقيق شكري المبخوت، النخبة التونسية، ساسة ومثقفين، وجعلتهم يكتشفون وراء المناضل السياسي القوي عاشقاً هشاً، يكتب قصائد طافحة بالحب، مفعمة بالحنين، بعضها أزجاه للحبيبة، وبعضها الآخر رفعه للوطن.
قسم المحقق الديوان إلى أبواب ثلاثة، وسمى كل باب منها دفتراً، أولها "دفتر الغريب" وجل قصائده تعود إلى ما بعد خروج بلعيد من الجامعة وقبل رحيله إلى العراق. وبين هذه القصائد، في نظر شكري المبخوت، من الوشائج الفنية والمضمونية والتخييلية ما ييسر على الناظر في شعر بلعيد أن يرى الوجه الذاتي من الشاعر، والروحانية العميقة التي تقود كثير من شعره. وثانيهما "دفتر العاشق في بغداد" وهذا الدفتر يتكون من قصيدة بعنوان "نشيد بغدادي على إيقاع كردي و"مقاطع شعرية" مستلة من رسائل وجهها الشاعر إلى حبيبته. وتمثل هذه النصوص الشعرية آخر عهده بالشعر. أما ثالث الدفاتر، فهو "دفتر المصارع الطبقي" وتضم قصائده السياسية وتعود في أغلبها إلى السنوات الثمانين.
قصائد وأحداث
لا شك في أن الأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدتها تونس وشمت ذاكرة أدبها وتركت في جسده أثراً لا يمكن محوه أو التهوين من شأنه. غير أن الأدباء اختلفوا في تعاطيهم مع هذه الأحداث اختلافاً بيناً. فأغلب القصائد التي كتبت عقب هذه الأحداث كانت انفلاتاً تلقائياً للمشاعر، وتعبيراً مباشراً عن حماسة طارئة، لكن بعض الشعراء أدركوا، في غمرة حماستهم، أن الشعر ليس الانفعال وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل، أي إلى طريقة في القول مخصوصة، أي إلى كتابة على غير مثال سابق، ومن ضمن هؤلاء كان شكري بلعيد.
والمتمعن في مجموعته يلحظ أنها تنطوي على جدلين اثنين: جدل داخلي خاص بها وجدل خارجي مع الواقع الذي صدرت عنه. أما جدلها مع نفسها فيتمثل في الحوار الذي عقدته مع القصيدة الحديثة، مع إنجازاتها الفنية والدلالية، مع طرائقها، في تشكيل الصورة، وبناء القصيدة، واستدعاء الأقنعة والرموز. وأما جدلها مع الواقع فيتمثل في الحوار الذي عقدته مع الأحداث تتشرب جوهرها العميق وتتخلى عما عداه. فالشعر، لدى شكري بلعيد، ليس تعبيراً عن حقائق الروح فحسب، وإنما هو تعبير عن حقائق التاريخ أيضاً.
ولهذا كان الانعطاف على نصوص بلعيد انعطافاً على قصيدة تتطور باستمرار، لا تفتأ تبحث عن إمكانات شعرية وجمالية جديدة، هذا البحث هو الذي جعلها تنتقل من مرحلة إلى أخرى، ومن تجربة إلى ثانية. تصبو إلى الإيفاء بشرائط الكتابة الشعرية من غير أن تنحرف عن السؤال السياسي الذي تتضمنه. ولهذا تعد كل قصيدة بمثابة خطوة جديدة في طريق القصيدة التي حلم بكتابتها الشاعر.
هكذا ظل بلعيد يرهف أدواته الفنية، يطور قصيدته باستمرار، يعيد النظر فيها، يشحنها بأسئلة جديدة فالقصيدة رديفة الحياة لهذا تفزع من التكرار.التكرار يقتل اللغة، يبدد قدرتها المبدعة، يحول القصيدة إلى كومة من الرماد.
الجور الإجتماعي
لكن هذه القصائد ظلت، على اختلافها وتعدد أساليبها، يشدها خيط ناظم وهوالإحساس الفادح بالجور الاجتماعي يحول الحياة إلى عبء ثقيل ويدفع الشعر إلى أن ينهض بدور سياسي. فبلعيد إنسان شديد الانهماك في الحياة، شديد الانهماك في الدفاع عنها .
