"كيف تدخل جرافات إلى الموقع الأثري؟" و"ماذا ستفعل البلدية في الآثار المكتشفة؟" و"أين موقف وزارة السياحة والآثار من هذا الأمر؟"، وغيرها من التساؤلات التي تداولها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مع صور لمنطقة أثرية في البلدة القديمة بمدينة نابلس، تظهر فيها أعمال حفر وتنقيب من قبل البلدية من أجل إقامة مدرسة تلبية لرغبة مالك الأرض. واستنكر الناشطون قيام الجرافات بالحفر وتجريف المنطقة وهي "أثرية"، بخاصة أن أعمال التنقيب أظهرت وجود أجران مياه، وفسيفساء بيضاء، وغيرها من المكتشفات التي تعود إلى الحضارة الرومانية التي سكنت فلسطين قديماً.
لكن بلدية نابلس ووزارة السياحة التابعة للسلطة الفلسطينية أوضحتا أن الجرافات دخلت فقط لإزالة الركام من المنطقة، إذ قال مدير مديرية السياحة والآثار في نابلس مفيد صلاح إن "هذه المنطقة جرى حولها جدل كبير، بخاصة أنها تقع ضمن منطقة قديمة ومليئة بالآثار، ما يُلزم طواقم السياحة بفحصها ميدانياً للتأكد من وجود الآثار من عدمه، قبل إعطاء ترخيص البناء، حيث أظهر التنقيب اليدوي وجود آثار رومانية وعثمانية، فالساحة التي سيُنفَّذ فيها المشروع كانت تضم مصنعاً للصابون منذ العهد العثماني، ولكن إبان الانتفاضة مطلع الألفية الثانية تعرضت للتدمير".
وتابع مفيد صلاح "إن المنطقة باتت مكشوفة وهي معروفة بثروتها الأثرية، ما قد يجعلها عرضة للسرقة والبيع كغيرها من المواقع، لذلك تم الاتفاق على بناء المدرسة ولكن مع الحفاظ على الشواهد الأثرية، إذ سيُخصص الطابق الأول منها للزوار والطلبة الآخرين لمشاهدة الآثار التي ستغطَّى بطريقة تسمح برؤيتها، من أجل التعرف على تاريخ نابلس منذ العهد الكنعاني وصولاً إلى الفترة العثمانية، عبر إضافة قطع أخرى عُثر عليها في البلدة القديمة".
المنطقة تكشف عن جزء من تاريخها
في سياق متصل، قال أحد مؤسسي مشروع "يلا" لإعمار البلدة القديمة في نابلس، المهندس المعماري عبد الرحمن كتانة، إن "الفسيفساء البيضاء وأجران المياه قد تشيران إلى وجود قصور أو منطقة عامة في الدولة الرومانية، فالفسيفساء تمثل ممراً، والأجران قد تدل على حمامات عامة أو منطقة غنية، وهذا يشير إلى وجود نظام مائي في المنطقة". وأضاف أن "هذه المكتشفات ستسهم في التعرف أكثر على تاريخ هذه المنطقة المفقودة أصلاً من خارطة مأدبا الرومانية في الأردن، بسبب الدمار الذي أصابها على مدى الزمن، بالإضافة إلى غياب المصادر الفلسطينية التي تروي تفاصيل المدينة وتتابع الحضارات فيها".
