انعكس انهيار الوضع الاقتصادي في السودان، بسبب توقف المساعدات الخارجية بمليارات الدولارات في أعقاب إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حال الطوارئ في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، على العملة المحلية التي تشهد هذه الأيام تراجعاً كبيراً أمام الدولار الأميركي، وتخطى سعر الدولار الواحد حاجز 500 جنيه، وهي المرة الأولى منذ إعلان الحكومة السودانية في فبراير (شباط) الماضي، توحيد سعر الصرف، لتبلغ الفجوة السعرية بين المصارف الرسمية والسوق الموازية 100 جنيه (443 جنيهاً للدولار في البنوك، و543 في السوق الموازية).
واعترف وكيل وزاره المالية السودانية عبد الله إبراهيم بوجود مشكلات حقيقية تواجه اقتصاد البلاد تسببت في حدوث القفزة العالية للدولار في السوق الموازية، من أبرزها عدم وجود موارد كافية للإيفاء ببنود الصرف على موازنة الدولة وتغطية تمويل العجز، في ظل زيادة الأجور بنسبة 600 في المئة، ما قاد هذه الوضع، بحسب قوله، إلى اللجوء للاستدانة من بنك السودان المركزي، الأمر الذي أثر على كل مؤشرات الاقتصاد الوطني، وتسبب بشكل مباشر في ارتفاع معدلات التضخم، لكنه رأى أن سياسة الاستدانة من الجهاز المصرفي تكون إيجابية، في حال تم صرفها في مشاريع إنتاجية، وتبرز سلبيتها عند استغلالها في الصرف الجاري.
وأقر إبراهيم خلال حلقة نقاش، الأربعاء الثاني من مارس (آذار) عن الوضع الاقتصادي الراهن وسيناريوهات الانتقال إلى النمو، بأن عجز الموازنة حالياً كبير بسبب أن تعويضات العاملين في الدولة، ودعم المحروقات والولايات تمثل 90 في المئة من حجم الإيرادات، لافتاً إلى أن الدولة تتحمل 96 في المئة من تكلفة تشغيل الكهرباء، ما أثر على موازنة الدولة، في عدم الإيفاء بالصرف على قطاعات مهمة أخرى كالصحة والتعليم، وتوقع زيادة نسبة العجز بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا التي أدت إلى زيادة أسعار النفط، ما يعني أن بند الدعم في الموازنة سيواجه إشكالات مستمرة، بيد أنه أكد أن وزارته فقدت المسؤولية عن إدارة الاقتصاد الوطني، كما اشتكى من وجود مشكلات في الشمول المالي ورسم السياسات، وعاب على بنك السودان المركزي عدم إشراك منتجي الذهب في سياساته.
لكن، كيف ينظر المراقبون الاقتصاديون لما يحدث من تطورات سالبة على صعيد الاقتصاد السوداني وانعكاساته على العملة المحلية والوضع المعيشي؟
انخفاض الاحتياطي
يقول أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية البروفيسور حسن بشير محمد نور، "تصاعد سعر الدولار في السوق الموازية في الخرطوم هذه الأيام أمر طبيعي، في ظل انخفاض احتياطي النقد الأجنبي، بخاصة وأن الموازنة العامة للدولة لهذا العام اعتمدت على الموارد الذاتية التي هي في الأساس شحيحة، وتتمثل في الرسوم الضريبية والجمركية، وقامت الدولة بزيادتها بشكل كبير فاق قدرات المواطن السوداني بكل شرائحه، ما أدى إلى رفع مستوى التضخم إلى أعلى مستوياته نتيجة للاعتماد على الاستدانة من الجهاز المصرفي"، ورأى محمد نور أن انخفاض قيمة الجنيه السوداني نتيجة منطقية، نظراً لما فقده السودان من موارد خارجية تقدر بنحو خمسة مليارات دولار في شكل منح وقروض مقدمة من مختلف الدول والمؤسسات المالية مثل البنك الدولي، منوهاً إلى أن هذا الفاقد المهم من الموارد أثر على الموازنة، بل إن هذا العام (2022) كان متوقعاً بلوغ الاقتصاد السوداني مرحلة التعافي، لكن وقوع انقلاب 25 أكتوبر عطل هذا الإنجاز.
