هل المجتمع الأحوازي، مجتمع قبلي؟ وما هو وضع المرأة في هذا المجتمع؟ وماهو دور الدولة الإيرانية في قضايا تتعلق بالمرأة الأحوازية، هذه الأسئلة وأخرى مماثلة تطرح نفسها علينا، بخاصة بعد الجريمة النكراء التي ارتكبها سجاد عطية الحيدري باغتياله زوجته، ابنة عمه، غزل جواد الحيدري المعروفة بـ "منى"، يوم الأربعاء الخامس من فبراير (شباط) 2022. وقد هربت غزل من بيتهما في الأحواز إلى تركيا قبل ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ لتتزوج بمواطن سوري يقيم هناك، ثم تم إقناعها بالعودة إلى الأحواز إثر رحلة قام بها والدها وعمها إلى تركيا.
تفيد الإحصاءات بأن 10 محافظات تتقدم محافظة الأحواز (خوزستان رسمياً) في عدد النزاعات والاغتيالات السنوية للنساء والرجال في إيران، وبأنها تقع في المرتبة الحادية عشرة على هذا السلم، ويسبقها في ذلك محافظات اردبيل، وأصفهان، والبورز، وعيلام، وبوشهر، وطهران، وتشارمحال وبختياري، وخراسان الرضوي، وخراسان الشمالي وفق هيئة الطب العدلي للبلاد.
ويبدو أن نسبة عمليات قتل الشرف بين الكرد والعرب والقوميات غير الفارسية، تفوق المناطق الأخرى، وهناك إحصاءات أخرى غير مؤكدة تمنح المقام الأول إلى محافظة الأحواز في هذا المجال، والوضع أسوأ في بعض مناطق العراق، منها مدينة السليمانية ومناطق في الناصرية توجد فيهما مقابر خاصة للنساء ضحايا عمليات "قتل الشرف".
في الحقيقة، إن جريمة اغتيال غزل الحيدري (على الرغم من حدوث جرائم مشابهة لها في إيران) انعكست بشكل واسع في الإعلام الفارسي والإقليمي، بل والعالمي، والسبب يعود إلى ما قام به القاتل، إذ إنه ذبح زوجته وأمسك برأسها أمام الملأ في حي العزيزية بمدينة الأحواز، متباهياً بفعلته التي أثارت الاشمئزاز في الأحواز نفسها، على الرغم من تأييد قلة له. واستغل العنصريون الفرس هذا الحادث لتوجيه الضغينة والإساءة ضد العرب.
لا يمكن أن نحكم على الجاني دون التدقيق في ظروف الجريمة، وأهمها الخلفية التي تمت على أساسها القائمة (كما هي عند شعوب أخرى) على أساس تقديس الشرف الذي يتلخص في المرأة وضرورة الذود عنه بأي شكل من الأشكال. أي أن الرجل، وأعني هنا، الأب والأخ وابن العم، يعتبر المرأة، "عورته" ويعتبر جسدها ملكه المطلق. وما يثير غيرة المعني بشرف المرأة هو ما يُقال ويحكى في الحي والشارع وبين الناس التي تعرف أسرة المرأة وتتداول موضوع الخيانة الزوجية أو علاقات حب أو غير ذلك بين فتاة وشاب آخر. وكل هذا الكلام يصل إليه عبر قنوات مختلفة، وهنا يجد المعني نفسه محاصراً بتراكم كلامي مشفوع بالملامة والتحقير والحط من شأنه وشخصيته بحسب ما يتصور. وما قام به سجاد الحيدري من استعراض لرأس المقتولة هو رد فعل شنيع مما يوصف شعبياً بـ "غسل العار" ويهدف إلى درء كل هذا الكلام. لكن من سوء حظ القاتل أن ما كان يعتبرها فضيحة التي لم تتجاوز حدود حارته الصغيرة بلغت الآفاق وعرف عنها الملايين من البشر في الكرة الأرضية.
ويشهد المجتمع الأحوازي بين الحين والآخر "جرائم شرف" وبعضها يتم باستشارة شيخ العشيرة وتشمل الاغتيال بالتيار الكهربائي، أو رمي جسم ثقيل على المرأة، أو بدس السم في طعامها أو بطرق أخرى.
وقد أصاب مقتل غزل الحيدري (بهذا الشكل) المجتمع الأحوازي بصدمة، وأثار ردود فعل مختلفة على المستوى الشعبي والنخبة ووسائل التواصل الاجتماعي. ووفق تتبعي للأمر تبين أن أقلية من النخبة الأحوازية دافعت عن هذه الجريمة باعتبارها "دفاعاً عن الشرف"، وأبدت فئة أخرى معارضتها لطريقة تنفيذ الجريمة وليس الجريمة نفسها، فيما ندد بها معظم المثقفين والناشطين الأحوازيين في الداخل والخارج.
