إلى جانب انعكاساتها على البشر، للحرب أثر كبير على نتاج الحضارة الإنسانية من التراث والآثار التي تتعرض لخطر داهم جراء القصف والاشتباكات المسلحة. وبالتزامن مع الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن مصيراً مجهولاً ينتظر أقدم مجموعة آثار مصرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق الموجودة حالياً في متحف أوديسا للآثار في أوكرانيا عقب الاجتياح الروسي، بخاصة مع اشتداد القتال ووصول الروس إلى مختلف المدن الأوكرانية بما فيها العاصمة كييف، وتعرض مبان مدنية عدة للدمار.
ولكن القلق في شأن هذه المجموعة يزداد، إذا ما علمنا أن مدينة أوديسا، إحدى كبريات المدن الأوكرانية، يتوقع أن تكون ساحة للمعارك خلال الأيام المقبلة. فمع تطور الأحداث، سيطرت القوات الروسية خلال الأيام الماضية على جزيرة زميني القريبة من أوديسا، قبل أن تبدأ التحرك إلى داخل المدينة فعلياً، حيث يعتبر مراقبون أنها هي الهدف القادم لروسيا في أوكرانيا.
وتُعد أوديسا التي يتوقع أن تهاجمها القوات الروسية في غضون الأيام المقبلة، ثالث أكبر مدن أوكرانيا بعد كييف وخاركيف، وتبعد عن العاصمة بحوالى 450 كيلومتراً إلى الجنوب، وهي مركز سياحي واقتصادي في البلاد كما أنها ميناؤها الرئيس على البحر الأسود، ما يمنح المسيطر عليها هيمنةً كبيرة على سواحله، لذا يُتوقع أن تهاجمها روسيا من السفن الحربية الموجودة في البحر الأسود أو من الشرق حيث تسيطر القوات الروسية حالياً على ميناء خيرسون بالفعل.
آثار تعرضت للخطر بفعل الحروب
ويشهد التاريخ أحداثاً متفرقة من عصور تاريخية مختلفة لآثار دُمرت بفعل الحرب والصراعات المسلحة في بقاع شتى من العالم. وفي العصر الحديث، يمكن أن يكون أشهرها عمليات النهب الموسعة التي تعرض لها متحف اللوفر في باريس إبّان الحرب العالمية الثانية، حيث تم الاستيلاء على آلاف القطع التي ضمها المتحف الذي يُعد من أشهر المتاحف في العالم ليتم استعادة بعضها في وقت لاحق.
ولا ينسى العالم مشهد تدمير حركة "طالبان" لتمثالَي بوذا في أفغانستان بالديناميت في عام 2001. وفي المنطقة العربية في الحقبة الأخيرة، كان من أبرز الخسائر، الآثار التي دُمرت في مدينة "تدمُر" السورية التي تُعد من أهم المواقع التاريخية في البلاد، والتي تعرضت لتدمير من قبل "داعش"، مثل قوس النصر الشهير ومعبد بيل. إضافة إلى عمليات النهب الموسعة التي تعرضت لها آثار العراق إبان الحرب الأميركية عليها، والتي بدأت بغداد أخيراً مساعيها الدبلوماسية لاسترداد بعضها من الخارج.
وشهدت ليبيا أيضاً عمليات كبيرة لسرقة الآثار وتدميرها في السنوات الأخيرة، حيث تعرضت مواقع أثرية عدة لضرر بالغ. وتعرض موقع "لبدة الكبرى"، الذي يعود إلى العهد الروماني، والملقّب بـ"روما أفريقيا" لمحاولة تفجير فاشلة بـ 40 كيلوغراماً من المتفجرات. وأدرجت منظمة "اليونسكو" منطقة صبراته الأثرية وأربعة مواقع أثرية أخرى في ليبيا، على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر في عام 2016.
ولا تقتصر الخطورة التي تتعرض لها الآثار على الحروب وأحداث العنف المسلحة، إذ قد تُفقَد لأسباب متنوعة من بينها الحوادث والحرائق والكوارث الطبيعية، فعلى سبيل المثال، دُمرت بالكامل مجموعة الآثار المصرية التي كان يضمها "متحف البرازيل الوطني" وكانت تُقدَّر بحوالى 750 قطعة جراء احتراقه منذ سنوات عدة.
