عندما تهدأ المعارك، وتخمد النيران في أوكرانيا، بعد أسابيع، أو حتى سنوات، يتصور البعض أن انسحاب روسيا من أوكرانيا سيجري وفقاً لتسوية ما بعد تحقيق أهداف الرئيس فلاديمير بوتين، أو عقب استنزاف عسكري مرير وطويل لا يحقق فيه انتصاراً، لكن ذلك لن يحل مشكلة الكرملين مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولن يغير كثيراً من موقف الغرب المتشكك في سلوك وتوجهات الرئيس الروسي بعدما انهارت الثقة بين الجانبين وسقط آلاف الضحايا. ومع ذلك يرى البعض أن الحل يكمن، إن عاجلاً أو آجلاً، في قبول روسيا كعضو في "الناتو" والاتحاد الأوروبي، لأنه سوف يبدد خوف روسيا والغرب من بعضهما البعض بشكل نهائي، ويُدخل أوروبا والعالم في سلام تدفعه المصلحة المشتركة والاندماج الاقتصادي، فهل يمكن أن يحدث ذلك واقعياً، أم أن تلك ليست سوى افتراضات وفكرة مجنونة لا تعززها الوقائع، ويعوقها الكثير من العراقيل، سواء في بنيوية النخبة السياسية والعسكرية الروسية، أو لدى قادة حلف "الناتو" أنفسهم؟
فكرة قديمة
في عام 1991، عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، أشارت روسيا إلى رغبتها في الانضمام إلى "الناتو"، ووصف بوريس يلتسين، أول رئيس للدولة الروسية الجديدة، عضوية "الناتو" بأنها هدف سياسي طويل الأمد لبلاده، مردداً بذلك صدى الدعوات التي أطلقها قبل عام الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، حينما اقترح انضمام الاتحاد السوفياتي إلى "الناتو"، كما نشرت بعض الصحف تقارير بأن الرئيس بوتين تحدث مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون حول عضوية روسيا في "الناتو".
وفي عام 1994 وقّعت روسيا رسمياً على برنامج "الناتو" للشراكة من أجل السلام، وهو مبادرة تعاون عسكري مشترك تستهدف دول الكتلة السوفياتية السابقة، لكن الأمور تبدّلت بعد ذلك وتعقّدت بعد ضم روسيا للقرم عام 2014، ودخلت العلاقات بين الجانبين في توترات مستمرة، وصولاً إلى غزو روسيا لأوكرانيا يوم 24 فبراير (شباط) الماضي.
اتهامات متبادلة
وطوال العقود الثلاثة الماضية، ظلت روسيا تنظر إلى "الناتو" الذي تأسس عام 1949، كحصن ضد الاتحاد السوفياتي، وتوسعه شرقاً على الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، على أنه يستهدف روسيا وأمنها، بينما يرى "الناتو" أن روسيا تحاول إحياء هذا الاتحاد، وإن كان ذلك من دون عقيدة شيوعية، بخاصة بعد تدخل موسكو في جورجيا عام 2008، وضم القرم في 2014.
وفي حين يدّعي كل من روسيا و"الناتو" أنه لا توجد دوافع عدوانية تجاه بعضهما البعض، إلا أن غزو روسيا لأوكرانيا، ورد "الناتو" بإرسال المزيد من القوات والأسلحة إلى بولندا ودول البلطيق المتاخمة لروسيا وتزويد أكرانيا بالسلاح، وتعاطيه المحتمل إيجابياً مع انضمام فنلندا، وربما السويد، للحلف، على الرغم من تحذيرات موسكو، يدق جرس إنذار بإمكانية اندلاع الحرب بين "الناتو" وروسيا، سواء عن طريق الخطأ، أو بسبب سوء التقدير، أو تحت الضغط في لحظات الجنون، وهو ما ينذر بحرب عالمية ثالثة.
طريق للخروج
ومن هذا المنطلق، يدعو البعض، ومنهم لورنس كوتليكوف، الأستاذ بجامعة بوسطن الأميركية، إلى ضرورة إيجاد طريق للخروج من هذه الهاوية اليائسة، بدءاً من إنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا بأسرع وقت مع تطمينات وضمانات أمنية كافية للطرفين، إذ تحتاج روسيا إلى تأكيدات بأنها ليست مطوقة بتحالف يتزايد باستمرار من الدول التي تعتبرها عدواً لها، كما يحتاج أعضاء "الناتو"، ولا سيما الدول المتاخمة لروسيا، إلى تأكيدات بأن روسيا لا تحاول إحياء الاتحاد السوفياتي، وأن الوقت قد حان لتغيير الأفعال والتفكير من كلا الجانبين خارج الصندوق الحالي.
