بعد تصاعد الأزمة بين أوكرانيا وروسيا وتطورها إلى صراع فعلي، تزايدت العقوبات الغربية ضد روسيا.
لم تعش موسكو في الأربعين سنة الماضية هذا المستوى من العزلة. بطبيعة الحال، فإن الحادث لا يتعلق بأوكرانيا فقط، بل له بعد استراتيجي يشمل "الناتو" والاتحاد الأوروبي. وبالفعل، لا يزال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحدث عن هذا البعد، منذ مدة. إنه يبدو وكأنه تصفية لما تبقى من الحسابات لحقبة الحرب الباردة وما بعدها.
ومن غير المستبعد أن تؤدي هذه الأحداث في المستقبل إلى تطورات دولية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. لأنه يمكن أن يتسبب في تفعيل "خط الصدع" وإحداث زلزال يؤثر في البشرية بأكملها (الحرب العالمية الثالثة).
وبالنظر إلى الوضع والتوازنات الحالية، إذا لم تتوصل الأطراف إلى اتفاق سلام وشيك، وانحازت تركيا بشكل مباشر إلى أحد الأطراف، فستكون أول دولة تقع في خط الصدع. لذلك فهذه الأزمة تتطلب منا الحياد وعدم الانحياز إلى أحد الجانبين.
وبالنسبة إلى موقف أنقرة الحالي، العضو في حلف "الناتو"، والتي تحاول الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تجاه هذه الحرب، كتبت قبل أسبوعين، مقالاً حول موقف تركيا، بعنوان "تركيا تقامر مع روسيا في أوكرانيا"، وذكرت "أن الاستراتيجية الأكثر منطقية لأنقرة هي عدم مواجهة روسيا". بعبارة أخرى، شددت على أن أنقرة يجب أن تظل محايدة تماماً.
في الأيام الأولى من الحرب، أصدرت أنقرة وحكومة كييف رسائل خلقت أجواء كما لو أن تركيا ستقاتل إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا.
وفي وقت لاحق، نشر سلجوق بيرقدار، صهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مُصنّع الطائرات من دون طيار، على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، صوراً له مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ووجد الشعب التركي نفسه فجأةً ضد روسيا.
في البداية لم أجد مبرراً لنشر هذا النوع من الصور التي لا تناسب الأسلوب الدبلوماسي خصوصاً في هذه الظروف الحرجة، ثم تبين أن بيرقدار باع أوكرانيا 24 طائرة من دون طيار جديدة من طراز "سيها" (SİHA) (أكدت مجلة الإيكونوميست هذه المعلومة أيضاً).
ومن المحزن أن مصالح دولة بأكملها كان يضحى بها ليربح صهر سياسي يستبد بمقدرات شعب مغلوب على أمره. لحسن الحظ، تدخل دبلوماسيون عقلاء، وكتّاب حكماء فتعاملوا مع هذه الأزمة بعقل سليم، وصرحوا بأن هذا الموقف كان خاطئاً وخطيراً.
ولا نعرف ما إذا كان أردوغان تدخل في الأمر، بعدما أدرك هذا الخطأ، أم أنه أراد أن يلملم الوضع بعد حصوله على ثمن هذه الطائرات.
مهما يكن الأمر، فإن اتصال أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان خطوة إيجابية في سبيل تدارك الوضع وضبط الأمور.
كما أن إقناع وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو نظيريه الأوكراني دميترو كوليبا والروسي سيرغي لافروف بعقد اجتماع في أنطاليا، كان خطوةً إيجابية لاقت ارتياحاً شعبياً في تركيا.
يمكن القول إنه، بعد وقت طويل، وللمرة الأولى اتخذ أردوغان خطوة صحيحة بالتحول عن خطأ خطير في اللحظة الأخيرة.
نعم، هناك في أوكرانيا وضع إنساني مفجع وإذا واصلت موسكو الحرب، فستزداد المعاناة. لكن الحقيقة هي أن المشكلة أكبر من أن يتم حلها من خلال بيع تركيا طائرات من دون طيار إلى أوكرانيا. وربما يؤدي إلى العكس، وتفاقم الوضع، الذي لا يزال ضبابياً ولا أحد يستطيع أن يتنبأ إلى ماذا ستؤول الأمور.
كان من الأفضل لتركيا أن تظل محايدة في الوقت الحالي، وأن تحافظ على علاقاتها مع البلدين على قدم المساواة. وهو ما أصبحت تفعله حالياً. لم يكن أحد يتوقع اندلاع هذه الحرب، وبعدما بدأت، اعتقد باحثون استراتيجيون أنها ستنحصر في منطقة دونباس، لكن الجميع فوجئوا عندما امتدت إلى كييف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذلك، فإن وقوف أنقرة بمفردها ضد موسكو المستعدة للمخاطرة، من شأنه أن يجلب الدمار لتركيا.
ما يجب على أنقرة أن تفعله هو الالتزام بالاتفاقيات الدولية.
وبالنظر إلى الوضع الجيوسياسي الحالي لتركيا وعلاقاتها مع كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وروسيا وأوكرانيا، يجب عليها أن تتبع سياسة متوازنة.
إضافة إلى ذلك، ينبغي على تركيا أن تتصرف من خلال النظر في أولوياتها قبل الانحياز إلى أي طرف، لأنها دولة تعتمد على الطاقة وتؤَمّن أكثر من 50 في المئة من احتياجاتها من الطاقة، من روسيا.
ويُعد الاعتماد على الطاقة الأجنبية، من الأسباب المهمة التي تضيّق مساحة التحرك في السياسة الخارجية. ومن غير الممكن أن نقول "لنتوقف عن استيراد الطاقة"، فقطاع الصناعة وتدفئة المنازل يعتمدان على الطاقة المستوردة. وإذا توقفنا عن شراء الطاقة من روسيا، فإن الأمر سيستغرق وقتاً حتى نجد مصدراً للطاقة بالحجم الكبير ذاته في بلد آخر.
إذا أرادت تركيا أن تكون دولة نشطة في منطقة أوراسيا لأسباب اقتصادية وسياسية، فعليها أن تحافظ على علاقاتها مع روسيا عند مستوى معيّن. والأمر سيان بالنسبة إلى علاقاتها مع أوكرانيا أيضاً. فلن يكون من الصواب لتركيا، التي تعاني من خلافات مع جيرانها، أن تقطع علاقاتها مع هذين البلدين.
ولا ننسى أن موسكو تعمل على زيادة نفوذها في الوقت الحالي، على الدول التركية الواقعة في منطقة أوراسيا أيضاً، وذلك يحتم على تركيا أن تعتمد سياسة خارجية متوازنة، حتى تحافظ على مستقبل علاقاتها بهذه المنطقة.
تُظهر لنا خطوات أنقرة الأخيرة أنها قررت سياسة الحفاظ على الحياد. آمل ألا ننخدع هذه المرة.