بعد ساعات من اندلاع المعارك على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، كان قائد الجيش الألماني، الجنرال الفونس ميس، يعلن عن إحباطه إزاء ما يراه إهمالاً طويل الأمد للجاهزية العسكرية في بلاده، ومعتبراً أن الجيش الألماني في وضع سيئ.
كتب الجنرال الألماني عبر وسيلة التواصل "لينكد إن"، ما نصه "في السنة الحادية والأربعين من خدمتي العسكرية، وفي وقت السلم، لم أكن لأفكر في أنني سأضطر إلى اختبار حرب. والجيش الألماني الذي أتشرف بقيادته خالي الوفاض إلى حد ما. الخيارات التي يمكننا تقديمها للحكومة لدعم الناتو محدودة جداً".
يعن للقارئ أن يتساءل: هل هذه مشاعر ندم على الأوضاع العسكرية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، التي تسببت فيها الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول الحلفاء في منع ألمانيا من بناء جيش نظامي، أم أنها بدايات صحوة تسعى إلى إعادة بناء الجيش الألماني الذي أخاف الجميع فيما مضى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن هناك حقيقة مؤكدة أثبتتها التجربة، وهي أنك إن أردت السلم عليك أن تستعد للحرب، ويبدو أن الألمان لم يكن ليخطر على بالهم السعي من جديد في طريق بناء جيوش نظامية، فقد غربت فكرة الحرب عن القارة العجوز، وذلك قبل أن يعود الرئيس الروسي ويكشف عن أوراقه ويظهر للعالم أنه قادر على تهديد الأمن والسلم الدوليين.
هل المشهد الخاص بالعودة إلى زمن التسلح يتوقف على ألمانيا فقط، أم ينسحب كذلك على اليابان؟
في واقع الأمر كان الحديث في الداخل الياباني أعلى صوتاً من نظيره في ألمانيا، لا سيما في ظل حكومة رئيس الوزراء السابق شينزو آبي، الرجل الذي امتلكت بلاده في زمنه قدرة على رفض ما فرض عليها من قيود بعد الهزيمة القاسية في الحرب العالمية الثانية... هل من المزيد من فك طلاسم المشهدين العسكريين الألماني والياباني؟
البنادق الألمانية... حديث بعد صمت طويل
في الثامن من مايو (أيار) عام 1945، دخل الاستسلام الألماني غير المشروط حيز التنفيذ، صمتت البنادق الألمانية منذ تلك اللحظة، واستسلمت كل الرتب الألمانية لكل القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية للقائد الأعلى لقوات التحالف، وفي الوقت نفسه أيضاً للقائد الأعلى للقوات السوفياتية.
عانت ألمانيا منذ ذلك الحين شروط الحلفاء المجحفة طوال عشر سنوات، وذلك قبل أن يسمح بتأسيس جيش ألمانيا الحديث في 5 مايو من عام 1955.
بلغ عدد أفراد الجيش الألماني خلال الحرب البارة نحو 495 ألف فرد، إضافة إلى قوات احتياط تبلغ نصف مليون آخرين.
ولعله من المثير أنه بعد سقوط جدار برلين، وإعادة توحيد شطري ألمانيا، اشترطت اتفاقية "2+4" الموقعة بين الألمانيتين والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا، على أن لا يتجاوز قوام جيش ألمانيا الموحدة 285 ألف فرد، وهو الأمر الذي لا يزال محل التزام حتى الساعة.
علامة الاستفهام في هذا المقام مزدوجة، والبداية من: هل ما يزال الألمان قانعين بتلك الأعداد، أم أنهم يدركون أنه حان وقت تغييرها، واسترداد القرار مرة أخرى من براثن الأميركيين والأوروبيين، فضلاً عن الروس الذين باتوا مهدداً حقيقياً في الوقت الراهن لأمن أوروبا برمتها، وليس فقط ألمانيا، وتالياً ما الذي تخشاه الأطراف الأخرى من الصحوة الألمانية، بمعنى هل لا تزال هواجس ألمانيا التي كانت يوماً ما نازية تخيف الأجيال الأوروبية الجديدة، قبل الأميركية، على الرغم من نأي الجيش الألماني الحالي بنفسه عن التقاليد العسكرية للحقبة الهتلرية من جهة، وتأسيسه تقاليد جديدة كجيش يليق ببلد ديمقراطي من ناحية أخرى؟
تبدو هيكلية الجيش الألماني مغايرة لكثير من الجيوش الأوروبية، فعلى سبيل المثال يعين وزير الدفاع الألماني من السياسيين المدنيين، وليس بالضرورة أن يكون من العسكريين، ويعد القائد الأعلى للجيش في زمن السلم... ماذا عن زمن الحرب؟
تنتقل السلطة تلقائياً إلى مستشار البلاد، ويقوم وقتها بمعاونته وزيرا دولة من المدنيين، عطفاً على المفتش العام للجيش، وهو منصب يعادل رئيس الأركان، وغالباً ما يكون جنرالاً توكل إليه المهام العسكرية المتخصصة.