تاريخ متحف أوديسا
وعن متحف أوديسا ومجموعة الآثار المصرية التي يضمها، قال أستاذ الآثار في جامعة القاهرة، أحمد بدران، إن "تاريخ متحف أوديسا الواقع جنوب أوكرانيا يرجع إلى عام 1825، عندما كانت تلك البلاد لا تزال جزءاً من الإمبراطورية الروسية، حيث يُعد أحد أقدم المتاحف الأوكرانية على الإطلاق. وكان أول مدير للمتحف، عالِم الآثار والمؤرخ المولود في هولندا، إيفان بافلوفيتش بلارامبيرغ (1772-1831)، وهو من مؤسسي المتحف والمدافعين عن فكرة إنشائه. ويضم المتحف حالياً حوالى 170 ألف قطعة أثرية يعكس جزء منها حضارات لدول مختلفة من بينها اليونان وروما وقبرص. وكذلك يشمل المتحف مجموعة آثار مصرية نادرة تقدرها الدراسات بحوالى 400 إلى 800 قطعة أثرية ترجع إلى مصر القديمة، وتغطي فترة طويلة جداً من التاريخ المصري، بدءاً من عصر ما قبل الأسرات وحتى العصر البطلمي". وأضاف بدران أن "مجموعة الآثار المصرية تشتمل على قطع أثرية متنوعة تمثل مختلف جوانب الحضارة المصرية القديمة، في التاريخ والدين والطقوس الجنائزية والحياة اليومية والحرف اليدوية وغيرها، وتضم توابيت حجرية وخشبية مزخرفة ومومياوات بشرية وحيوانات، وبرديات وأواني وبعض الأثاث الجنائزي وتماثيل برونزية لإيزيس وأوزوريس، مع بعض الآثار المنقولة من مقابر الدير البحري في الأقصر، إضافة إلى طاولات وأوانٍ كانوبية ومجوهرات، بخلاف بعض الملابس والصنادل والمنسوجات والقطع الخشبية. وتشكل هذه المجموعة أقدم مجموعة للآثار المصرية في البلدان التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي السابق، كما أنها مجموعة الآثار المصرية الوحيدة في أوكرانيا كلها، وثالث أكبر مجموعة آثار مصرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق".
كيف تكونت مجموعة الآثار المصرية في متحف أوديسا؟
ولفت بدران إلى أن "هذه المجموعة من الآثار بدأ تكوينها لأول مرة في عام 1826، عندما تبرع مدير المتحف الأول بلارامبيرغ بمجموعته الأثرية للمتحف الجديد، حيث شكلت مجموعة مقتنياته من الآثار المصرية النواة الأولى لمتحف أوديسا، وكانت تضم آثاراً يونانية ورومانية قديمة، إضافة إلى الآثار المصرية، وقد قامت حكومة الإمبراطورية الروسية آنذاك بشراء المتبقي من مجموعة بلارامبيرغ من ورثته عقب وفاته وضمتها إلى المتحف. وتقول أوراق بحثية إن طريقة وظروف جمع الآثار المصرية من قبل بلارامبيرغ لا تزال غير واضحة، حيث عاش طوال حياته متنقلاً بين بلدان عدة. ورجحت أن يكون قد جمع تلك الآثار المصرية من مزادات أوروبا، وربما أيضاً خلال زيارة يُعتقد أنه قام بها إلى مصر قبل توليه إدارة المتحف".
وأشار أستاذ الآثار إلى أن "الطبيب الفرنسي أنطوان بارتليمي كلوت باي (1793-1868) كان من أبرز مَن تبرعوا بآثار مصرية إلى متحف أوديسا، إذ عمل منظماً ومديراً للخدمات الطبية في مصر خلال عهد محمد علي. وجدير بالذكر أنه خلال تلك الحقبة، كان بيع وشراء الآثار شيئاً متعارفاً عليه، ولم تكن هناك قوانين في هذا الوقت تجرّم بيع الآثار والاتجار فيها. وازدادت مجموعة الآثار المصرية في متحف أوديسا مع مرور الوقت بنجاحه في ضم قطع أثرية إضافية إما من طريق الاستحواذ والشراء أو من طريق التبرع. وتمت آخر إضافة مهمة إلى مجموعة الآثار المصرية في متحف أوديسا، في عام 1959، عندما تم نقل كل الآثار المصرية من متاحف أوكرانيا المختلفة وجمعها كلها في متحف أوديسا، ليصبح المتحف الوحيد في البلاد الذي يحتوي على آثار تعود إلى الحضارة المصرية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غياب الإحصاء الدقيق
تتضارب الأقوال حول عدد القطع المصرية في متحف أوديسا، ولكنها تُقدَّر بالمئات ولا يوجد إحصاء دقيق لعددها ووصفها التفصيلي. وقال أستاذ الآثار أحمد بدران إن "الإحصاء الدقيق والتفصيلي لمجموعة الآثار المصرية في متحف أوديسا ظل لفترة طويلة غير دقيق، نظراً للإهمال الذي تعرضت له المجموعة عقب وفاة بلارامبيرغ، وهو ما كان سبباً في اختفاء بعض القطع واعتبارها مفقودة حالياً، ولا يُعرف مصيرها على وجه الدقة. كما أن كثيراً من آثار المجموعة لم تخضع لدراسة علمية دقيقة حتى الآن، ففي الوقت الذي يقول فيه الموقع الإلكتروني للمتحف إنه يشتمل على 400 قطعة أثرية مصرية، تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن المتحف يضم حوالى 800 قطعة أثرية مصرية قديمة. وربما يرجع السبب في هذا التضارب إلى أن أول عملية جرد لآثار المتحف، ومن بينها مجموعة الآثار المصرية، تمت في منتصف القرن التاسع عشر، وتم خلالها حصر بعض القطع المصرية التي لم يعد لها وجود حالياً، ولم يُعرف سبب اختفائها، ربما نتيجة الحروب أو الإهمال أو السرقات".
