كشفت بيانات رسمية حديثة أن معدل التضخم في منطقة اليورو قفز إلى مستوى مرتفع جديد خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، مما جعل البنك المركزي الأوروبي أمام خيارات صعبة بين دعم النمو الضعيف وتضييق الخناق على الأسعار المتسارعة التي يحركها التهديد لإمدادات الطاقة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتمثل روسيا حوالى 40 في المئة من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي، وهو مصدر رئيس للطاقة بالنسبة إلى الاتحاد. كما أنها تزوّد حوالى ربع واردات الكتلة من النفط. وبينما استمرت إمدادات النفط والغاز في التدفق من روسيا إلى أوروبا، قفزت أسعار السوق لتعكس مخاوف بشأن توافره في المستقبل.
في بيان حديث، قالت وكالة إحصاءات الاتحاد الأوروبي إن أسعار المستهلكين ارتفعت بنسبة 5.8 في المئة خلال شهر فبراير مقارنة بالعام السابق، وهو أعلى من مستوى 5.1 في المئة المسجل في يناير (كانون الثاني) الماضي. كان هذا هو الشهر الرابع على التوالي الذي وصل فيه معدل التضخم إلى مستوى قياسي، وربما ليس الأخير.
التضخم عند أعلى مستوى منذ 1997
في مذكرة بحثية حديثة، يقول أندرو كينينغهام، الاقتصادي في مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس": "ستزيد الحرب في أوكرانيا من الضغط المتصاعد على التضخم... سيكون التأثير الأكبر من خلال أسعار الغاز والنفط، وكلاهما من المرجح أن يكون أعلى لفترة أطول مما كان متوقعاً في السابق... أي انقطاع في إمدادات الغاز من روسيا قد يتسبب في ارتفاع الأسعار مرة أخرى".
كان جزء كبير من الارتفاع في التضخم مدفوعاً بأسعار الطاقة، التي كانت أعلى بنسبة 31.7 في المئة عن العام السابق، بعد أن كانت أعلى بنسبة 28 في المئة خلال شهر يناير الماضي. كانت تلك أيضاً أسرع زيادة سنوية في سلسلة تعود إلى عام 1997.
وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" أنه أثناء إعدادهم لخططهم لعام 2022، كان صانعو السياسة في البنك المركزي الأوروبي يعتمدون على انخفاض أسعار الطاقة - مع تراجع الطلب على وقود التدفئة في فصل الشتاء في نهاية هذا الشهر - للمساعدة في عكس الارتفاع في معدل التضخم في منطقة اليورو وتحقيقه العودة إلى هدفها البالغ 2 في المئة بنهاية هذا العام.
لكن التهديد أولاً، ثم انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، قد بددا تلك الآمال. ويتوقع الاقتصاديون في "كابيتال إيكونوميكس" أن يصل المعدل السنوي للتضخم إلى ذروته بأكثر من 6 في المئة هذا الشهر، وأن يظل أعلى من 5 في المئة حتى الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام.
فيما رجّح المحللون الاقتصاديون في "جي بي مورغان" أن يكون متوسط معدل التضخم عام 2022 أعلى بمقدار نقطة مئوية واحدة مما كان عليه قبل الغزو عند 5 في المئة. على النقيض من ذلك، كانت تقديرات البنك المركزي الأوروبي لشهر ديسمبر (كانون الأول) للتضخم هذا العام 3.2 في المئة، وهي أعلى بكثير من هدفه البالغ 2 في المئة.