فوق كل ذلك هناك ما يعرف بـ"لجنة الدفاع" في البرلمان الألماني، ومهمتها مراقبة كل ما يتعلق بأنشطة وعمل القوات المسلحة الألمانية، بالتعاون مع مفوض خاص يعينه البرلمان لشؤون الجيش، ويوكل إليه مهمة متابعة الأوضاع العامة للجنود والضباط والقادة بالقواعد العسكرية وحالة الأسلحة.
ألمانيا ونهاية "الطابع التحريمي" الغربي
ليس سراً أن أصواتاً ألمانية عديدة قد ارتفعت في العقدين الأخيرين، ومع بداية الألفية الجديدة، مطالبة بوضع حد للقيود المفروضة على العسكرة الألمانية، وبعد مرور نحو سبعة عقود هي عمر ما عرف بـ"الطابع التحريمي"، أي منع ألمانيا من بناء قوات مسلحة جديدة يمكنها عند لحظة معينة أن تكون الرقم الصعب في الداخل الأوروبي أول الأمر.
على جانب آخر، عادت الحركات اليمينية الألمانية المتشددة إلى الساحة، بل إن البعض منها استطاع التسلل إلى داخل صفوف القوات المسلحة الألمانية، وهذه بدورها ترى أن ألمانيا قد تعرضت لظلم شديد طوال العقود السبعة الماضية، وأنه حان الوقت لأن يطفو على سطح أوروبا والعالم جيش ألماني يليق بمقدرات الشعب الألماني.
والشاهد أن تصريحات الجنرال ميس قائد القوات المسلحة الألمانية، قد وجدت ترحيباً كبيراً في صفوف الألمان، ووصفت بأنها "صادقة جداً"، بل وحمل كثيرون الذنب للحكومات الألمانية خلال العشرين سنة الماضية، وبخاصة مسألة تخفيض المخصصات المالية اللازمة لبناء قوات عسكرية كفيلة بملاقاة النوازل كما حدث أخيراً مع بوتين.
في تعليقه الأخير، بدا واضحاً أن الشعور بالتقصير يعصف بالجنرال ميس، لا سيما بعد أن فقدت المستشارة السابقة ميركل القدرة على التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعدما ضمت روسيا بقوة السلاح شبه جزيرة القرم عام 2014، وباتت الآن أمام استحقاقات مشهد أكثر هولاً متمثلاً في غزو روسيا لأوكرانيا، والاحتمالات المفتوحة لأن تنفتح شهية القيصر إلى غزو بعض دول البلطيق أو ما وراءها.
قبل تصريح الجنرال ميس، بدا أن هناك ميلاً واضحاً من الكثير من الشباب الألمان من المعتدلين، وقبل اليمينيين، للانخراط في سلك الجندية، وإبراز الوعد الذي نصه "أنذر نفسي لخدمة جمهورية ألمانيا الاتحادية بوفاء والدفاع بشجاعة عن حق الشعب الألماني وحريته".
هذا الوعد الذي يردده الشباب الألماني أمام عموم الألمان قبل التحاقهم بالخدمة العسكرية، لقي تشجيعاً من كل الأطراف، بدءاً من مسؤولي وزارة الدفاع، ومن أطراف فاعلة قوية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحتى من مسؤولين دينيين كنسيين مثل الأسقف البروتستانتي العسكري زيغورد ريك ساند.
100 مليار يورو... طريق ألمانيا لجيش قوي
نهار الأحد 27 فبراير (شباط) الماضي كان المستشار الألماني أولاف شولتز، يعلن أن بلاده ستخصص 100 مليار يورو لقواتها المسلحة، ومضيفاً "من الواضح أننا بحاجة إلى زيادة الاستثمار في أمن بلدنا من أجل حماية حريتنا وديمقراطيتنا"... هل هي بداية جديدة لجيش ألماني مغاير عما جرت به المقادير منذ عام 1955 وحتى الساعة؟
في واقع الأمر بدأت الرغبة الألمانية في العودة عسكرياً إلى العالم قبل أزمة أوكرانيا بنحو عقدين من الزمن تقريباً، كان ذلك في عام 1994، عندما طلب الحلفاء من ألمانيا المشاركة في عمليات عسكرية خارج البلاد، وساعتها كان الدستور الألماني هو العقبة في الطريق إذ يحصر مهمة الجيش داخل البلاد فقط.