وتوقع أستاذ الاقتصاد السياسي استمرار تدهور العملة المحلية والوضع الاقتصادي عموماً لعوامل عدة أهمها، أن تداعيات الحرب الأوكرانية من شأنها أن تزيد الطينة بلة لناحية تواصل ارتفاع سعر النفط، والحاجة إلى استيراد القمح بعد توقف المعونة الأميركية من هذه السلعة للسودان والتي بلغت العام الماضي 300 ألف طن، في وقت يتجاوز استهلاك السودان من القمح مليوني طن سنوياً، في وقت يتراوح إنتاج البلاد بين 12 و17 في المئة من احتياجاته، فضلاً عن ارتفاع فوائد الديون عالمياً ما يزيد حجم ديون البلاد الخارجية، إضافة إلى أن استمرار تحرير أسعار الوقود سيؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج بشكل عام ما يسهم في ارتفاع أسعار العديد من السلع، إلى جانب أن جزءاً كبيراً من اقتصاد السودان يعتمد على القطاعات التقليدية بخاصة الذهب، لكن المشكلة تكمن في أن معظم إيرادات هذه القطاعات لا تدخل خزينة الدولة لأسباب كثيرة أهمها التهريب.
عوامل نفسية
في السياق نفسه، أشار الباحث الاقتصادي حسن السنوسني، إلى أن ارتفاع سعر الدولار المتواصل في السوق الموازية في البلاد في كثير من جوانبه واقعي، بينما تشكل المضاربات حيزاً كبيراً مما يحدث، لكن نجد أن تداعيات الحرب الأوكرانية تلعب دوراً مهماً في هذه التطورات باعتبار أن أوكرانيا تعتبر أكبر دولة مصدرة للقمح، ما جعل كثيرين من المستوردين السودانيين يتخوفون من حدوث ارتفاع في أسعار هذه السلعة، وبالتالي اتجهوا لشراء الدولار بكميات كبيرة لهذا الغرض، فضلاً عن تأثر السوق بالعوامل النفسية نتيجة الأوضاع العالمية والمحلية المتأزمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت السنوسي إلى أن اعتماد الدولة في موازنتها العامة لهذا العام على الموارد الذاتية بعد توقف المساعدات الدولية بسبب أحداث 25 أكتوبر، جعل الصورة قاتمة وضبابية أمام الجهات المضاربة في سوق الدولار، ما جعلها حذرة في عمليات البيع، بل اتجهت إلى الاحتفاظ بالدولار، منوهاً إلى أن المشكلة التي تعاني منها البلاد أن معظم قيمة إيرادات الصادرات لا تدخل خزينة الدولة، ما يضطر غالبية الموردين للسلع الأساسية من الوقود والدواء والقمح إلى توفير احتياجاتهم من النقد الأجنبي من السوق الموازية.
انتقادات للموازنة
وتواجه موازنة السودان للعام الحالي انتقادات واسعة من قطاعات وشرائح مجتمعية عديدة، من ناحية أنها أثقلت كاهل المواطن بشكل لا يوصف، لأنها اعتمدت مئة في المئة على الجبايات والضرائب، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسب كبيرة في ظل تراجع عجلة الإنتاج وتدني مدخول الغالبية العظمى من المجتمع.
ومن المتوقع أن ترتفع الإيرادات وحجم الإنفاق بأكثر من الثلث مع تسجيل عجز قدره 363 مليار جنيه سوداني (820 مليون دولار)، وبحسب بيانات بنك السودان المركزي، صدرت الخرطوم في يناير (كانون الثاني) ما قيمته 43.5 مليون دولار فقط من السلع، بانخفاض حاد عما قيمته 293 مليون دولار في ديسمبر (كانون الأول)، على الرغم من أن هذا الشهر يمثل ذروة موسم الصادرات الزراعية.