ولكن من الممكن أيضاً أن يتحوّل النمو الاقتصادي إلى أضعف مما توقعه البنك المركزي الأوروبي. يرجح "جي بي مورغان" أن يشهد اقتصاد منطقة اليورو ركوداً في الأشهر الثلاثة حتى مارس (آذار) الحالي، بعدما قدّر سابقاً زيادة سنوية في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1 في المئة. كما خفضت توقعاتها للنمو في الأرباع اللاحقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعافي دول الاتحاد الأوروبي على المحك
في السياق ذاته، قال كبير مسؤولي السياسة الاقتصادية بالاتحاد الأوروبي إن الغزو الروسي لأوكرانيا سوف يضعف تعافي دول التكتل الأوروبي، "لكن من دون أن يعرقله". وأوضح باولو جينتيلوني، المفوض الأوروبي للاقتصاد، أنه "من المرجح أن يؤثر الغزو الروسي لأوكرانيا في نمو الاتحاد الأوروبي بشكل سلبي، بما في ذلك من خلال التداعيات على الأسواق المالية ومزيد من ضغوط أسعار الطاقة ومزيد من الاختناقات المستمرة في سلسلة التوريد وتأثيرات الثقة".
وهذا يمثل معضلة جديدة للبنك المركزي الأوروبي. ويمكن أن يعالج التضخم عن طريق إنهاء برنامج شراء السندات وفتح الطريق أمام ارتفاع سعر الفائدة الرئيس في وقت لاحق من هذا العام أو أوائل العام المقبل. لكن من المرجح أن يؤدي ذلك إلى تفاقم التباطؤ في النمو، ويهدد بانخفاض حاد في التضخم إلى ما دون المستوى المستهدف العام المقبل.
وبدلاً من ذلك، يمكن للبنك المركزي الأوروبي أن يترك إجراءاته التحفيزية في مكانها ويتسامح مع فترة تضخم مرتفع للغاية لحماية الاقتصاد من تداعيات الحرب الروسية. لكن هذا قد يقنع عمال منطقة اليورو بأن التضخم سيظل مرتفعاً لفترة غير محددة، ويلهمهم للمطالبة بزيادات في الأجور أعلى بكثير مما تم تأمينه خلال العقود الأخيرة. وقد تؤدي الزيادات الكبيرة في الأجور إلى جولة أخرى من الزيادات في الأسعار، بحيث تسعى الشركات إلى تغطية تكاليفها المرتفعة.
جدول زمني لإنهاء شراء السندات
ومع ذلك، هناك قليل من الدلائل على أن العمال يحصلون على زيادات أكبر في الأجور. في بيان حديث، قالت وكالة الإحصاء الألمانية إن الزيادات السنوية في الأجور التي تفاوضت بشأنها النقابات العمالية أو مجموعات مماثلة بلغت 1.1 في المئة فقط في الأشهر الثلاثة حتى ديسمبر الماضي.
وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا، أشار البنك المركزي الأوروبي إلى أنه من المرجح أن يختار مسار العمل الأول، ويعلن عن جدول زمني لإنهاء عمليات شراء السندات في اجتماعه في 10 مارس الحالي. لكن عدداً من الاقتصاديين يعتقدون أن هذا غير مرجح في الوقت الحالي وفي ضوء التهديدات المتزايدة للنمو الاقتصادي في منطقة اليورو.
يرى فابيو بانيتا، أحد صناع السياسات في البنك المركزي الأوروبي أن "الصراع الدراماتيكي في أوكرانيا الآن يلقي بثقله سلباً على كل من ظروف العرض والطلب، مما يجعل حالة عدم اليقين أكثر حدة... في هذه البيئة، سيكون من غير الحكمة الالتزام مسبقاً بخطوات السياسة المستقبلية حتى تتضح تداعيات الأزمة الحالية".
وخلال الأيام الأخيرة، انتعشت سندات الحكومة الأوروبية، إذ راهن المستثمرون على أن البنك المركزي الأوروبي سوف يؤخر رفع أسعار الفائدة. وقال كارستن برزيسكي، الخبير الاقتصادي في بنك "آي إن جي"، إنه "لا يمكن لأحد أن يتوقع بجدية أن يبدأ البنك المركزي الأوروبي بتطبيع السياسة النقدية في مثل هذه اللحظة التي تتسم بارتفاع درجة عدم اليقين".