وزاد بدران، "كان سيرغي دونيتش، رئيس قسم الآثار المصرية القديمة في المتحف خلال الفترة من 1927 وحتى 1958، هو أول من حاول ترتيب مجموعة الآثار المصرية في متحف أوديسا والتعرف على تاريخها الدقيق وتفاصيلها وجردها، والإضافة إليها من طريق بعض المتبرعين للمتحف. وحتى الآن، لا تزال تُجرى عديد من الدراسات التي تبحث في العدد الأصلي لهذه القطع وتحاول الوصول إلى القطع التي فُقدت ومعرفة مصيرها، والتعرف على تفاصيلها الفنية وما كانت تحويه من كتابات وقيمة تاريخية وأثرية".
دور للمجتمع الدولي
منظمات عالمية عدة واتفاقيات دولية وقعت عليها معظم الدول للحفاظ على الآثار وحماية الإرث الثقافي للعالم، ومن أبرزها "اتفاقية اليونسكو لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي" لعام 1972، وهي من أهم المعاهدات المعترف بها على مستوى العالم، حيث وقعت عليها 193 دولة، من بينها روسيا وأوكرانيا، و"ميثاق فينيسيا" الذي تم إبرامه عام 1964، وغيرهما كثير من المعاهدات والمواثيق التي تسعى إلى الحفاظ على الآثار باعتبارها إرثاً ثقافياً وانعكاساً للحضارة الإنسانية جمعاء ينبغي أن يتكاتف العالم كله للحفاظ عليها، ولكن ما دور هذه المنظمات في أحداث مثل التي نشهدها حالياً، وكيف يمكن تفعيل الاتفاقيات الدولية؟ يجيب بدران، "لا بد أن يكون للمؤسسات الدولية والمنظمات العالمية المهتمة بالتاريخ والتراث، موقف في مثل هذا الأمر، فمنظمات مثل اليونسكو ومنظمة المتاحف العالمية ومنظمة الإيكروم وغيرها، لا بد أن تقوم بتحرك سريع لحماية التراث والآثار في كامل أوكرانيا وليس فقط في هذا المتحف، فيتقدموا ببيانات عاجلة لأطراف الصراع تحثهم على الالتزام بالمواثيق الدولية الموقعة في هذا الشأن وهي كثيرة، ومن بينها ميثاق الأمم المتحدة للحفاظ على الآثار والتراث، وميثاق فينيسيا، فيجب تسليط الضوء على أن الآثار ليست طرفاً في الصراعات العسكرية لأنها ملك للإنسانية جمعاء". ويضيف أن "الآلة العسكرية غاشمة ولا يمكن توقع نتائج القصف في أي مكان، حتى لو ادعت الدول أنها تقصف أهدافاً محددة وليس بشكل عشوائي، فقذيفة خاطئة يمكن أن تدمر قطعاً لا تُقدَّر بثمن ولا يمكن تعويضها. والمشكلة ليست فقط في القلق من تدمير المتحف أو حدوث خسائر مباشرة، ولكن أجواء الحرب ينتج عنها حالة من الفوضى تعم البلاد يمكن أن تتسبب في نهب هذه الآثار وسرقتها واختفائها بعد ذلك. وينطبق هذا على الآثار المصرية وغيرها في متاحف أوكرانيا عموماً. ومن هنا أتصور أن على الدول التي يضم متحف الأوديسا آثاراً لها، ومن بينها مصر، أن تتقدم من خلال وزراء خارجيتها بطلب أو استفسار عاجل من الأمم المتحدة وأطراف الصراع لإلقاء الضوء على هذا الأمر لما له من أهمية كبيرة".