وضع الكاتب العراقي برهان المفتي لمجموعته "صحائف اللامكان" (دار خطوط وظلال) قواعد جمالية صارمة ألزم نفسه بها، منها أن النصوص جميعها أقل من ثلاث صفحات. فهي أقرب إلى "أقاصيص" مكثفة منها إلى القصة القصيرة التقليدية. 32 نصاً وزعها الكاتب إلى حِزَم، فتحت عنوان "بائعون... وأوهام" تأتي نصوص: علبة الشموس، هذا اليوم والذي يليه، قوالب الانتظار، وسوق الكلاب. كأن كل محور بمثابة غصن تتفرع منه أوراق، وإن كانت الأغصان جميعها ذات نسق محكم ومتطابق.
تتخلى النصوص طواعية عن مباشرة الواقع كما هو، فلا يبدو الأشخاص في أحجامهم الطبيعية، ولا مهنهم المعتادة. كأن التعاطي مع الواقع لا يسهم في فهمه وإدراكه، بل لا بد من عدسة غير مألوفة، تساعد القارئ في إدراك الجنون المحيط بنا.
تشفير وتغريب
في نص "علبة شموس" يصل بائع بعربته كي يبيع لأهل المدينة "الشموس" في علب، وفي "هذا اليوم والذي يليه" هناك مكاتب تبيع للناس "الأخبار الجاهزة"، وفي "سوق الكلاب" تعيش المدينة على بيع وشراء كلاب لا أسنان لها، وفي "ذباب المدينة" يعيش الجندي العائد من الحرب على صيد الذباب. فالنصوص لا تحيل إلى مرجعية الواقع مباشرة، بل تقوم بتشفيره، إنها أقرب إلى جمالية "الأليغوريا" أي الصور السردية، والحكايات المجازية التي تتطلب يقظة المتلقي الذهنية لفك شفراتها وتأويلها.
ثمة مفارقة أساسية مهيمنة وهي "التغريب" أي كسر التوقع، والمسافة المألوفة، والمبالغة، والفانتازيا. يتفق ذلك التوجه مع التغريب البريختي في الدراما، الذي يرينا الواقع بوصفه "لعبة غريبة" عنا، يجري تفكيكها أمام المتلقي. لكن ثمة اختلافاً يتعلق بكسر الإيهام. فلا تمارس القصص عملية كسر الإيهام ولا تنبه المتلقي أنه إزاء لعبة، بل تتركه متماهياً معها حتى يكاد يصدق أنها "حقيقة". في "غبار الحظ" يحتفظ عامل في "كازينو القمار" بالغبار الذي يمسحه عن طاولات المقامرين، ثم يقف عارياً ويرشه على نفسه، إلى أن بدأت "تغييرات تظهر على جسده، بقع عديدة على يديه وبطنه، بل حتى إن لون عينيه قد تغير ولون شعره، فهو مليء بالحظ الآن" (ص41، 42). لا يكسر السارد أبداً تلك الحالة الغرائبية، بل العكس، يظل يعمقها ويتوسع فيها، حيث يحقق البطل أخيراً أمنيته بالطيران، ثم "اختفى تماماً في فضاء مفتوح" (ص42).
فضاء عراقي
باستثناء معرفتنا بهوية الكاتب نفسه، لا تخبرنا القصص شيئاً عن واقع محدد، فهي تدور في "اللامكان" ليس فيها روائح البصرة ولا ضجيج بغداد. صحيح ثمة إشارات إلى أحياء ومدن وقرى، لكنها تأتي مجردة لا تنتسب إلى بلد محدد. مدن كسائر المدن حول العالم، يعاني فيها الإنسان مثل أخيه الإنسان من الحروب والفقر، والجهل، والغش، والديكتاتورية.
هذا لا يمنع الشعور المضمر (أثناء القراءة) بأن هذه النصوص هي من لحم ودم الواقع العراقي. رسم كاريكاتيري يلخص الكابوس الذي عاشه العراق منذ نحو نصف قرن، ومازالت تداعياته ماثلة إلى اليوم. لكن الكابوس يتجاوز مفرداته وملامحه العراقية المباشرة ليصبح كابوساً وجودياً بامتياز.
في نص "البلاد الرقيقة" نقرأ: "كل شيء في هذه البلاد بمقدار، وكل حركة بحساب دقيق. فصغار المدينة عليهم تعلم الدقة وهم ينفخون العلكة ليجعلوها مثل الفقاعات، وعليهم المحافظة على تلك الفقاعة دون أن تتمزق، هكذا يبدأون رحلة الدقة هنا" (ص123). إن "الدقة" سمة حضارية راقية، لكن النص يقدمها هزلياً، لتشير إلى آليات الضبط والسيطرة على المجتمع، لأن "تمزق الفقاعة إشارة إلى تمزق البلاد"، لذلك كل شخص ينفخ فقاعته في النهار عليه أن يذهب في المساء إلى "مكتب تدقيق الفقاعات ليتأكد من سلامة الولاء".