وفي المجتمع الأحوازي، تلعب القبيلة (وهي مؤسسة لها جذور تاريخية أقدم من الدين الإسلامي) دوراً لا بأس به وتحظى بدعم السلطة الإيرانية التي تستخدم معظم شيوخ القبائل لتنفيذ أهدافها السياسية، وكأداة ضد أي نشاط مدني أو سياسي معارض لها. ونشهد حالياً مخاضاً عسيراً في عمق المجتمع الأحوازي، بين التراث (القبلية والتقاليد البالية والخرافات المذهبية) من جهة، والحداثة من جهة أخرى، لكن بما أن معظم هذه الحداثة تتم بلغة أخرى وبواسطة قومية فارسية مهيمنة، فإن تأثيرها بطيء على هذا المجتمع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاوةً على الأسرة والقبيلة، هناك دور مهم للدولة وقوانينها في رواج مثل هذه الجرائم أو الحيلولة دون حدوثها. وعلى الرغم من أن الشرع الإسلامي يتعارض مع العرف العشائري، ولا يوصي بمثل هكذا عقوبات وحشية كالتي يفرضها العرف بشأن ما توصف بـ "قضايا الشرف"، لكن قوانين الجمهورية الإسلامية (وهي مزيج من القوانين الدينية الإسلامية والمدنية الغربية) تتساهل مع مرتكبي هذه الجرائم، بل ويسهلها الخطاب الشرعي والاجتماعي والثقافي السائد في إيران، إن لم نقل يشجعها. كما أن القانون الجنائي الإيراني يعفي الأب والجد للأب من القصاص (وهو عقوبة القتل العمد) لو قتل ابنته، ويكتفي بدفع الدية لورثتها. وستكون عقوبة القاتل مخففة إذا تم القتل لأسباب تتعلق بالشرف. فمؤسسات المجتمع المدني (بخاصة المتعلقة بالمرأة الأحوازية) هي الوحيدة التي يمكن أن تحد من تفشي هذه الظاهرة، لكنها غائبة بسبب ضغوط الحكومة وقمعها لأي عمل جماعي، نسائياً كان أم غير نسائي، ثقافياً كان أم اجتماعي. فالسلطة الشمولية الدينية تتحمل على مضض، أنشطة بعض المؤسسات المدنية والثقافية المستقلة في طهران، لكنها تضرب بيد من حديد أي نشاط جماعي وتنظيمي مدني في عربستان. يمكننا القول، إنه على الرغم من وجود نخبة نسائية دارسة ومثقفة وارتفاع عدد الطبيبات والمهندسات والمحاميات والكاتبات والفنانات والرياضيات وخريجات الجامعات الأحوازيات، ويبلغ عددهن الآلاف، غير أن الأجهزة الأمنية تمنع عليهن أي نشاط مدني. على سبيل المثال، فإنها تمنعهن من تشكيل جمعيات مدنية أو ثقافية أو نشر دوريات نسوية خاصة بهن، باللغة العربية، حتى على الفضاء الافتراضي. وتستدعيهن وتطاردهن، إن قمن بمثل هذه الأنشطة، وتقف لهن بالمرصاد إذا انتقدن القوانين الجائرة أو التقاليد المعادية للمرأة. وفي السنوات الأخيرة لم تتحمل السلطة حتى مجموعة نسوية صغيرة ناشطة على تطبيق "واتساب" فحظرت نشاطها. كما أنها تجني ثمار تداعيات مثل هذه الجرائم المتمثلة في غضب فئات من النساء الأحوازيات من هكذا جرائم وانتمائهن إلى الثقافة الفارسية، بل وترجيحهن الزواج من الأقلية الفارسية القاطنة في الإقليم.
فلا يمكن أن نفصّل وضع المرأة الأحوازية عن الوضع العام للشعب العربي الأحوازي الذي يرزح تحت نظام سياسي وقانوني استعماري فارسي داخلي لا يحد من ازدهاره اللغوي والثقافي والمدني فحسب، بل ويعمل على طمس هويته وثقافته بكل السبل. فإذا قارنا بين ما يجري للمرأة الأحوازية ونظيرتها الخليجية نرى البون الشاسع، إذ نكاد لا نشاهد مثل هذه الجرائم في الإمارات والبحرين والكويت وقطر، وهنا يظهر التفاوت بين شعب فاقد لأي سلطة سياسية ومحروم من التعليم بلغته، وفاقد لمحاكم بلغته (وهو يُطحَن بين مطرقة سلطة معادية له ولهويته من جانب وسندان التقاليد القبلية البالية من جانب آخر)، وبين شعوب جارة من بني جلدته لا تعاني مثل ما يعانيه.