وأشار كتانة إلى أن "البلدة القديمة مليئة بالمناطق الأثرية، ولكن في بعض الأحيان تحدث تجاوزات تتعلق بوجود الآثار وتغطيتها أو تجريفها"، وهذا ما يؤكده مدير مديرية السياحة والآثار في نابلس مفيد صلاح، إذ قال إنه "في بعض الحالات يلجأ البعض إلى تجريف المنطقة وإزالة الآثار قبل التوجه إلى دائرة السياحة والبلدية للحصول على ترخيص بناء، وهذا يعاقب عليه القانون في حال تم اكتشافه، فالقانون يلزم كل شخص يودّ البناء بالتوجه إلى دائرة الآثار، لمعرفة ما إذا كانت تضم آثاراً أو قريبة من منطقة أثرية، من أجل الحصول على ترخيص، الذي قد يكون عادياً في حال خلو المنطقة من الآثار، أو مشروطاً، أو يقابَل بالرفض وفي هذه الحالة قد يتم تعويض صاحب الأرض بشكل ما".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بناء فوق الآثار وسرقة أجزاء منها
وسُجلت تجاوزات أخرى في خربة بلدة الكرمل جنوب الخليل، من حيث البناء غير القانوني على أطراف المواقع الأثرية، والبناء فوق آثار الكنائس، وأرضيات الفسيفساء، أو حتى استخدام عناصر من المباني كالأعمدة والتيجان الأثرية في بناء المنشآت الحديثة، إضافة إلى بيعها في السوق الإسرائيلية، وفق ما صرحت رئيسة الهيئة الإدارية للجمعية الفلسطينية للمعالم والمواقع التاريخية شرين علان.
وأوضحت علان أن "المنطقة التي أجريتُ دراسة حولها من أجل التوعية بأهمية التراث الثقافي وحمايته، تضم مواقع أثرية عدة ككنيسة بيزنطية وقلعة صليبية، وكهوف وقبور مقطوعة في الصخر، وكانت جزءاً من الطرق التجارية التي تمر من البتراء إلى القدس وغزة"، مشيرة إلى أن "اللوم يقع بشكل كبير على وزارة السياحة والآثار والجهات المختصة في هذا القطاع، لأنه يحتاج إلى تدخلات منهجية لتوعية أهل المنطقة لإحداث تنمية ثقافية واقتصادية، ووقف أعمال الردم والاستغلال الخاطئ وترك المواشي فيها للرعي، أو تحويلها إلى مكب نفايات".
القانون يعاقب بالسجن والغرامات
من الناحية القانونية، يفرض القانون رقم 11 لعام 2018 بشأن التراث الثقافي المادي، عقوبات على التجاوزات المتعلقة بالتراث من دون الحصول على إذن من وزارة السياحة، تتمثل في السجن ستة أشهر، أو سنة أو حتى سبع سنوات، إضافة إلى غرامات مالية تبدأ من 2000 دينار أردني وقد تصل إلى 50 ألف دينار أردني، وتُحدد العقوبات بعد بحث مجريات كل قضية ومقدار الضرر الذي حصل، سواء كان بناء، أو تجريفاً، أو نقل تراث، أو عدم الإبلاغ عن وجود آثار وغيرها من التجاوزات.
الترميم بتكاليف بسيطة ومواد محلية
وبالحديث عن أهمية الإعمار الثقافي، أوضح عبد الرحمن كتانة أن "الحفاظ على الأبنية والمواقع الأثرية يُعد حفاظاً على الهوية الفلسطينية، وخلق حركة سياحية واقتصادية في المكان، وهذا سيوفر مزيداً من فرص العمل، ورفع مستوى الوعي بالتراث الثقافي المعماري". مضيفاً أن مشروع "يلا" الذي يعمل عليه برفقة زوجته وشقيقه، "يركز على إعادة إحياء الأبنية القديمة باستخدام المواد المتوفرة محلياً والاستثمار في الحرف الموجودة داخل البلدة القديمة، وتطويع متطلبات الترميم بما يتوفر بين أيديهم وبأقل تكلفة ممكنة، من دون التغيير في شكل المبنى، وإنما فقط الحفاظ عليه قائماً، لأن المبنى يروي قصته بذاته".
ولكن نشر هذه الثقافة يواجه تحديات أبرزها أن التعويض غير موجود دائماً، وهذا يسبب خسائر للناس في حال منعهم من البناء في أراضيهم الأثرية، كما أن القوانين التي تنظم آليات الترميم تحتاج إلى التطوير والمواءمة مع الواقع الحالي، ففي بعض الأحيان لا تتوفر كل المواد، أو تتوفر بأسعار باهظة، إضافة إلى دعم إنشاء المشاريع الاقتصادية بخاصة في المناطق القديمة مثل نابلس، التي تمتاز بعاداتها وتقاليدها الخاصة.