وعلى الرغم من انهيار الثقة بين الطرفين، وتصاعد صيحات التحذير وفرض عقوبات كاسحة من دول "الناتو" والاتحاد الأوروبي على روسيا، فإن كل ذلك قد يكون دافعاً أقوى للبحث عن حل نهائي، وحتى إذا لم تتحقق التهدئة الآن واستمر النزاع الدموي في تصاعد لفترة أطول، وتغيرت القيادات السياسية أو استمرت في روسيا وأميركا، يظل الأمل معقوداً في المستقبل، في حل أوسع وأشمل ودائم، بخاصة أن حلف "الناتو" تواصل مع روسيا بشكل ثابت وعلني على مدار الـ30 عاماً الماضية، وعملا معاً في قضايا تتراوح من مكافحة المخدرات ومكافحة الإرهاب إلى إنقاذ الغواصات والتخطيط للطوارئ المدنية.
عضوية روسيا في "الناتو"
ويعتبر كوتليكوف أن دعوة "الناتو" روسيا للانضمام إلى صفوفه يُعد إحدى الأفكار المطروحة، الأمر الذي يتطلب بالطبع الالتزام بميثاق "الناتو"، وبخاصة المادة 1، التي تتطلب من الأعضاء تسوية أي نزاع دولي قد يشاركون فيه بالوسائل السلمية على نحو لا يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر، والامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بأي طريقة غير متسقة مع مقاصد الأمم المتحدة.
وبمجرد أن تصبح روسيا عضواً في "الناتو"، فإن خوفها من التطويق سوف يتبدد، وستكون ملزمة بالحل السلمي لنزاعاتها مع أوكرانيا، بل سيساعد ذلك في انضمام أوكرانيا إلى "الناتو"، والأهم دعوة روسيا وأوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي يُعد النموذج المثالي لهذا الحل، بعدما نجح في جعل البلدان التي حاربت بعضها البعض لعدة قرون أعضاء في نفس الفريق ونفس المنظمة ونفس الأسرة، وبصرف النظر عن خروج بريطانيا المأساوي من الاتحاد الأوروبي، إلا أن الاتحاد و"الناتو" معاً حافظا على السلام في أوروبا لأكثر من 80 عاماً.
حماسة سابقة
وإذا اتخذت خطوات في هذا الطريق فسوف يتعين على "الناتو" أن يرحب بالعضو الذي لا يثق به بشدة، وستحتاج روسيا إلى الالتزام بالقواعد التي تفضل انتهاكها، لكن هذه هي طبيعة الاتفاقات بين الخصوم، كلاهما يعطي للحصول على قيمة أكبر، وبما أن كلا الجانبين يرى قيمة وفائدة عظيمة من الاتفاقية، فسوف يتخذان خطوات لتجسيدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يُعد هذا الرأي غريباً عن سياق التوجهات الغربية قبل ضم القرم لروسيا، فبعد قطع العلاقات بين "الناتو" وموسكو في أعقاب الحرب الروسية - الجورجية عام 2008، اجتمع الجانبان مرة أخرى في سبتمبر (أيلول) 2010، ولمح إيفو دالدر، سفير الولايات المتحدة لدى "الناتو"، آنذاك، بإمكانية قبول عضوية روسيا المستقبلية في "الناتو"، حيث أشار إلى المادة 10 من ميثاق الحلف، التي تنص على أن عضوية "الناتو" مفتوحة لأي دولة أوروبية، مؤكداً أن هذه المادة تنطبق بالتأكيد على روسيا طالما أنها تفي بمتطلبات الحلف، كما دعمت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، والأمين العام السابق لحلف "الناتو" جورج روبرتسون، فكرة العمل من أجل عضوية روسيا في "الناتو".
تفكير بالتمني
غير أن البعض مثل الصحافي والباحث في "موسكو تايمز" مايكل بوم، اعتبر أن هذا كله تفكير بالتمني، نظراً لوجود كثير من العراقيل التي تحول دون انضمام روسيا إلى حلف "الناتو"، فهو يعتبر أن روسيا بحاجة إلى حلف "الناتو" كعدو، وليس كشريك، حيث تنظر القوى المحافظة والقومية التي تُهيمن على مؤسسة الدفاع والأمن في موسكو إلى حلف "الناتو" على أنه تحالف مُناهض لروسيا بطبيعته، وأن الهدف الحقيقي للتحالف هو روسيا، كما كان الحال خلال الحرب الباردة، وليس التركيز على التهديدات الجديدة، مثل الإرهاب أو القرصنة البحرية أو المخدرات أو الهجمات الإلكترونية، حتى إن ديمتري روجوزين، مبعوث روسيا السابق إلى "الناتو"، كتب على "تويتر" قبل سنوات أن كبار ضباط "الناتو" حتى يومنا هذا يطورون استراتيجيات وخططاً عسكرية تستهدف روسيا، وهو ما انعكس على الاستراتيجية العسكرية لروسيا خلال العقد الأخير، والتي أدرجت فيها "الناتو" على أنه الخطر الأول على البلاد، كما يعارض خصوم "الناتو" المتشددون داخل النخبة الإعلامية والسياسية والعسكرية والحكومية، أي تعاون مع الحلف، والذي يعتبرونه أداة للعدوان الإمبريالي الأميركي والتوسع العسكري.