في ذلك الوقت بدا الخلاف واسعاً حول شرعية المشاركة في عمليات عسكرية خارج الأراضي الألمانية، إلى أن تدخلت المحكمة الدستورية وقضت بشرعية مشاركة الجيش الألماني في عمليات عسكرية خارج البلاد، بشرط أن يتم ذلك في إطار المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو حلف "الناتو"، ووجوب موافقة البرلمان على تلك العمليات الخارجية، وهكذا بدأ توجه جديد في السياسات الخاصة بجيش جمهورية ألمانيا الاتحادية.
ولعله من المثير أن تنادي دول أوروبية أخرى كانت ضحية لألمانيا قبل سبعة عقود، بإعادة تسليح الجيش الألماني، فعلى سبيل المثال تحدث وزير خارجية بولندا عام 2011 بقوله "إن تخوفي من عدم تحرك ألمانيا، أكثر من تخوفي من قوتها"، وإن دل ذلك على شيء، فإنه يدل على أن العديد من دول أوروبا الشرقية تتمنى أن يكون هناك جيش ألماني قوي لا يتردد في الدفاع عن الحلفاء، الأمر الذي أسهمت الأزمة الأوكرانية في تعزيزه، واعتبار الجيش الألماني ركيزة أساسية ضمن ركائز الأمن الأوروبي.
والثابت أن فرنسا لم تعد خائفة من حضور جيش ألماني قوي، وهذا ما يعبر عنه المحلل السياسي والباحث في جامعة السوربون هانز شتارك بقوله "إن فرنسا تريد مشاركة ألمانيا في المهام العسكرية في أفريقيا وفي الشرق الأوسط"، ويشمل ذلك مهمات قتالية و"إرسال قوات برية وليس قوات حفظ سلام فقط".
يقول شتارك، إن فرنسا لا تتخوف من الجيش الألماني ولا ترى فيه تهديداً، لأنها تعتبر أن جيشها أقوى من نظيره الألماني.
هل أدرك الأوروبيون الآن الخطأ الكبير في أن تستمر ألمانيا قلباً اقتصادياً للقارة الأوروبية من غير قوة عسكرية تتحمل جزءاً يليق بها من الأعباء الأمنية في القارة التي باتت تتهددها المخاطر.
ولعله من نافلة القول إن الاتحاد الأوروبي اليوم يشعر برغبة كبيرة في أن تقوم ألمانيا بدور عسكري، لا سيما بعد انسحاب بريطانيا التي تمثل الثقل الأكبر أوروبياً على صعيد العسكرة، ولا يتبقى سوى التساؤل: هل واشنطن تقف حجر عثرة أمام ألمانيا أم العكس؟
أميركا ـ ألمانيا... هل من مخاوف أمنية؟
لا يبدو الجواب واضحاً وضوحاً كافياً، ذلك أن واشنطن وإن لم تظهر رفضاً واضحاً، إلا أنه تبقى لديها شكوك ما تجاه الرؤية الألمانية للقوة، فلسفياً أول الأمر، وصولاً إلى التطبيق على الأرض تالياً.
ولعل خير دليل على مخاوف واشنطن مما يحدث في الداخل الألماني عسكرياً، زرعها جواسيس داخل وزارة الدفاع الألمانية، ووصل الأمر إلى حد التجسس على هاتف المستشارة الألمانية السابقة ميركل، عبر برنامج "بريزم" قبل بضعة أعوام، الأمر الذي تسبب في إشكالية دبلوماسية بين البلدين الحليفين في "الناتو".
هل تخشى واشنطن من وصول الجماعات اليمينية المتطرفة من أمثال حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحركة "بغيدا" وبقية الإفرازات المشابهة إلى الحكم، وساعتها سيكون تسليح الجيش الألماني كارثة على أوروبا أول الأمر وعلى "الناتو" لاحقاً؟
لبضع سنوات خلت والشكوك تدور داخل الرؤوس الأميركية تجاه الصحوة الألمانية، وربما لهذا تعنتت أميركا طويلاً في إعادة رصيد الذهب الاحتياطي الألماني المحتفظ به منذ عقود لدى بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، وما بين التجسس الاستخباراتي وقضية الذهب، تبدو واشنطن قلقة من التغيرات والتحولات "الجيو بوليتيكية" العالمية وألمانيا في مقدمها.