تمويه الزمن
وفي "السماء أول مرة" كان "الكبير" بارعاً في "صناعة الغيوم السوداء" وكان مولعاً بـ "البيانات" الصاخبة، إشارة لا تخفى إلى ديكتاتورية صدام حسين، لكنها لا تتوقف عنده، بل تم تجريدها لتناسب أي ديكتاتور في أي مكان آخر.
فالطموح السردي وإن اتخذ العراق فضاء مضمراً، لكنه لا يتوقف هناك، بل يتعمق ويتفلسف ليحاكي كوابيس نصوص كافكا وجورج أورويل.
مع تجريد المكان، كان من الطبيعي أن يأتي الزمن مموهاً، لا يشير إلى الماضي البعيد ولا الحاضر الراهن، إنه أقرب إلى زمن أسطوري غامض. تمر إشارات عابرة إلى دوران الليل والنهار، بما يسمح بجريان الحكاية، فمثلاً في قصة "الأطوار" نقرأ: "كنتُ كل ليلة أقلد شيئاً مما أتعلمه من الحشرات" (ص 99). وفي بعض النصوص تتداعى الحكاية دون أن نلحظ إشارات زمنية واضحة أو محددة، كما في قصة "الاستدعاء".
الفرد والمجتمع
لا تختلق النصوص لنفسها جماعة مغمورة مثل الفلاحين أو المدرسين، بل تعيد طرح علاقة الفرد بالمجتمع من زوايا مختلفة. في "علبة الشموس" يصبح بقاء أهل المدينة مرهوناً باستمرار وظيفة بائع الشموس، وفي "رقصة الذين عادوا" يستغرب أهل المدينة لأن مجموعة الجنود العائدين من الحرب يتعاملون مع الرقص كأنه فعل حربي، حيث الأضواء تتوهج كأنها فوهات بنادق والقاعة يعاد تنظيم صفوفها. وفي "غدد الأسئلة" تعاني المدينة كلها من كثرة الأسئلة، لكنها خفيفة تشبه البالونات الملونة. وفي "مسحوق القناعة" تعيش المدينة على الورد البلاستيكي ومسحوق الفراشات. ثمة أوهام ومخاوف وانسحاق يشمل الفرد والمجتمع تدريجاً، كأن هذا التخييل الكابوسي لا بد أن يبلغ مداه، بالإغراق التام فيه أو التحلل والتلاشي... "حتى كان سقوطهم بعد طيرانهم بقليل أمام عيون ونظر أهل المدينة التي تجمدت أعينهم من الحيرة، فتصاعد الجدل بينهم أن ما رأوه ليس حقيقة، بل خدعة لن يقتنعوا بها أبداً" (ص 73).
كأن الوجود بأكمله صار خدعة تمت برمجة الناس عليها والتسليم بها، فلا مجال للمقاومة، ولا سبيل إلى الخلاص، لا على مستوى الفرد ولا مستوى المجتمع المقهور المغيب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا كانت المفارقة الأساسية تتعلق بالتغريب، وإعادة رؤية الواقع/ المجتمع، في مرآة تشوه النسب، فإن ثمة مفارقة أخرى موازية خاصة بفعل "التحول". صحيح أن الشخصيات جميعها في قبضة الكابوس، لكن ثمة تحولاً يقع ليصل بالفكرة إلى أقصى امتداد لها. ففي قصة "نديم البخار" يتحدث البطل عن إدمانه لغلي الماء، وينتهي به الأمر (كعادة معظم الشخصيات) إلى الاختفاء في البخار.
وعلى الرغم من أن النصوص تنتهي (ظاهرياً) بأفراد يختفون ويتلاشون، ومجتمع يتحلل إلى لا شيء، لكنها (في العمق) تقوم بتفكيك الواقع وفضح قهره وعبثيته، والسخرية من أدوات الضبط والسيطرة.
في قصة "وجوه المدينة" نقرأ "تتشكل عاصفة تبتلع كل علم في المدينة، بينما نحن في المعمل نركض جميعاً إلى خزان ذلك السائل الصمغي لكي نأخذ شيئاً منه لعلنا نلتصق بالأرض لحين مرور العاصفة" (ص 79). ربما لا تتكرر في العناوين والسطور مفردة أكثر من "المدينة". كأن النصوص مرثية لها. إنها المدينة بوصفها حلماً تم إجهاضه، وفضاء انقلب إلى سجن عبثي، وكابوساً على الرغم من هشاشته وخفته، لكنه لا يُحتمل.