إن الإحساس بالخلل ينتاب كل شيء إيقاع متواتر في قصائد الشاعر. وما الكتابة إلا طريقة نقد للحياة، محاولة لتقويم ما اختل من أمرها. ولا يعني هذا أن الشعر تحول إلى محاكاة للعالم الخارجي، أو إلى وثيقة تحيلنا على أشياء قائمة في الواقع الموضوعي. كلا إنه حفر في نص العالم، سعي إلى فهم تناقضاته، طرق على الأبواب المغلقة، احتجاجاً على ما استقر واستتب وبات معمماً وسائداً .
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلينا أن نقر أن الأيديولوجيا كانت بمثابة النهر السري يجري تحت سطح القصيدة يغذي رموزها وصورها وأقنعتها، ويمدها بماء الحياة والروح. فبلعيد لا يحاور الأيديولوجيا من الخارج كما يفعل كثير من الشعراء، وإنما يحاورها وهو في كنفها، يسائلها وهي مستظل بها، فعلاقته بها ليست علاقة ذات بموضوع، وإنما هي علاقة رحمية فيها تتضايف المعرفة بالوجود. بهذا المعنى فهم شكري بلعيد الشعر الملتزم، وبهذا المعنى أجراه في قصائده...إنه التزام إنساني، إذا صحت العبارة، مركزه الإنسان الذي يسعى إلى تجاوز منزلته في اتجاه مزيد من الانعتاق والحرية. "ملء هذي الأرض نحن/ملء هذا العمر نحن/ ملء كل الحب/ شحذنا الروح من أزل/ وقلنا نحن الباقون./ سميني عندها بالفتى/ والمدى والحنين/ ولديني ثانية/ كي يستطيع النهار إبلاغ صداي/ أنا واحد في رؤاي/ عددتني المراحل ثم هوت/ فتشطل ثانية من رؤاي".
المنحى الواقعي
لا شك في أن هذه المجموعة الشعرية تندرج ضمن حركة أدبية كبيرة عرفتها تونس خلال الثمانينيات واستغرقت كثيراً من الأجناس الأدبية وضمت عدداً من الكتاب والشعراء، وهذه الحركة كانت قد خلعت على نفسها أسماء عديدة وتضم عدداً من الشعراء.
هذه الحركة ذات المنحى الواقعي لا تكتفي بتأويل العالم، وإنما تسعى إلى الفعل فيه، فللغة من القوة والحياة ما يجعلها تسهم في إخراج العالم من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وتسهم بخاصة في لجم فوضاه وإعادة توازنه المفقود. فالأدب كما فهمه هذه الحركة، هو الاسم الآخر للرفض، وللحياة، وللغناء، وللزمن يعود إلى دورانه. فالأدب، والفن عامة، هو الذي يتيح للعالم أن يدخل إلى بدء جديد، وللحياة أن تكون شيئاً آخر مختلفاً.
هذه الحركة تتميز بمناهضتها القصيدة التقليدية والاحتفاء بقصيدة التفعيلة والنثر، مؤكدة أن الشعر العربي في قوالبه الموسيقية والتعبيرية قد أدى دوره واستنفد طاقته وحان حين مجاوزته، داعية إلى توزيع آخر للكلام غير الذي فرضته البحور الخليلية.
هذه القصيدة الجديدة تمثل، في نظر الطاهر الهمامي "الرافد التونسي في نهر الحداثة الشعرية العربية..." .بعد أن فشل شعراء قصيدة الشطرين، من أمثال جعفر ماجد ونور الدين صمود ومحيي الدين خريف، في تحديث الشعر التونسي لأنهم، بحسب عبارة الهمامي، "شعراء تجارب صغيرة" .
كما دعت هذه الحركة إلى أن تتشرب القصيدة الجديدة خصائص المكان الذي صدرت عنه وتقول اللحظة التاريخية التي كانت شاهدة عليها بحيث تكون منطوية على نبرة مخصوصة تجعلها مفترقة عن بقية الشعر العربي موصولة به في آن.