غير أنه من الواضح وأمام التحركات الروسية في الأعوام الأخيرة، أن واشنطن تختار الأمر الأقل ضرراً، بمعنى أنها توافق على زيادة عسكرة المشهد الألماني، ليكون درعاً وسيفاً لأوروبا في مواجهة روسيا.
في هذا السياق، يمكن القطع بأن فترة ولاية الرئيس ترمب اليتيمة، زخّمت هذا الاتجاه، ومن قبلها بعام، حين طالب وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر أثناء زيارته لبرلين في يونيو (حزيران) 2015، الحكومة الألمانية بزيادة نفقاتها العسكرية، التي كانت قد توقفت عند حدود أقل من 1.2 في المئة من إجمالي الناتج القومي، في حين تنص وثائق حلف "الناتو" على ضرورة تخصيص اثنين في المئة من إجمالي الناتج القومي لميزانية الدفاع.
يمكن القول إن واشنطن ومهما كانت هواجسها، فإنها قد خلصت أخيراً إلى أن الأزمات الدولية، وما ينتظر الأمن الأوروبي ومنظومته، تحتاج إلى صحوة من قبل الجيش الألماني، وإن بقي السؤال هل يمكن أن يسمح لألمانيا أن تضحى دولة نووية كما الحال مع فرنسا وبريطانيا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يقبل ألمانيا كدولة نووية أوروبية؟
أطلقت صافرات إنذار الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا المخاوف عند الألمان، وأثار الأمر انتباههم بأن عليهم إعادة التموضع العسكري، وبما يتناسب مع الدور الذي تلعبه اقتصادياً في الداخل الأوروبي أولاً، وعالمياً تالياً.
على أن شأن تحديث الجيش الألماني بات يتقاطع مع جزئية مثيرة للجدل بعينها تتمثل في الطموحات النووية الألمانية وهل يسمح لألمانيا بأن تمتلك سلاحاً نووياً أم لا؟
قبل أربعة أعوام، وبالتحديد في يوليو (تموز) من عام 2018، دعا عالم السياسة الألماني الشهير، كريستيان هاكه، في مقال له نشر عبر صحيفة "فيلت أم زونتاغ"، إلى أنه يتوجب على ألمانيا التصرف للمرة الأولى منذ عام 1949 من دون درع حماية نووية من جانب الولايات المتحدة.
والمعروف أن أميركا تخزن العديد من الرؤوس النووية على الأراضي الألمانية، غير أن ذلك لم يعد مقبولاً من كثير من الألمان، وعند هاكه أن "ألمانيا تعد في حالة أزمة شديدة اليوم بلا حماية، ولهذا لا بد لها من التفكير والتصرف بشكل موجه نحو المستقبل، كي يمكن ردع أي هجوم محتمل نووياً".
هل تحتاج ألمانيا إلى جهود كبيرة للحصول على سلاحها النووي؟
المعروف أن علاقة ألمانيا بالبرامج النووية قد بدأت مبكراً منذ عام 1939، وعلى الرغم من كل الانكسارات التي تعرضت لها، فإنها كانت من الذكاء في أمرين:
الأول: حفاظها على القدرات العلمية اللازمة للوصول إلى اليورانيوم المخصب، التي تحتفظ به بالفعل.
الثاني: قدرتها على تحويل كل برامجها الصناعية المدنية، إلى صناعات عسكرية، ومنها النووي خلال ستة أشهر على أقصى تقدير.
وفي كل الأحوال، قد لا تكون فكرة ألمانيا نووية فكرة مقبولة لكثيرين في الوقت الراهن، إلا أنه من دون أدنى شك، سيظل أثر تهديدات فلاديمير بوتين عبر ترسانته النووية لأوروبا وأميركا، قائماً وقادماً في أذهان الألمان، ويوسوس في آذانهم لجهة حيازة سلاحهم النووي، ومن غير الارتكان إلى البديل الأميركي.
ومن الواضح أن أوروبا وأميركا قد أدركتا أنهما وكما ساعدتا ألمانيا على النهوض اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية، كان عليهما أيضاً عدم حرمانها من بناء جيش قوي يكون قادراً على لعب دور فاعل في حماية أوروبا.