ويشير مايكل بوم إلى سبب آخر سوف يجعل روسيا تقاوم بشدة هذه العضوية، وهو مطلب "الناتو" الخاص بالشفافية في الشؤون العسكرية، وهو ما تعتبره موسكو أمراً شديد الحساسية لأنه يتعلق بمشاركة أسرارها العسكرية مع "الناتو"، لا سيما ما يتعلق بقواتها النووية.
طموحات روسيا ومكانتها
علاوة على ذلك، فإن العضوية الروسية في "الناتو" ستعني نهاية حلم روسيا باستعادة وضعها كقوة عظمى سابقة، حيث ستصبح فعلياً مجرد دولة أوروبية كبيرة أخرى على نفس المستوى، مثل ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا، وهو لا يوازي مكانة الاتحاد السوفياتي الذي كان أكبر بكثير وأقوى من هذه البلدان الثلاثة مجتمعةً، كما ستكون هذه العضوية اعترافاً بأن روسيا تابعة بحكم الأمر الواقع للولايات المتحدة في أكبر منظمة أمنية وأكثرها نفوذاً في العالم، وهو أمر غير مقبول حتى للأعضاء المعتدلين في المؤسسة السياسية والعسكرية، نظراً لأن الكرملين يرغب في الحفاظ على سيادته واستقلاله كقوة إقليمية وعالمية، وسيكون من المستحيل تحقيق ذلك إذا أصبحت روسيا عضواً في "الناتو".
يُضاف إلى ذلك أن عضوية "الناتو" تعني واقعياً نهاية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي عملت روسيا بجد منذ إنشائها في عام 2002 كي تنافس "الناتو" على النفوذ في ساحة الأمن العالمي، كما أن عضوية "الناتو" تتطلب أن يكون لأعضائه سيطرة مدنية وديمقراطية على قواتهم المسلحة، وأن تتمتع الدول بميزانيات دفاع شفافة وإشراف عام وتشريعي على الشؤون العسكرية لبلدانها، بما في ذلك التحقيقات المستقلة في الإخفاقات والانتهاكات العسكرية، والسيطرة البرلمانية على كيفية تخصيص الأموال أو عدم تخصيصها لبرامج الأسلحة والضوابط والتوازنات الدستورية بشأن قدرة الرئيس على إرسال قوات للقتال في العمليات العسكرية الأجنبية، لكن في روسيا، تعتبر السيطرة المدنية على الجيش لعنة على المبادئ الأساسية لهيكل السلطة العمودية لبوتين، والذي طوى جميع فروع السلطة الثلاثة في فرع تنفيذي ضخم واحد، ترفض المساءلة العامة، وهذا ينطبق بشكل خاص على قواتها المسلحة.
الحدود مع الصين
ولعل أحد الأسباب المهمة التي تعوق انضمام روسيا إلى "الناتو" يتعلق بحدود روسيا الطويلة مع الصين، والتي تمتد إلى نحو 4000 كيلو متر، فإذا أصبحت روسيا يوماً ما عضواً في "الناتو"، سيؤدي ذلك إلى زعزعة التوازن الأمني العالمي الثلاثي الأقطاب بين "الناتو" وروسيا والصين، وسيجعل الصين تعتقد أن روسيا و"الناتو" يتعاونان من أجل احتواء بكين، أو إضعافها، ولا ينبغي استبعاد احتمال أن يكون المشروع العسكري القادم للولايات المتحدة أو "الناتو" موجهاً إلى الصين، بخاصة مع استمرار وصف المسؤولين والنخبة في واشنطن أن الصين هي خصم الغرب الرئيس حالياً، وإذا حدث ذلك، فإن روسيا بصفتها عضواً في "الناتو"، ستصبح تلقائياً هدفاً لهجوم مضاد صيني تدفع ثمنه، ولتجنب هذا السيناريو، ينبغي لروسيا أن تصر على الحياد العسكري الصارم من "الناتو".
غير أن الكاتب والمحلل السياسي ألكسندر كرامارينك يختلف حول فكرة أن عضوية روسيا في "الناتو" هي تفكير بالتمني، وعلى الرغم من اقتناعه بأن روسيا لن تطرق باب الحلف أبداً، فإنه يعتقد أنه إذا دعا "الناتو" روسيا للانضمام، فسيكون من الصعب التراجع، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقية هي عدم رغبة "الناتو" في التعاون مع روسيا على أساس المساواة والمصالح المشتركة، كما يختلف حول تضخيم طموحات روسيا العالمية التي يقول إنها طموحات معقولة، كونها تكتفي بأنها واحدة من الدول الرائدة في العالم، وليست قوة عظمى مثلما كان عليه الحال في الماضي.
وفي كل الأحوال، ستبقى علاقة روسيا بـ"الناتو"، وكذلك عضويتها، رهناً بما سوف تسفر عنه الحرب في أوكرانيا، وكذلك الطريقة التي ستضع فيها الحرب أوزارها، وقد يكون من السابق لأوانه تقدير مستقبل هذه العلاقة بينما تجري مياه كثيرة في النهر.